أقلام

رباط المودة


منى البوخمسين

من الأمور الرائعة لتعامل الإنسان في مجتمعه أن يجد له طريقا يقربه إلى من يريد أن يظهر له وده ومحبته ومشاعر الوفاء والإخلاص، فهناك على سبيل المثال الكلمة الطيبة، و مساعدة المحتاج، وكذلك التهادي.

إن التهادي من الأمور التي تعارف عليها البشر قديما، وقد ورد في القرآن الكريم ذكر هدية ملكة سبأ بلقيس حينما أرادت أن تهادي نبي الله سليمان عليه السلام حيث قال تعالى:) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُون([1] فأرادت استمالة قلب سليمان لدفع الضرر عنها، وعن قومها وأن تحافظ على عبادتهم الوثنية حيث كانوا يعبدون الشمس، وأن تبعد تهديده عنهم، ولكن نبي الله سليمان عليه السلام لم يقبل هذه الهدية، لأنها لم تكن لوجه الله تعالى، بل لأغراض دنيوية، وهي وإن كانت بمسمى هدية، إلا أنها مبطنة الأغراض، وإنما هي أقرب إلى مسمى الرشوة، فردها النبي سليمان عليها، قال تعالى:)فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ( [2]فبين لهم أنه يريد الجهاد وإقامة دين التوحيد قال تعالى :)ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ([3] فأنبياء الله المرسلون بدعوة التوحيد لا تغرهم الهدايا أو الأموال أو تغير من أهدافهم، بل من يكون همه الدنيا وزخرفها هو من تفرحه الهدية أمثال قوم سبأ.

ومن أمثلة الهدية التي تجلب المودة والمحبة، ما قدمه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة، عند هجرة المسلمين الى الحبشة، وارسل اليه الكتاب الذي يدعوه الى الدين الإسلامي، فكان إنه أعلن إسلامه.

والهدية ما يُقدَّم للشخصٍ من الأشياء إكرامًا له وحُبًّا فيه أو لإظهار حسن النوايا أو السلام وما شابه لوجه الله تعالى دون إرادة مصلحة شخصية وإلا فقد يتغير مسماها إلى رشوة و قد أنكرها الدين الإسلامي بقوة ولعن من يتعامل بها لما لها من آثار سلبية على المجتمع وفساده، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ـ في حديث ـ قال : وأما الرشا في الحكم ، فهو الكفر بالله.” [4]

و في الفقه نجد معناها: تقديم عين إلى شخص ما على سبيل التمليك بلا عوض [5]

وتعتبر مفتاحا للقلوب، بما تدخله من بهجة وسعادة على قلوب المهدى لهم، ولها قيمة معنوية عظيمة ألا وهي ـ الحب في الله – لأنها تقدم غالبا لأشخاص تربطنا بهم علاقة ودية بنية التقرب إلى الله تعالى ونيل الأجر والثواب، قال رسول الله (ص): }الهدية تورث المودة وتجدرَ الأخوة وتذهب الضغينة, تهادوا تحابوا { [6] ففي الحديث إشارة إلى أهمية الهدية ومكانتها وعظيم تأثيرها، وقد حثت السنة النبوية عليها بشكل عام، ولم تحدد نوعيتها أو قيمتها المادية بل جعلته على قدرة الشخص المهدي وعلى حسب شخصية المهدى إليه، فالهدية المقدمة للوالدين مثلا تختلف عن الهدية المقدمة للزوجة أو الأبناء أو الأصدقاء, وكذلك فهي تختلف بحسب المناسبة التي تقدم فيها، وقد استحدثت في عصرنا الحالي عدة مناسبات للهدية مثل : عيد الأم وعيد الحب وعيد الميلاد وبمسميات مختلفة لتكريم صاحب المناسبة، في حين أن الدين الإسلامي قد حث عليها من بداية الدعوة و بين ما فيها من الأجر بدون أن يحدد لها وقت معين وإنما تهدى في جميع الأوقات، فالأم مثلا تستحق التكريم من أبنائها بدون مناسبة محددة لبيان قدرها عندهم، ومن الجميل أن يعود الآباء اولادهم على تبادل الهدايا بينهم لأن الأسرة لديها القدرة على إظهار هذه المشاعر التي تترك أثرا في نفوسهم.

و لا يشترط فيها التكلف بشكل يرهق المهدي، بل المقصود هو تبليغ رسالة محبة من مقدمها، بأن من قدمت له يحتل مكانة مميزة في قلب من أهداها له، ومن ثَمّ فإن تأثيرها يكون سريعا إلى القلب.

وغالبا ما تكون شيئا ماديا، ولكنها أيضا قد تكون شيئا معنويا، فكل ما يدخل السرور على الآخرين هو من قبيل الهدية نقدمها لمن نريد إسعادهم من الأهل أو الأقارب أو الأصدقاء، فهي تزيد المودة، والحل الأمثل للقضاء على العداوات والضغائن، كما أنها وسيلة تعبير جيدة عن تقديرك واعتزازك لمن تهديه وهي رمز له عدة معان ذات قيمة عظيمة تشيع بين النفوس الألفة والتقارب وفتح علاقات جديدة وصداقات متينة.

وهي قيمة اجتماعية متوارثة عرفت منذ نشأة العلاقات الانسانية، فهي سلوك انساني يُعَود على المشاركة والعطاء وخلق جوا له القدرة على حل كثير من المشاكل والمتاعب في المجتمع.

ولا يقتصر تقديمها للأحياء لتبليغهم رسائل الحب والوفاء وإنما يكون تأثيرها أكبر إذا قدمت لمن رحلوا عنا ولم يغيبوا وإنما بقيت أرواحهم التي تنتظر هدايا محبيهم وذاكريهم على اختلاف اشكالها باستمرار قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : }مثل الميت في قبره مثل الغريق يتعلق بكل شيء ينتظر دعوة من ولد أو والد أو أخ وانه ليدخل على قبور الأموات من دعاء الأحياء من الأنوار مثل الجبال, وهو للميت بنزلة الهدايا للأحياء، فيدخل الملك على الميت معه طبق من نور عليه منديل من نور فيقول: هذه لك من عند أخيك فلان، و من عند قريبك فلان فيفرح كما يفرح الحي بالهدايا { وقال الإمام الصادق عليه السلام: }يدخل على الميت في قبره الصلاة والصوم والحج والصدقة والبر والدعاء ويكتب أجره للذي يفعله وللميت{[7].

إذن الهدية ليست في قيمتها المادية إنما في قدرتها التعبيرية عن المشاعر الإنسانية فالإنسان يحتاج الى الدعم النفسي المستمر وخصوصا من أقرب الناس إليه في صور مختلفة تشيع البهجة وتضفي نوعا من التعبير عما تحمله النفس من مشاعر طيبة وجليلة ذات قيم انسانية لها التأثير الفعال في بناء المجتمع المترابط والمتحاب وتضفي على أرواح الأموات السعادة و الأنس والراحة.

 

[1] ـ النمل آية 35

[2] ـ النمل آية 36

[3] ـ النمل آية 37

[4] ـ المكتبة الشيعيةـ تفسير الميزان ـ السيد الطبطبائي ـ ج 5 ـ ص 361 http://shiaonlinelibrary.com/

[5] ـ النت ـ موقع المعاني لكل رسم ـ معجم المعاني الجامع ـ .almaany.com/ar/dict/ar-ar/هدية/

[6] ـ المكتبة الشيعية ـ بحار الأنوار ـ ج 74 ـ ص 166 http://shiaonlinelibrary.com

[7] ـ الشيخ/ يوسف البحراني ـ حققه/ محمد تقي الايرواني ـ الحدائق الناضرة في احكام العترة الطاهرة ـ الطبعة الثانية ـ 1405هـ ـ دار الأضواء ـ بيروت

 

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى