عندما تغيب البصيرة
منى البوخمسين
شاءت قدرة الله تعالى في هذا الوجود خلق الإنسان وأن يجعل له عقلا يميزه به عن سائر المخلوقات، وقد جعل الثواب والعقاب على حسب ما يعقل، فعن أبي جعفر عليه السلام قال: لما خلق الله العقل استنطقه. ثم قال له: “وإياك أعاقب وإياك أثيب” الكافي (كتاب العقل والجهل)
فالعقل إذن هو الموجه لحركة الانسان البيولوجية والديناميكية نحو التكامل والعلو بعيدا عن الانحلال، وهو خلق محبب الى الله تعالى، وممدوح صاحبه كذلك.
والتفسير اللغوي للعقل من معجم المعاني الجامع والمعجم الوسيط هو مشتق من فعل عَقَلَ، وعَقَلَ الوَلَدُ: أَدْرَكَ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ وميزها. وهناك للعقل قوى في اتجاهات مختلفة منها :
الاول: قوة ادراك الخير والشر وهو بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.
الثاني: قوة تعمل في اختيار الخيرات والمنافع واجتناب الشرور و المضار.
الثالث: قوة إرشادية توجيهية للعاقل الذي يجعل من حياته توافق الشرع والقانون و تسمى في هذه الحالة بعقل المعاش وهو ممدوح وإذا استعملت في الامور الباطلة والحيل الفاسدة تسمى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع . *الكافي
ولو نظرنا في التفاسير لوجدنا أن كلمة العقل في القرآن الكريم لم ترد بصيغتها المباشرة هذه، ولكنها وردت بعدة صيغ منها (تعقلون ونعقل) وقد وردت فيما يقارب الخمسين موقعاً من القرآن الكريم و معظمها تشير إلى التمييز بين الحق والباطل على حقيقتيهما، وذلك خلال التفكر في ملكوت السماء و الأرض، و مخلوقات الله الأخرى. قال تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون)*242 البقرة، و إذا أخذنا مرادفات العقل الأخرى، فإننا نجد القرآن، قد تناولها من مثل: (يتفكرون، يتدبرون، و يحكمون) إذن فارتباط التفكر و التدبر والحكمة بالعقل بلا شك يؤكد الحاجة إلى الوعي والبصيرة الذي منشأها العقل الواعي المدرك في كل ما يتعامل معه الإنسان مما يحيط به في مجتمعه، وهذا يجعل العقل ليس خلقا مجردا من الموجودات الأخرى وإنما مرتبطا بها ومؤثرا فيها.
وما نعيشه الآن من الفرقة و تعدد الانتماءات الفكرية والعقدية، إلا بسبب تشعب الناس إلى طوائف مختلفة تتحكم فيهم الأفكار المنحرفة عن جادة الحق، بالرغم من كونهم تحت مظلة واحدة وهي مظلة الدين الإسلامي. الذي هو واقعا ومن المفترض أن يربطهم بالوحدة و الأخوة و العيش بسلام و هو ما دعا إليه الله تعالى في محكم كتابه بقوله: (إنما المؤمنون أخوة) *10 الحجرات وقال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) *103 آل عمران، و من ينظر بنظرة ثاقبة فاحصة للأشياء هو من يستطيع أن يضع الأمور في نصابها ، وأن يقيس بميزان العدل و الإنصاف، وعنده القدرة على ادراك الحق من الباطل، فتكون نظرته للآخر نظرة فيها إنسانية وعلى أنه نظيرا له في الخلق أو نظيرا له في الدين ،والكل سواسية لا فرق بين أسود وأبيض إلا بالتقوى.
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” الناس سواسية كأسنان المشط ” فمن هذا المنطلق يتعايش الناس في ظل العدل والتراحم فيما بينهم والمحبة و عدم التدخل في شؤون بعضهم ، وما يحصل الآن في زمننا الحاضر من فوضى عارمة وحروب هنا وهناك، إلا بسبب غياب العقل التوجيهي للخير والانصياع للأهواء وتغليب حب الذات على المصلحة العامة الذي تحوله إلى وحش كاسر يقتل ويريق الدماء ويسلب وينهب ويدمر كل ما يواجهه دون أن يهتز منه شعرة أو يندى له جبين، فيكون قانون الغاب هو المسيطر، والقوي هو من تكون يده فوق الجميع لاغيا كل ما جاءت به الرسالات السماوية من الدعوة إلى المحبة والسلام.
وبالتالي فإن ما نراه من تمزق في الأمة الإسلامية هو نتيجة من يتعامل بقلب لا يعقل الحق، وأعين لا تبصر النور، وآذان لا تسمع إلا صوت الباطل، فهو أعمى بصيرة قد صمت آذانه عن سماع الحقيقة والعمل بها.
قال تعالى: ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) *الفرقان 44
ولو عمل الإنسان بوظيفته الحقيقية في هذه الحياة الدنيا القصيرة و الفانية، و نظر إلى تحقيق الهدف الأساسي الذي من أجله خلق الله تعالى الكون؛ لقام بعمارة الأرض وإنمائها و حافظ على ما أودع الله فيها من خيرات و استغلها في انماء البشرية في كافة المجالات و لعمل من أجل ارتقاء و تطور و رفعة الإنسانية.