النص المؤسس وسيرورة تطور مجتمعاته
الأديان باعتبارها نصوصا مؤسسة في التاريخ البشري لا يمكن أن ينحسر تأثيرها أو تتلاشى قوة حضورها مهما كانت فاعلية التحولات المفصلية التي تطال مجمل التشكلات البشرية عبر التاريخ .
حدث ذلك مع المسيحية والإسلام تحديدا لأن بهما تأسست حضارة , واحدة في الشرق وأخرى في الغرب.
بيد أن هناك حضارات أخرى قامت في الهند والصين وبلاد فارس ومصر القديمة وبلاد ما بين النهرين سوى أن كتبها المقدسة التي ارتبطت بمسيرة مجتمعاتها , لم يسعفها التاريخ بسياقاته المتعددة : السياسية والاجتماعية والثقافية والجغرافية والاقتصادية من بناء حضارة متعددة الأوجه والقوة والحضور والتأثير كما هي الحضارة الإسلامية والمسيحية.
صحيح أن اليهودية في تحولاتها الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية هي أقرب للمسيحية منها إلى الإسلام, وصحيح أيضا أن الارتباط العضوي والبنيوي الذي يراه الغرب من وجهة نظره ( وهي نظره تغلب عند الكثير من مفكريه وسياسيه) هي إحدى السمات الكبرى التي تجمع اليهودية بالمسيحية.
غير أن ما يتم التغافل عنه هنا من وجهة نظر بناء الحضارات هو سيرورة تشكل الحضارة نفسها تاريخيا سواء داخل مجال المجتمعات الإسلامية أو الأوروبية, فالتباين في المعتقد الديني باعتباره العنوان الكبير على التمايز في الهوية والذات , لا يعني بالضرورة التباعد أو الانفصال فيما يخص المسارات الأخرى في العلاقات بين التجمعات البشرية سواء كان منها الاجتماعي أو السياسي أو الفكري أو الاقتصادي .
وهكذا حدث نوع من الالتباس , سواء كان مقصودا أو غير مقصود , فقد طغى عند بعض الدارسين أو المؤرخين بصورة اختزالية موقف لا يرى العلاقة بين الحضارتين إلا من منظور التباين العقائدي, أي ذلك المنظور الذي كرس صورة الحروب الصليبية , وما تلا ذلك من سرديات تاريخية نمطية عن الإسلام تأسست منذ القرون الوسطى إلى العصر الحديث.
لذلك حين ينظرون إلى بقية المسارات الأخرى في العلاقات البشرية , ويحللون منجزاتها لا يبتعدون كثيرا عن هيمنة تلك السرديات مهما تذرعوا بالمنهجيات الحديثة في المعرفة الاجتماعية والفكرية والفلسفية, حيث يبقى أبن رشد – على سبيل المثال – ناقلا للمعرفة الأرسطية فقط, وأن التراث التنويري الذي تأسست عليه الحضارة الغربية لا يمت إلى العلوم الإسلامية التي نمت في العصر الوسيط بصلة, وإن الدين الإسلامي نسخة محرفة عن المسيحية, إلى غيرها من المقولات تعيد إنتاج نفسها وفق هذا المنظور.
والمفارقة الكبرى التي تأتي ضمن هذا السياق أن تلك الصورة النمطية لم تختف تماما لا من حقل الدراسات المقارنة , ولا من المخيلة الأدبية السردية الغربية , رغم ما راكمته الحداثة والتنوير من تراث نقدي ومراجعات طالت كل الجوانب التاريخية والثقافية والمعرفية .
وما زاد الطين بله هو الاستثمار السياسي الذي جاء عن طريق الاستعمار أولا مصحوبا بخطابات استشراقية , وعن طريق الهيمنة الاقتصادية والتبعية السياسية ثانيا.
غير أن النتائج الكارثية التي حلت على مجتمعات شطري المتوسط جراء هذا الاستثمار أو التوظيف لم يحل من وجود خطابات ثقافية وأصوات نقدية جادة ترى إلى وجوب التخلي عن القراءات الإيديولوجية المسبقة الموروثة ضد الحضارة الإسلامية , والبدء بإعادة قراءة القرآن من منظور تاريخي , أي محاولة وضعه في سياقه الاجتماعي والثقافي والديني في فضاء القرن السادس الميلادي للجزيرة العربية . هذه الدعوة تهدف إلى إيجاد نقد مزدوج ضد القراءات الإسلامية التقليدية التي ترى أن القرآن مفارق للزمان والمكان وبالتالي لحظة القرآن لا تخضع للسياقات التاريخية , ولا يجري عليه مجرى الطبيعة وذلك باعتباره غير مخلوق, وفي نفس الوقت هو نقد أيضا ضد القراءات المركزية الغربية التي لا ترى في القرآن سوى مصدر للعنف والتخلف. وفق هذه القراءات تأتي جهود الباحث ” نولدكه ” أو ” جوزيف فان أس ” وهناك أيضا جهود الباحثة أنجليكا نويفرت التي أصدرت كتابها ” القرآن باعتباره نصا من الحقبة المتأخرة من العصور القديمة ” , وقد قالت في حوار أجراه موقع قنطرة معها ” أن أدعاء افتقار الإسلام إلى التنوير ما هو إلا صورة نمطية أوروبية قديمة غير قابلة للصمود أمام الحقائق التاريخية , مشيرة إلى الصفات القرآنية الجمالية والتقدمية الثورية وإلى أن صميم القرآن يدعو إلى العلم والمعرفة “.
وخلاصة الأهمية التي تطرحها الباحثة هو ماقاله الباحث رشيد بو طيب تعليقا على أهمية كتابها ” هو التشديد على أن القرآن جزء من ثقافة العصور القديمة المتأخرة , وبالتالي جزء من التراث الأوروبي ” .
وهنا أود طرح السؤال التالي : ما موقع مثل تلك القراءات إذا ما وضعت إزاء واقع المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة ؟
ثم ألا تبدو وفق هذه القراءات صورة النص التاريخي للقرآن تتعارض تماما إلى ما آلت إليه الأمور في الواقع التاريخي للمسلمين , وذلك على اعتبار الترابط العضوي بين النص المؤسس ومجتمعه ؟
أولا – تستقوي بعض التيارات الفكرية الإسلامية واليسارية بجهود تلك القراءات لإظهار تفوق الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية , واختزال هذا التفوق في طبيعة العقيدة الدينية بالنسبة للتيارات الإسلامية التقليدية , وفي طبيعة المرجعية الفلسفية والفكرية والعلمية بالنسبة للتيارات اليسارية , وكلاهما يقعان ضمن التوجه العام في تكريس الخطابات التمجيدية التي عادة ما تكون مقطوعة الصلة بالواقع وأسبابه . وهي بالتالي مواقف غير عقلانية وغير تاريخية على العموم .
ثانيا- المنطق التبريري يكشف عن هشاشة الوعي التاريخي لهذه التيارات , ويكشف أيضا عن الكثرة الكاثرة منها التي تجوس في الساحة , رغم وجود القلة من الخطابات التي تقدم قراءات تضاهي ما يقدمه الخطاب الغربي , بل أكثر هي من ذلك .
ثالثا- لا نريد هنا التركيز على تلك الفروقات بين موقع الخطابات من تلك الدراسات التاريخية . لكننا نريد فيما يلي تلمس الأسباب التي جعلت النص المؤسس في الحضارة الإسلامية تأتي قراءاته المعاصرة وكأنها توسع الفجوة بين ما يقوله النص تأويليا من جهة وبين الواقع المتخلف من جهة أخرى , وذلك بالمقارنة إزاء نص العهد القديم والعهد الجديد في الحضارة الغربية باعتباره نصا بخلاف النص الإسلامي أندمج كليا في سيرورة التطور المعرفي والاجتماعي والديني لأوروبا .
إذن كما أشرنا في البداية لا يمكن إغفال هذا الجانب المشترك بين الحضارتين في تأسسهما القائم على النص , إلا أن مسيرة حياة كل منهما اختلف باختلاف السياق التاريخي لكل منهما .
لذلك رأينا كيف يحيل الخطاب الغربي تطور مجتمعاته في بناء علمانيته إلى فلاسفة تربوا على تعاليم العهد القديم والجديد وهم كهنة بالأساس مثل غيوم أوكام الذي عاش في القرون الوسطى كما يشير إلى ذلك أولييفيه روا , أو تطور مجتمعاته في بناء الدولة الحديثة , وكما يعلق كارل شميت على هذه النقطة ( الذي أورده وائل حلاق في كتابه الدولة المستحيلة ص71 ) ” إن كل المفاهيم المهمة في النظرية الحديثة عن الدولة , هي مفاهيم لاهوتية معلمنة , ليس بسبب تطورها التاريخي فحسب- حيث تحولت من اللاهوت إلى نظرية الدولة التي أصبح بها الله القادر على كل شيء على سبيل المثال, هو المشرع القادر على كل شيء بل أيضا بسبب بنيتها النظامية ” وبنفس الطريقة لو تحدثنا عن نظرية الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية التي ساهمت فيها التقاليد الأخلاقية لهذه الطائفة كما يقول ماكس فيبر في تطور النظام الرأسمالي.
هناك العديد من المجالات التي شكلت بالنهاية تراث عصر الأنوار الذي هو المرجع الفكري والسياسي والفلسفي للحضارة الغربية مع وجود النص المؤسس مندسا داخل ثناياه , بينما لا توجد مرجعية في الثقافة العربية الإسلامية تعتمد على قراءات تأويلية للقرآن بوصفها قراءات تراكمية .
لذلك النتيجة الطبيعية أن هناك سلسلة من المرجعيات المتصارعة بعضها ضد بعض بحيث أغلبها يدعم تأويله بالعنف ويستخدمها كشرعية لوجوده . ثمة إذن فرق بين مرجعيات تتوسل الاستبداد في فرض تأويلها للنص على الآخرين , ومرجعيات نقدية لا تملك سوى أخلاق المعرفة في فرض مشروعيتها على الآخر .