أقلام

الذكرى ورحيل خادم البيت علي بن سلمان

تتقافز الكلمات مثل سمك وفير ينتظر سنارة القلم، وقد أصابني الأرق بعد علمي بنبأ وفاة الحاج علي بن سلمان -رحمه الله- بفعل دوافع مختلطة تتسبب للمرء بالقلق حتى يتخلص منها بالكتابة أو يسلو عنها بالتغافل وقد آثرت الكتابة. المكتوب عنه هو “علي بن سلمان” وهو برأيي معلم من معالم سوق الذهب بالدمام، فليست كل المعالم كبيرة في الحجم وبارزة على الشوارع الرئيسية في المدينة، فبعضها تبرز من خلال تفردها وبراعتها وهذا ما تعنيه لي لوحة صغيرة سوداء في سوق الذهب كتب عليها بالأبيض “علي بن سلمان” وعلقت في الطريق الرئيسي من السوق لكي تخطف نظرك فتقودك إلى المكان الذي يقع فيه دكان هذا الرجل.

قبل ستة عشر عاما تقريبا قادتني خطاي إلى السكن في مدينة الدمام وبعد ما يقرب من سبع سنوات صارت لي زوجة من “الصاغة”. وهم مجتمع يشبه العائلة أو تحالف العوائل المبني على المهنة، خلاصة ما يمكنني قوله الآن بعد عامين من رحيل زوجتي إلى رحاب السماء أن هؤلاء القوم هم مزيج من الطيبة والعطاء، وثمة عبارة دارجة يقولها الناس لتقريب معنى التودد بين الانتماءات الإثنية المتباينة على غرار: لو لم أكن ابن فلاح لتمنيت أن أكون فلاحا أو صائغا.

لوحة ابن سلمان الصغيرة هي مجرد تذكير للناسي وتنبيه للغافل وإرشاد للتائه، وإلا فهي ليست نوعا من الدعاية والإعلان، فعلي بن سلمان أكبر وأشهر من أن يحتاج إلى الدعاية والإعلان، هذا ما تقوله لك هذه اللوحة الصغيرة، هي تقول إن من يأتون لعلي بن سلمان هم يقصدونه لشخصه، و هذه اللوحة الصغيرة مثل صبي على الدرب يرشدهم إلى مكانه، فهو قابع في دكان في زقاق صغير، وكأنه يقول لك: لا أحتاج أن أبرز إلى الطريق لأعرض نفسي ومن يريدني ويقدّرني سيأتيني. وقد تبدو هذه السياسة مخالفة للسائد في العرف التجاري، ولكنها كانت تعمل بشكل جيد معه، لأنه نجح في صنع اسم متميز يجذب المريدين لفنه إلى مكانه أينما يكون، وقد رأيت بنفسي أصنافا من البشر تقصده من أماكن متفرقة.

وهكذا ربما يقدر الصاغة في المقابل الذي يأتيهم من مكان بعيد ليخطب سلعتهم التي هي تحفة فنيّة أو ليخطب “ابنتهم”، وهذا ما حدث معي فلم أكن معروفا لديهم حين أتيت من أقصى القرى لخطبة ابنتهم”شمس علي” التي رحلت إلى الله لاحقا في مثل هذه الأيام، إن إتيانك إلى الصائغ قاصدا له دون غيره يعني أنك تقدر ما لديه، وهذا يعني أنك تستحق التقدير. وهذا ما كنت ألمسه من تعامل علي بن سلمان معي ومع بقية الزبائن.

في التاسع والعشرين من السنة الفائتة كانت الذكرى الأولى لرحيل شمس علي وهذه هي الذكرى الثانية لرحيلها تقترب وأنا في حيرة من أمري، فالأيام تمضي وكل سنة ستمر ستختلف عن أختها السابقة، ففي السنة الماضية كان الدمع عزيزا والجرح لما يندمل، وقد كنت حين الذكرى الأولى في مكة المكرمة وبعد أن انتهيت من أعمال العمرة سهرت مع الذكرى في ليلتها أستمع إلى فيروز تغني الفراق وأبكي كما تبكي أم فاقدة، أما في هذه السنة فالدمع جامد، وكأني قد أسرفت حين بكيت في ختام السنة الأولى حتى جففت منابع الحزن.

وكنت قبل أيام أحدث نفسي بأن النسيان سنة الحياة ولا بد لي و لشمس أن نتقبل هذا، وستخبو شمعات الذكرى وتبهت عاما بعد آخر حتى يلفها النسيان تماما. لكن رحيل علي بن سلمان أضاف إلى الذكرى حرارة فالأحزان تتجاوب و كأن الحزن الجديد هو رجع صدى لحزن قديم، وكأن مصائب الإنسانية واحدة، بل كأن الإنسان يتعاطى أحزانه مع الكائنات الحية الأخرى وليس بني جنسه فقط فيقول شاعر البشر حين يسمع نائحة الحمام :
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا لو تعلمين بحالي
أما أبو العلاء المعري حين أصيب بفقد حبيب فهو يخاطب الحمامات ذوات الأطواق مثنيا عليهن بقاءههن على الحزن منذ العصور الغابرة كما تقول الأسطورة إلا أنه يعتب عليهن لبس الأطواق مع حزنهن:
أبَناتِ الهَديلِ أسْعِدْنَ أوْ عِدْ
نَ قَليلَ العَزاءِ بالإسْعَادِ
إيه للّهِ دَرّكُنّ فأنْتُنّ اللْ
لَوَاتي تُحْسِنّ حِفْظَ الوِدادِ
ما نَسيتُنّ هالِكاً في الأوانِ ال
خَالِ أوْدَى مِنْ قَبلِ هُلكِ إيادِ
بَيْدَ أنّي لا أرْتَضِي مَا فَعَلْتُنْ
نَ وأطْواقُكُنّ في الأجْيَادِ
فَتَسَلّبْنَ وَاسْتَعِرْنَ جَميعاً
منْ قَميصِ الدّجَى ثيابَ حِدادِ
ثُمّ غَرِّدْنَ في المَآتِمِ وانْدُبْ
نَ بِشَجْوٍ مَعَ الغَواني الخِرادِ

مرات قليلة جئت هذا الرجل المرح، وفِي إحدى المرات أدركتنا الصلاة فدعاني إلى الصلاة في المسجد الذي يصلي فيه الصاغة في السوق وقال لي مازحا أنه خادم هذا المسجد وهو يخدمه اقتداء بخادم الحرمين الشريفين.

ولَم تكن شمس رحمها الله تمزح كثيرا ولكنها كانت مرحة ولا تحب الكآبة، إلا أن وفاة والدتها رحمهما الله في حجرها هدّ ركنها فلم يطل بقاؤها بعدها، وفِي المرة الأخيرة التي رأيت فيها علي بن سلمان رحمه الله قبل عام تقريبا تحدث فيها عن أمه رحمها الله ومحبته لها، وأظنها توفيت في وقت غير بعيد عن تلك الزيارة، وكانت المناسبة أن زوجتي جاءت لتفصيل قلادة لأمها في عيد الأم فصار يوصيها بأمها خيرا ويتحدث عن أمه ثم قرأ لنا قصيدة نظمها فيها بعد وفاة أمه ونقشها على عصاه، وكانت قصيدة حزينة جرت على إثرها دموعي على خدي، وأظن أنه أخبرنا أن أمه من عائلة الشواف وقال أنها ساهمت في تزويجه. وكنت وزرجتي منزعجين قليلا لأن القلادة التي أوصيناه بعملها لم تكن جاهزة ولكنه اعتذر بحالته الصحية الحرجة في الفترة الماضية وكانت علامات المرض بادية عليه فعلاً فعذرناه كما أن حديثه الشيق كان بمثابة البلسم الذي يشفي الجراح.

في حديثه عن الأم تحدث عن زوجته كأم وعن المفاجأة التي أعدتها ابنته له ولأمها اذ استأجرت استراحة و أشترت الهدايا له ولأمها، فأبى أبو حسين رحمه الله أن يثقل على كاهل ابنته بالمصاريف وأصر عليها أن تسمح له بمشاركتها في التكلفة. ومن هذا الموقف ومن اعتزاز المرحوم بعمله وإنتاجه الفني يتبين لي كم هو عزيز النفس شريف القدر، وهي سمة لمستها في المرحومة شمس فكم موقف لها بان لي منها الأنفة والشموخ و رفض المذلة و لو على حساب الخسارة المادية ومنها استقالتها من الجريدة رافضة أن تعامل بطريقة يجحف فيها حقها ولا يقدر جهدها.

وكانت شمس رحمها الله تنظر إلى مجتمع العنود بطريقة فيها هالة من اليوتوبيا والتقديس مطلقة أوصافا مثل ” المبرز الجديدة” أو النجف الصغرى وكنت أرى في هذه الصورة الطهرانية والملائكية لونا من المبالغة ولكني كنت سعيدا بها في ذات الوقت فخير للمرء أن يكون شامخا واثقا بنفسه معتزا بها، وقد لمست هذا منذ بداية اقتراني بها فلم تقبل مني أي عبارة تمس بشأن أهلها ولو عن قبيل المزاح فاحترمت ذلك منها ولَم يسؤني افتخارها بنفسها وأهلها لأنها كانت تحترمني غاية الاحترام وتبالغ في احترام أهلي.

وأظن أن هذا النمط من التعامل الراقي الذي يجمع بين الشموخ والرفعة والثقة والاعتزاز بالنفس وبمنتجها الإبداعي هو سمة من سمات مجتمع الصاغة، رحم الله الحاج علي سلمان ورحم الله شمس علي، وحفظ الله الأحياء وأدام عليهم ثوب الصحة والعافية. وأسأل الله العلي القدير أن يمن على أهالي المفقودين بالصبر والسلوان وأن يحفظ هذه العوائل الطيبة وأن يزيدها شرفا وعزا ويوفق أبناءها وبناتها لكل خير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى