أقلام

الملّا ناصر الخميس ..الخطيب البكّاء

بقلم: عبدالله إبراهيم البحراني

من البشر من تُخلده أعماله وخلقه. وشخصيتنا من الذين عاش هموم الناس، وسعى جاداً في حلها أو التخفيف من آثارها. وكان (رحمه الله) مقرباً من العلامة السيد ناصر بن السيد هاشم السلمان، وموضعاً لثقته. فقد أوكل السيد إليه (وإلى المرحوم الحاج طاهر الناصر المبارك) أخذ وكالات عقود الزواج لأهل حي الشَعَبة. ويُعدُ من خطباء المنبر المعروفين. وهب الله الملا ناصر الخميس القدرة على كسب الأحباب. وهذه من النعم الخفية على العباد.

تعريف بشخصيته
الحاج الملا ناصر بن محمد بن أحمد الخميس (اللويمي)، من مواليد واحة الأحساء عام ١٣٣٢ هجري. تعلم مبادئ القراءة عند المرحوم الملا أحمد ولد زيد. وعندما توفي المرجع الديني آية الله السيد ناصر السلمان عام ١٣٥٨ هجري، كان عمره في حدود السادسة والعشـرين.

ومنذ صباه أبدى ميلاً لخدمة المنبر الحسيني، ولظروف الحياة في ذلك الزمان، فقد أُلزِم بمرافقة أعمامه في مهنة الغوص في البحار ولعدة سنوات. ولم يتوافق ذلك مع شخصيته وميوله، فاستنجد بالمقدس السيد حسين السيد محمد العلي (القاضي) ليتدخل ويقنع أهله وعشيرته ويطلب منهم مساعدته ليتفرغ لخدمة منبر سيد الشهداء، بدل العمل في مجال الغوص. واستطاع السيد (رضوان الله عليه) أن يحققَ لهذا الشاب رغبته. حيث رأى فيه علامات الذكاء، وحبه للنبي الأكرم وآل بيته الأطهار (عليهم السلام). عندها لازم (فارساً) من فرسان المنبر في المنطقة، ألا وهو الخطيب الحسيني الملا ناصر بن حسين النمر، وتدربَ على يديه لعدة سنوات، حتى صُقلت موهبته، واعتمد على نفسه. وأصبح في المنطقة من خدام المنبر المعروفين. تميز بنعيه وخصوصاً عندما يقرأ أبيات الملا عطية الجمري. وكان صوته الرخيم ودموعه الهادرة، وجسمه النحيل، كلها عوامل مؤثرة في المأتم والمستمع.

ومن شمائله، حب المساكين وتقريبهم، والإخلاص التام للعمل، والتواضع الصادق مع جميع الطبقات. ومن نعمِ الله عليه أن رزق بذرية طيبة، حرصَ على تربيتهم على نهج محمد وآله، وكانوا عوناً له في طريق الخيرات. وتلك من النعم الخفية على الإنسان.

ومن أدواره في خدمة المجتمع، أنه عمل (حملاداري) لخدمة زوار سيد الشهداء والسعي في قضاء حوائج المؤمنين. وفي إحدىالسنوات كان في جوار سيد الشهداء (عليه السلام) وأخذ ينعىالحسين (عليه السلام)، مع دموعه الهادرة. وعندما سمعه أحد الزوار العراقين. أعجب بهيأته وصوته الحزين. وقال (إنه أحد عصافير الجنة).

وقفة مع التواضع
وكان (رحمه الله) على مستوى عالٍ من التواضع ونكران الذات. وذَكر لنا الأخ الفاضل أحمد بن الحاج محمد بن ناصر البحراني مثالاً على ذلك. يقول:

(إنه إذا صادف وتأخر أو اعتذر الخطيب الموكل به القراءة في المسجد الجامع بالشعبة، لإحياء وفاة أحد المعصومين، كان القائمون على المأتم يرسلون من يذهب إلى بيت الملا ناصر الخميس، وكنا نطرق الباب، ونطلب منه المجيء للقراءة (حوالي الساعة العاشرة أو العاشرة والنصف). علماً أنه في تلك الساعة يكون (الملا ناصر) قد أوى إلى فراشه. وغالباً ما يكون نائماً. فكان يستيقظ ويستجيب برحابة صدر ويأتي إلى المسجد ويعطي المجلس حقه في تلك (الليلة). وهذا تصرف نادر وفيه درسٌ في التواضع والإخلاص في أداء الرسالة.

وصفه الأديب الأستاذ ناجي بن داوود الحرز بقوله:

أ(أبا جوادٍ) والحيا
ة سجلُّ أيام قلائل
كانت حياتك سلماً
للخلد في أعلى المنازل
كم مأتمٍ لك حافلٍ
بالوجد ما بين المحافل

وفي السنوات الأخيرة، اشترى سيارة من نوع (هايلوكس)، خصصها لتوصيل مرافقيه (المستمعة)، حيث ينقلهم معه من مأتم إلى آخر. حاملاً معه جهاز مكبر الصوت اليدوي (بومحقان). ولم نسمع بمن سبقه بهذا الموقف، حيث يقوم على توفير وسيلة النقل المجانية للمستمعة. سوى الحاج الملا ناصر الخميس.

نهاية المطاف
وفي ٢٦/٤/١٤١٥ هجري شاع خبر وفاة (أبي جواد). عندها شعر المحبون في المنطقة بعظم الفاجعة وألم الفقد، وترك هذا الخبر في نفوس مريديه ومحبيه فراغاً ولوعة. وبمناسبة الأربعين لوفاته، أقيم له مراسم تأبين في ليلة الجمعة، الموافق ٦/٦/ ١٤١٥ هجري، وذلك في الحسينية الجعفرية. وكان مقدم الحفل الفاضل/ السيد محمد بن المقدس السيد ناصر السلمان. وعكس ذلك الحضور الكبير صورة لحبِهم لهذا الرجل.

ورثاه عدد من الأدباء والشعراء بقصائد، ومنهم: سماحة السيد عبدالأمير بن السيد ناصر السلمان. والأستاذ الأديب ناجي بن داوود الحرز.

في ذاكرة المحبين
وسألنا عنه عدداً من شخصيات الحي، وخصوصاً المعاصرين له، ومن الذين لهم معرفة مباشرة به وبعطائه.

وسألنا أولاً: العلامة السيد محمد علي بن السيد هاشم العلي فوصفه بقوله: إن هذا الخطيب مشهور، ومعروف، ومحبوب لدى جميع الطبقات. ولشدة ورعه وتقواه، وحسن أخلاقه، وتفانيه في خدمة أهل البيت، وإقامة شعائرهم، وعلى الأخص المآتم، فهو يبذلُ في إقامتها الكثير. وكان شديد العاطفة لهم، غزير الدمعة لما جرى في مصائبهم، وعلى الأخص على الإمام الحسين (عليه السلام).

ويكمل سماحة السيد حديثه قائلاً :

ويشاهد ذلك منه، في أثناء قراءته. فتراه يقرأ (ويبكي وهو يقرأ)، فهو قارئ ومستمع في وقت واحد (إن صح التعبير). وهذه الخصوصية لم أجدها في غيره من الخطباء. لقد عاش في الخطابة عمراً طويلاً، فقد أدركته وأنا في زمان الصبى، فرأيته يمارس الخطابة حتى آخر عمره. تغمده الله برحمته، وأسكنه الفسيح في جنانه إنه سميع مجيب. انتهى.

ثانياً: سماحة السيد حسين بن المقدس السيد محمد العلي يقول: كان مؤمناً، تقياً، غزير الدمعة على مصاب سيد الشهداء. وعرفنا عنه حبه وإجلاله لذرية رسول الله. ومن عاداته إقامة مأدبة سنوية لهم. وله جهود أخرى في مساعدة الفقراء والأيتام.

ثالثاً: الحاج عايش بن محمد الدجاني، وكتب عنه يقول:
ماذا عساي أن أذكر عن هذا العبد الصالح، حيث يعجز لساني عن وصف هذا الموالي المحب لأهل البيت عليهم السلام. ويكفي أن من صفاته، أنه وبمجرد أن يصعد المنبر، تنهمر دموعه الطاهرة. وطالما تمنيت لو أخذت من تلك الدموع، ومسحت بها على جسمي. وخصوصاً على شفتيّ ونحري، لتسهيل خروج روحي من جسدي. وأذكر في أحد الأيام أن الموالي عباس المحمدعلي، أحضـر له دجاجه واحدة، وقال له: (هذه بركة للمستمعة)، وكيف أن الملا ناصر أخذها منه، وأكمل الباقي من جيبه بما يكفي الحضور.

وقصته معروفة عندما أقحمه أحدهم، وطلب منه التوسط ليستدين بوساطته مبلغا كبيراً من المال. ولم يسدد الرجل المبلغ، وعندها قام الملا ناصر مضطراً بسداد كامل المبلغ لصاحب الدين. ولم يشتكِ، أو يرفع مظلمته لأحد. فهل يوجد شخص مثل هذا المؤمن الصابرالمحتسب، والمفوض أمره لربه. اللهم ارزقنا شفاعته يوم القيامة عند محمد وآل محمد.

رابعاً: كما أشار (خادم الحسين في هجر): إلى جانب مهم في شخصية هذا الرجل يقول: إن الملا ناصر الخميس، كان يطبق ما يقوله على المنبر. وكان سخياً، ساعياً في طريق الخير للجميع. فعلى سبيل المثال كان يحرص طوال شهر رمضان على أن يشاركه العشـرات من سكان الحي وغيرهم على مائدة الإفطار. وهذا ليس فقط (مؤشراٌ) على كرمه وبذله، بل على مدى استئناسه وفرحته بلقاء إخوانه المؤمنين.

خامساً: الحاج حسين بن المرحوم حسن بوكنان (حفظه الله) وصفه بقوله: عُرفَ الملا ناصر الخميس على أنه ملجأ وملاذ لذوي الحاجات. ولقد استخدم مكانته ووجاهته لشـراء بيوت لبعض الأسر المعوزة في الحي. ولم يكن يُعطي للماديات وزناً كبيراً، بل عرفَ عنه (رحمه الله) القناعة والمرونة في هذا الجانب. فعلى سبيل المثال كان من القراء المعروفين، لما يعرف بالجزء الأبدي. وكانت أجرة القارئ في ذلك الزمان في حدود الألف ريال للسنة الواحدة، ولكن الملا ناصر الخميس اعتادَ أن يأخذ ما يعطى له. وكان البعض يعطيه ثلاث مائة أو خمس مائة للسنة الواحدة، ويقبلها راضياً. وعندما تقدم به العمر، وعجز عن القراءة بنفسه، اتفقَ مع بعض القراء، للقيام بقراءة هذه الأجزاء. وكان يدفع الفرق من جيبه الخاص. تلك هي النفوس الأبية وسعيها في نفع الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى