أقلام

الإنسان الآلة ومستقبله المجهول

 

حسن سلمان الحاجي

في ٢٧ مارس ٢٠١٩م ورد في موقع ديجتال ترند خبر جديد مدهش ومثير للقلق في نفس الوقت، والخبر عن اختراع جهاز استشعار صغير جداً يوضع على أحد الأسنان ويقيس كمية ونوعية الطعام الذي يأكله الانسان ويرسل معلومات مهمة لا سلكياً إلى تطبيق في الأجهزة الذكية، وهذا المستشعر لا يكتفي بقياس كمية العناصر الغذائية التي يستهلكها الفرد، وإنما يخبره إذا ما أخذ الكمية الكافية التي يحتاجها من العناصر الغذائية كالدهون والسكر وغيرها وبالتالي يساعد على تخفيف الوزن والحفاظ على جسم صحي مثالي الشكل، كما أنه قد يخبر مريض الأنيميا مثلاً أن كمية الحديد التي تناولها كافية لذلك اليوم، ليس هذا فقط بل إنه يقيس الحالة النفسية للفرد عبر تحليل المواد الكيميائية الحيوية التي تفرزها الهرمونات مثل هرمون الكورتيزول والذي يشير إلى مستوى التوتر والضغط النفسي الذي يعيشه الفرد.

هذه فقط البداية لما هو قادم من تحويل الإنسان إلى جهاز رقمي يُنتج بيانات عديدة تلتقطها أجهزة الاستشعار- والتي سوف تـتكاثر وتنتشر في جسم الإنسان كما تكاثرت في مجال الصناعة بشكل واسع- هذه المستشعرات والتي تتواصل مع الجهاز الذكي وترسل له معلومات حيوية لكي يستخرج منها بيانات وصفية إضافية Meta-Data ومن ثمّ يقوم بتحليل تلك البيانات ليخبر الفرد ليس فقط عن حالته الصحية الحالية، وإنما يتنبأ بمستوى صحته الجسدية والنفسية المستقبلية، فأجهزة الاستشعار الدقيقة قد تستطيع التنبأ بالسرطان في بذرته الأصلية وقبل وصوله المرحلة الأولى من الإصابة وحتى قبل أن يشعر المصاب بأي آلام، وذلك عبر فحص الخلايا واستنتاج أن عدد بسيط منها بدأ بالتكاثر الخبيث، بينما الانسان نفسه لا يشعر بأي تغيّر طاريء في جسمه، وبالتالي يلتقط الجهاز الذكي المعلومة ويرسل تنبيهات للشخص وطبيبه في نفس الوقت، من هنا يستطيع المريض أن يباشر العلاج قبل أن يستفحل المرض ويغرز مخالبه الفتاكة.
ومع الطفرة التكنولوجية في علم الجينات، التي أخذت تتطور سريعا مع اتساع قاعدة البيانات والتطور السريع في العلوم الحيوية، وتزاوجها مع المعلومات المباشرة التي تقيسها أجهزة الاستشعار كل لحظة يمكن للأجهزة الذكية التنبؤ بأمراض مستقبلية كأمراض القلب والفشل الكلوي والسكر وغيرها وإرسال تنبيهات قبل وقوعها بمدة زمنية.

هذا الجزء المدهش والجميل في الخبر، ولكن الجزء الذي يثير القلق أن هذه المعلومات الشخصية قد لا تبقى محصورة بين الشخص وطبيبه، وبالتالي لو انكشفت لشركات التأمين الطبية أو مكاتب التوظيف للشركات الصناعية والتجارية أو حتى المتقدم للزواج قد تعمل هذه المعلومات ضد الشخص نفسه، فشركات التأمين سوف ترفع سعر التأمين للشخص المعرض للأمراض، والمتقدم للزواج قد يُرفض لإحتمال الوفاة المبكرة، ومكاتب التوظيف قد ترفض المتقدم للوظيفة تفادياً لخسائر الشركة لإحتمال تدهور صحة الموظف في المستقبل، فالانسان في هذه الأيام يُعامل كالآلة المنتجة، فقيمته تساوي قدر إنتاجه المادي، والآلة كثيرة الخراب يتم التخلص منها بآلة جديدة وقوية، وهكذا تـتخلص الشركات من الأفراد عندما يقل إنتاجهم.

لا يقتصر الأمر على قياس الأمور المادية من جسم الانسان وإنما حتى المشاعر أصبحت تُحدد كميتها وتقاس بالأرقام، وقد يتم استغلال هذه المعلومات النفسية المتعلقة بالسلوك والمشاعر والتفكير من قبل الحكومات الديكتاتورية التي تود مراقبة كل فرد بدقة متناهية ومعرفة ما يجول في خاطره فضلاً عما يتفوّه به، فمثلا لو تم توظيف أجهزة الاستشعار الدقيقة وفرضها على كل مواطن في كوريا الشمالية، سوف تـتعرّف التطبيقات على من يحب ومن يكره رئيس الدولة كيم جونغ وذلك عندما يمتعض المواطن عند رؤية صورة الرئيس وهو جالس يشاهد التلفزيون في منزله، ومن ثمّ يُحاسب على هذه المشاعر!
فهل يا ترى تصدق نبوءة جورج أوريل في روايته الشهيرة “١٩٨٤” والتي كتبها قبل سبعين عام وتنبأ فيها بأن التلفزيونات في المستقبل سوف تشاهدنا كما نحن نشاهدها؟

هل سيندفع البشر في تركيب أجهزة استشعار على أجسامهم لكي يراقبوا مستوى صحتهم ويتفادوا الأمراض قبل وقوعها ويبدأوا علاجها في وقت مبكر دون حساب ما قد تؤول إليه تلك المعلومات الخاصة؟
وهل ستبقى هذه المعلومات طي الكتمان لا يعرفها إلا الشخص نفسه وطبيبه؟
وهل سيكون هناك سطو سايبري لسرقة المعلومات الشخصية لتهديد وابتزاز الأفراد؟
وهل سيتم التلاعب بمشاعر الأفراد والسيطرة عليها وتوجيهها والتحكم بالقرارات الفردية عندما يتعرف الذكاء الإصطناعي على سمات الشخصية من خلال هذه البيانات؟

الأسئلة في هذا المجال لا تكاد تُحصى وربما لا ينبغي رسم صورة سوداوية للمستقبل، ولكن التاريخ يحدثنا بأن الإنسان لم يخترع آلة لتسهيل شؤون حياته إلاّ واستغلها في الشرور والجرائم لتحقيق رغباته وطموحاته الشخصية، وأجهزة الاستشعار الجديدة لن تكون استثناءا تاريخياً.

نحن أمام مستقبل مجهول يزداد تعقيداً كل يوم ولا أحد يعرف إلى أين نحن ذاهبون!

________________

* المصادر:
١- رابط المقال عن جهاز استشعار الطعام في موقع ديجيتال ترند: هنا

٢- كتاب: ٢١ درساً للقرن الـ ٢١

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى