أقلام

حكايات من عبق والدي حسين النمر (ج4)

رباب حسين النمر

دار الحديث حول ممارسة الخياطة، ومعه تساؤل: هل مارس والدي الخياطةفي الأحساء، وكيف تعلم مهنة الصياغة!
فحدثني قائلاً:
(بالنسبة لي لم أمارس الخياطة، وتعلمت صنعة الصياغة في الدمام على يد العم يوسف النمر، حيث كان يدربنا عملياً على عمليات الصب، ثم ترقيق الذهب المصبوب إلى شرائح رقيقة وأسيام تستخدم لزخرفة المصاغات وتزيينها)
وتجرنا دفة الحديث لزاوية مهارة اليد الأحسائية التي ساهمت في تأسيس مجتمع لديه اكتفاء ذاتي، فكان ثمة سرد ماتع:

(كان الصاغة والفلاحون في الأحساء يعتمدون في أداء عملهم على العدة المصنوعة يدوياً في الأحساء، فقد كان الحدادون ورجال الصنائع يصنعون المسحاة والصخّين الذين يسوون به التربة ويحفرون به القنوات، وكذلك المحش وهو سكين طويلة فيقصون بها الأعشاب الطويلة وينظفون به الأرض من الوجم، ويستخدمون محش معقوف لبطاط النخل وقص الكرب وترتيبه، ويستخدمون المخرف المصنوع من الخوص لتجميع الثمر مثل الرطب والتين، وكذلك القفص المصنوع من أعواد السعف، ويستخدمون المرحلة وهي أكبر من الزبيل، ويخزنون التمر في المحصن الذي يحمل كمية كبيرة من التمر، كل هذه أواني من الخوص لحمل المحاصيل صنعتها اليد الأحسائية الماهرة، والاختلاف فيما بينها فقط في أحجامها.
ويصنع من ليف النخلة حبال تستخدم للكر الذي يساعد الفلاح على صعود جذع النخلة لئلا يسقط.

وكذلك كان الصاغة يستخدمون معدات معروفة مثل المقص وماكينة الجر التي تمرر من خلالها صفيحة الذهب بعد صبها فترققها، أو للزخرفة وتشكيل الذهب، وهناك أنواع مختلفة من المقصات، والدوّة المصنوعة من الطين ارتفاعها حدود ٣٠سم وتركب لها مروحة هوائية، وتشعل بالنار وتستخدم لصب الذهب وتشحيمه. والكوبجة وهو إناء صغير لصب الذهب، وسمبج لقص الذهب ومرد حديد لصناعة كور للمرتعشات وتشكيل الذهب، والسنابچ لقص الذهب وتكرار الشكل أو تشكيله. ومنشار ضعيف لقص الذهب، ورؤوس تثبت على أنبوبة الغاز تستخدم لتحديد حجم النار التي يحتاجها للتلحيم أو خلافه. كل تلك الأدوات كانت تُصنع محلياً بالأحساء)

هنا اتجه بنا منعطف السرد إلى وصف الحي الذي كان والدي يقطنه بالمبرز، وأبرز سمات الحياة في ذلك المكان، قال والدي:

(كنا نسكن حياً في المبرز هو حي الشّعبة الذي تتخلله دكاكين الصاغة حيث كانت بسيطة آنذاك، وكان بعض الصاغة يصوغ الفضة، والبعض الآخر الذهب، والبعض يقوم بشراء الزري والكرامك القديمة، ويحرقونها لأن الزري إذا كان أصلياً فرنسياً فخيوطه من فضة مطلية، فهم يحرقونه ويستخرجون منه الفضة.
والبعض يكنس مخلفات صياغة الذهب ويجمع الكناسة لمدة عام كامل تقريباً، فيشتريه منه من يقوم بتصفية التراب واستخراج الذهب وصبه في سبيكة صغيرة.
وكان لكل دكان كناسة خاصة به، فالدكان الكبير تكون نتيجة كناسته أكبر من الدكان الصغير.


وكانت بالقرب منا (براحة القوّارة) وفيها دكاكين عامرة بالعمل، وسكة توصل إلى( براحة السدرة) وما بين هذين البراحتين دكاكين صاغة مثل حسين السمين رحمه الله، ومنهم من يصفي الذهب مثل موسى المحمد علي وبو منصور المحمد علي، ومنهم من يعمل في تيزبة الذهب وهي تصفية الذهب من كل العوالق وإعادة ذهباً صافياً عيار ٢٤ مثل محمد الحميد والد بو ثابت، ومحمد الصاغة والد جمعة الصاغة.
ولذا ترى القوارة عامرة وفيها دكان عبدالله والد محمد بومنيح، ودكان حسين السمين والد الشيخ عبد الرسول، وبجانبهم سكة الحسينية الجعفرية، ودكاكين السكة النازلة إلى براحة السدرة دكان ناشي المهنا وبوياسين بو رقيو. وما بين الصياغة والخياطة والتصفية وبين مختلف الأنشطة التي يمارسها الصاغة كانت الشعبة تعج بالنشاط والحيوية.

كان المجتمع في الشعبة مجتمعاً حيّاً متكامل العناصر، فتجد المساجد عامرة بالصلوات ممتلئة بالمصلين، والناس يتجهون إلى الصلاة، وبها حسينية السادة والحسينية الجعفرية التي تقرأ طوال العام وهي عامرة بالقراءة بعد صلاة المغرب، وفي الصباح في وقت مبكر، وفيها حسينيات أخرى مثل حسينية المهنا.

وفي أيام محرم تنتظم القراءات الحسينية والعزاء.

وتمتاز الشعبة بوجود مجالس العلماء والإفتاء واستقبالهم لاستفسارات الناس الدينية وحل بعض مشاكلهم الاجتماعية مثل الخلافات الزوجية، أو الخلافات الأخوية، وتمتاز بتواجد السادة مثل سيد محمد حسين القاضي رحمه الله، وسيد محمد علي، وسيد ناصر وكان علماء الشعبة يذهبون للمجاورة في النجف الأشرف، ثم يعودون للأحساء فيستفيد من علمهم وعطائهم المجتمع.

وفي الشعبة الملالي مثل ملا داود الكعبي وملا عبدالله زيد وملا ناصر النمر والملا السيد محمد حسن الشخص.

الشعبة كانت منطقة حيوية فيها النخيل والمزارع والنشاط والمجالس والحسينيات، والصياغة مجالس المخايطة، والأنشطة التجارية وصناعة المرتعشات مثل ياسين السمين، وإبراهيم الصاغة وحسين السمين، الذين ينقلون إنتاجهم إلى الرياض ويسوقونه هناك، وتصلهم طلبات من الرياض يقومون بتوفيرها، وكانت الحالة الاقتصادية نشطة ومنتعشة، هذه حقبة جميلة عشتها وعاينتها بنفسي.

يتبع ….

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. ندعوا الله للأخ أبو احمد النمر بالصحة والعافية.
    لديه (ما شاء الله) قدرة تصويرية جميلة, حيث يأخذنا معه في جولة في ارجاء الجي وابرز المهن. واعطانا (مشكورا) صورة عن الصايغ الأحسائي: بأنه يعتمد على نفسه بتصنيع ما يلزمه من معدات ولوازم العمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى