أقلام

رفقاً بالعاشقين رفقاً

وفاء علي بو خمسين

في شهر صفر من كل سنة تبدأ رحلة العشق والسير في الطريق المؤدي إلى أعظم رمز من رموز التضحية والفداء، ألا وهي رحلة المشي على الأقدام من جميع المناطق العراقية وبالخصوص من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، حيث دفن فيها سيد الشهداء “الحسين بن على” عليه السلام لزيارته والسلام عليه واستلهام العظة والعبرة.
خرجنا من مدينة النجف للطريق المؤدي إلى كربلاء حيث بدأنا المسيرة من العمود رقم ثلاثين، وعلى طول الطريق هناك أعمدة مرقمة تفصل بينها مسافات متساوية تعطيك المسافة التي قطعتها وكذلك عندها محطات وأماكن معينة إذا كنت تقصدها تسهل عليك الوصول إليها.
كان الوقت ظهراً، مشينا قليلاً ودخل وقت الصلاة، الجميع واقف على قارعة الطريق ويدعوك للضيافة، دخلنا إحدى المزارع على جانبي الطريق.. المكان مهيأ ونظيف، ظل وماء توضأنا وصلينا ثم جلبوا لنا طعام الغداء الأرز والروب الطازج اللذيذ شكرناهم على كرم الضيافة وانطلقنا…. ارتفعت الشمس قليلاً وتحسن الجو وبدأ توافد الناس وكأنك في كرنفال عظيم، البشر من جميع أنحاء العالم، من دول الخليج ومن لبنان واليمن وسوريا ومن إيران وأوروبا والباكستان الأفغان والهند، من طبقات وإثنيات مختلفة، منهم الغني والفقير، الصغير والكبير فرادى أو عوائل، مواكب وجماعات… كأن الناس تساق إلى محشر، وخلال سيرنا هناك الكثير من الفعاليات المتنوعة على جانبي الطريق يشرف عليها ويقدمها مواكب من مختلف الجنسيات ولكن الغالبية من العراقيين. الخدمات الثقافية والتعليمية مثل مجالس لختمات القرآن الكريم، مسابقات فكرية وثقافية، مراكز إرشاد وفتاوى شرعية ومواكب متحركة بمختلف الأناشيد الولائية.
أيضاً المشاهد التمثيلية لمعركة الطف… قافلة من الجمال والديكورات والملابس والاستعدادات المتكاملة، إنه مسرح مفتوح بكل ما تعنيه الكلمة، وكذلك معارض فنيه تشكيلية ومعارض توثيقية لصور من الحروب الثلاث التي مرت على العراق وصور شهداء المعارك مع داعش، وغيرها من المجالات المتعددة في مختلف الميادين. هناك العديد من الأركان خصصت للتبرعات التي يعود ريعها للأسر المحتاجة والأيتام والمرضى.. إلخ….
هذا إضافة إلى الخدمات العلاجية المتنقلة والإسعاف والصيدليات طوال الطريق وعلى مدار الساعة، ومراكز التدليك اليدوي أو بالأجهزة الكهربائية، وتكثر هذه المراكز العلاجية في الربع الأخير من الطريق حيث يشعر معظم الزوار بالتعب والإجهاد.
الشعب العراقي المضياف الذي وهب وقته وجهده وماله في إقامة هذه المواكب والمخيمات لخدمة الزائرين ورعايتهم بكل رضا ورحابة صدر وحسن الوفادة وبمشاركة الأيدي الخيرة المحسنة من جميع الجنسيات. الشمس والهواء والتراب وهناك الماء ثم الماء ثم الماء يوزع على السائرين طوال الطريق.
حان وقت صلاة المغرب توقفنا عند أحد المخيمات للصلاة وأخذ استراحة. المكان مهيأ لاستقبال أعداد ليست بالقليلة…. بعد الصلاة تناولنا وجبة العشاء بأيدي محلية مباركة. واصلنا بعدها السير إلى الساعة الحادية عشرة ليلاً، لابد من التوقف للنوم، نظرت حولنا كان هناك مبنى كبير، قلت لزوجي لننم هنا … دخلت أنا في القسم المخصص للنساء وزوجي مع الرجال، فتحت الباب كان في المدخل حراسة نسائية وتفتيش لضمان سلامة الزائرين، بعدها مشيت في ممر طويل في آخره من الجانب الأيسر؛ حمامات للسباحة ومغاسل للوضوء وكذلك ست غسالات كهربائية لغسل الملابس وتنشيفها. الطريق بالسيارة من النجف إلى كربلاء يقطع في ساعة تقريباً، ولكن المشاية يقطعون الطريق مشياً على الأقدام تقريباً في ثلاثة أيام حسب العمر واللياقة البدنية، ولذلك يدخلون هذه الاستراحات والمخيمات ويستحمون ويغسلون ملابسهم وينامون، لكي يتمكنوا من مواصلة المشي في اليوم الثاني. ولنرجع إلى مبنى المبيت: آخر الممر يفضي إلى غرفة كبيرة وطويلة في زاوية منها فرش وبطانيات ووسائد، مكومة تصل إلى السقف كلها جديدة ونظيفة، كلٌ يأخذ ما يحتاج ويفترش الأرض ويضع بجانبه أغراضه الشخصية … جلست على الفرشة كانت بجانبي عن اليمين واليسار العديد من النساء، التي بقربي معها فتاتان شابتان جميلتان تتكلمان بلغة لم أفهمها، سلمت عليها وسألتها من أين أنت ؟؟ردت علي بالعربية و قالت: أنا عراقية من “الشبك “وهذه ابنتي وابنة أختي، جئنا للزيارة، ولكن ما هذه اللغة التي تتكلمون بها قالت: نحن من الشبك نعيش في شمال العراق بالقرب من الموصل ولغتنا مزيج من الكردية والفارسية والعربية، إذا أنت من كوردستان؟؟ قالت : لا ، يا ليت، كوردستان أفضل حالاً من بلدتنا، ثم التفت الشبكية إلى المرأة التي بجانبها وسألتها: هل أنت مسيحية؟ فردت عليها أنا عربية مسلمة من عرب الأهواز بلدنا موجودة في محافظة خوزستان جنوب غرب إيران على ضفاف النهر. ولكن لماذا ظننتي أنني مسيحية؟ قالت الشبكية: من شكلك وطريقتك في اللبس، وأردفت قائلة: لا تستغربي من سؤالي فالمسيحين يأتون مثلنا سائرين على الأقدام لإحياء هذه الشعائر. وعندنا في البلد عوائل كريمة من الطائفة المسيحية إخوة لنا وجيران منذ القدم. التفت إليَّ وقالت وقد انتابها بعض الريب، من أين أنت؟ ذكرتني لهجتك بشيء!!! لماذا لا تتكلمين مثلنا؟؟ فأجبتها هذا هو كلامي!! أنا أتكلم العربية وأنا من السعودية، من بلاد الحرمين الشريفين، فقالت حياك الله ومرحباً بجميع الزائرين … بعدها أخذني الفضول وسألتها: قلت: إن بلدتكم بالقرب من الموصل فهل هجم الدواعش على بلداتكم وقراكم؟ وهل تضررتم من المسلحين وآذوكم؟؟ وكأنني قلبت عليها المواجع وفتحت جرحاً نازفاً لم يندمل بعد، قالت لقد أذاقونا الويلات، هجموا على بلداتنا وترك معظم السكان بيوتهم خوفا من إرهاب المسلحين وبطشهم، ولكن بعد تحرير الموصل عاد أغلب السكان إلى قراهم. لقد فقدنا الكثير من أهلنا وقرابتنا، الرحمة لأرواحهم التي صعدت الى السماء، آه من تلك السنوات، كلها ألم وحزن لفراق الأحبة. قلت في نفسي ليتني لم أسألها يجب أن أغير الموضوع… فسألتها إذا جئتم إلى كربلاء ماذا تأخذون كهدايا؟ قالت نشتري المسابيح المحلية الصنع وبعض التذكارات، وكذلك نشتري السكر بكميات كبيرة ثم نوزعها على الأهل الذين يأتون ليهنؤننا بسلامة الرجوع للبلد سالمين. مضى الوقت ونحن نتجاذب أطراف الحديث سألتني إذا كنت أسكن بالقرب من مكة المكرمة أو من المدينة المنورة وأنها قد سجلت لأداء فريضة الحج ولكن لم يأتها الدور بعد … ثم قلت لها: تصبحين على خير أختي دعينا ننام قليلاً سيطلع الفجر قريباً… عند الفجر صلينا وانطلقنا بعد أن شكرنا القائمين على حسن الضيافة. والجدير بالذكر أن الأغلب من المشاية يشاركون مادياً وميدانياً ومعنوياً. كان المشي في الفجر وقبل شروق الشمس من أجمل اللحظات، إنه طريق الأولياء والصالحين، إنها ولادة في عالم آخر، وكأنك هجرت هذا العالم ورجعت لبداية الخلق تمشي على رجليك وتشارك الإنسانية جمعاء في هذه التجليات والأجواء الروحانية، إنها أنوار وأسرار لن يعرفها إلا من مر بهذه الرحلة العرفانية. “رفقا بالعاشقين رفقا” هذه المقولة يجسدها الشرفاء والكرماء من الشعب العراقي للسائرين على طريق العشق الحسيني من الرعاية والعناية والخدمات الجمة للزائرين.

من ذكريات مسيرة زيارة الأربعين 16 صفر سنة 2019

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى