أقلام

الأب في يومه العالمي

رجاء البو علي

يختلف تاريخ هذه الذكرى الوالدية كما يختلف شكل العلاقة من جيل لآخر ومن بقعة جغرافية لأخرى، فبعض الدول اتبعت «16 يونيو»، بينما أخرى اعترفت بــ«19 يونيو»، اليوم الذي تم إقراره تتويجًا لدور «سونورا دود» التي أرادت أن تُكرم أباها بعد أن توفيت والدتها وقام بتربية أطفاله الستة بمفرده، فكل عام والآباء الرائعون بخير وصحة وسعادة.

الأب مِداد الإيثار في الحياة  كمجتمعات أبوية، كان الأب ومازال مصدرًا رئيسيًا لإمداد الأسرة اقتصاديًا، فإلى جيل آبائنا على الأقل لم تكن كل الزوجات تمتلك وظائف تشارك بها الزوج تكاليف الحياة كما هو الآن، فاعتُبِرَ الأبُ -في معظم الحالات- هو المصدر الأول لضخ العملة وتأمين الحياة الكريمة لأسرته.

فمنذ بداية تشكيل أسرة صغيرة تبدأ بزوجة وتمتد للأبناء، تبدأ معها رحلة العطاء ولا تنتهي، بل تكبر كلما كبر الأبناء وتتسع آفاقها، ولا يزال الأب ينتظر نهاية الشهر ليقوم بتوزيع ما حصل عليه نظير جهده الشخصي على متطلبات الحياة له وربما لأبنائه أولًا.

فماذا لو أعرض أحد الرجال عن الزواج لأنه لا يريد أن يكون منذورًا للعطاء مدى الحياة؟ هل هو شيء طبيعي؟ إنه سؤال يذكرني بامتناع بعض النساء عن الإنجاب لكي لا تتأثر أجسادهن جرّاء عملية الحمل والإنجاب.

وقد يقودنا هذا التأمل إلى التفكير في فاعلية العطاء الوالدي، فهل هو مصدر للتعاسة والندب على الحظ كما يفعل البعض؟ أم أنه مصدر للسعادة التي تتولد نتيجة لخلق الحب والألفة في أسرة تتشارك تفاصيل الحياة صعبها وسهلها وتؤمن بامتداد النوع البشري عبر هذه العلاقة المتواترة؟.

وبالمجمل، إن الاعتراف بعطاء الأب طيلة الحياة، هو اعتراف بجمالية الإنسان ونظارة روحه الحنونة، وهذا ما يميز أبًا عن آخر.

عِزة النفس.. إلى أين؟  يتميز كثير من الرجال بالسكوت، على عكس حواء التي تمتلك طاقة كلامية تضاهي بها طاقة آدم العضلية، وهذا ما يجعلها تفوقه في الذكاء العاطفي.

فهل هذا الصمت هو الاختيار الأنسب في كل الحالات؟ بطبيعة الحال لا، فكثير من الآباء يخسرون الكثير من لحظات الحب الحميم ويضيّعون فرص تفجير العاطفة بسبب فرطهم في الجدية والسكوت عمّا يحبون.

مثلًا: تجد أحدهم يتمنى من أبنائه الاحتفال بذكرى يوم الأب لكنه يمتنع عن تذكيرهم بالتاريخ، ويلقي اللوم الضمني على الزوجة التي كان عليها تفتيش الروزنامة لتثبت اهتمامها ومحبتها، متغافلًا عن أي سبب قد يكون شغلها بقصد أو بدونه، فيظل يندب حظه كلما شاهد على وسائل التواصل امرأة تقيم احتفالًا فاخرًا لزوجها ولسان حاله يقول: حظ الرجال اللي عندك!.

هذه الروح اليائسة لدى الرجل لا تصنع أي تحول في نمط الحياة، والأمر لا يحتاج كل هذه الجدية، فلو أنه اشترى كعكة وجاء بها للمنزل بضحكة كبيرة وطلب من الأسرة أن تحتفل به، لانحل الضمور العاطفي الذي يشعر به في لحظة من البهجة وربما حظي بعناق وموشحات تعبيرية يتسابق بها أفراد العائلة تجاه والدهم المحبوب، بعدها لن ينسوا هذا التاريخ، وإن فعلوا فلا ضير من شراء الكعكة في كل عام، إن اللحظة السعيدة لا تتطلب سوى روح مرنة تتقن صناعة الفرح.

صبر الأب كصبر الأم  لو انقشعت الأسقف من فوق البيوت، لرأينا من المشاهد الأسرية ما يؤكد أن هناك آباء يصبرون على أذى الزوجات، كما تصبر بعض الأمهات على أذى الأزواج، وكلاهما يفعل ذلك تضحيةً من أجل الأبناء، وهنا يجدر بالأبناء على الأقل الاعتراف بهذا الأب الفذ.

ففي بعض الحالات تبلغ الخلافات الزوجية مبلغًا فظيعًا يصل إلى الضرب أو عزل الزوجين بتخصيص غرفة منفصلة لكل واحد منهما، وهذه إحدى انعكاسات العلاقة المتهالكة، ومع هذا لا تزال الأم قانعة بهذا الحال ولا يزال الأب يردد: لن أتزوج كي لا يضيع أبنائي.

أليس هذا منتهى التضحية من أجل الأبناء الذين في نهاية المطاف سيختارون شركاءهم وسيرحلون من هذا البيت الكبير ويتركون سجونه الانفرادية للأبوين؟ فلماذا هذه التضحية المدفوعة مسبقًا من الوالدين؟ وكيف يمكن تقدير هذه التضحية الباهظة الثمن.

ارتداد محبة الأبناء  منذ سنوات طويلة ومع تنامي ظاهرة الاحتفال بعيد الأم كل عام، عمد بعض الأبناء جعلها ذكرى للوالدين بتقديم الهدايا للأب والأم على حد سواء، وربما هذه المبادرة تعود إلى طبيعة الأبناء وميلهم للعدل تجاه والديهم، وكذلك لطبيعة الوالدين أثر شديد في تعاطي الأبناء مع المناسبات.

فالأبناء سيظلون يحتفلون ما داموا يستشعرون فرحة الأم أو الأب بهذه الذكرى، ولكن ما يفعله بعض الآباء من محاولة للتظاهر بأن الاحتفال شيء تافه وأن البر خلال العام هو الاحتفال الحقيقي بهذه العلاقة – وإن كان ذلك صحيحًا – إلا أنه قد يثير شيئًا من الملل من إقامة احتفال لا يتم التجاوب معه بالتقدير والبهجة المتوقعة، وهذا أحد أسباب عدم احتفال كثير من الأبناء بذكرى يوم الأب.

آباء اليوم  العلاقات بشكلها الظاهري وجوهرها تنحو منحى التغيير مع مرور الزمن، وعلاقة الأب بأفراد أسرته ليست نشازًا من هذه الوتيرة الحياتية، فربما آباء اليوم أكثر قربًا من أبنائهم وأكثر جلوسًا مع أطفالهم وصبرهم يقارب صبر الأمهات اللاتي قد يخرجن للأعمال، فيقوم الآباء بدور الوالدين في علاقة تبادلية تكاملية بين أفراد العائلة الواحدة.

فهذه العلاقة الصحية حتمًا ستنبت أبناء أكثر تعبيرًا عن مشاعرهم واعترافًا بدور الأب، كما الأم في علاقة حب تجرهم نحو الوالدين بمستوى متوازن، وهذا ما يعيشه كثير من الأسر الحديثة.  مخرج  يُثيرني منظر الآباء بعد مرور السنين، كأن مشوار العمر يركض فوق سواعدهم نحو قمة الظهر، ينصبُ للأبناء القادمين من بعدهم راية، تأخذهم لبدء دورة جديدة في الزمن.

يقول الشاعر الكبير جاسم الصحيح:  كم أنحيت على مهدي تمسده  مثل انحاءة عزاف على وتر  وكم رددت غطائي حين بعثره  رعب الكوابي في إغفاءة السحر  روح الأبوة تحمينا من الكبر  ما من أب فائض عن حاجة البشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى