أقلام

كربلاء: الرواة والمدونون الأوائل

عبدالرؤوف العامر

كان الإمام السجاد عليه السلام حاضراً منذ بداية المشروع الحسيني، وهو حينها في الثالثة والعشرين من العمر، فبات مرافقاً لوالده حتى استشهاده، ليقع بعدها في أسر الأعداء وعلى عاتقه تقع قيادة النهضة الحسينية. ومع أن كتب التاريخ لم تروِ لنا شيئاً عن حضوره في الطريق من المدينة إلى كربلاء، إلا أنّ في روايات كربلاء تفاصيل هامة عنه ليلة عاشوراء وما أعقبها من أحداث. كما كان من بين الحاضرين في الواقعة ابنه الباقر عليه السلام، وله من العمر ثلاث أو أربع سنوات.
أما أبناء الإمام الحسن عليه السلام، فقد حضر بعضهم في ركب الحسين واستشهد، ووقع الناجون منهم في أسر الأعداء كعمرو بن الحسن المذكور في كتب التاريخ، وكذلك الحسن المثنى صهر الحسين، وكان شاهداً على الحادثة برمّتها حيث ذهب للبراز كسائر بني هاشم ووقى الإمام عليه السلام بجسده وقاتل حتى قتل منهم سبعة عشر رجلاً، وقد أثقلته الجراحات والنبال فسقط بين القتلى وظنّهُ العدو ميتاً، ولما جاؤوا لحزّ الرؤوس عن الأجساد وجدوه حياً، وكان أسماء بن خارجة – خاله – حاضراً آنذاك؛ فطلب منهم أن يهبوا له ابن أخته ويترك لابن زياد – إذا لقيه – القرار في مصيره. وفعلاً ذهب به إلى الكوفة وسمع عبيدالله بالخبر ورأى من المصلحة بمكان أن يهبه لأسماء؛ لأنه كان من أعيان الكوفة ورئيس قبيلة فزارة، فقال: هبوا لأبي إحسان ابن أخته. وبعد معالجة جراحاته أرسله أسماء إلى المدينة.
أما عائلة الحسين عليه السلام فقد شهد رجالها ونساؤها فاجعة عاشوراء وما أعقبها، كأخواته وأزواجه وأبنائه وأقرباء بعض الشهداء مّمن وقع في الأسر. وإضافةً إلى بعض أفراد عائلة الحسين وما تبقى من عوائل الشهداء، هناك جملة من المقاتلين نجوا أيضاً من القتل لأسباب ذكرتها كتب السير والتاريخ، وهم:
١- غُلَامُ عبدالرحمن بن عبدربه الأنصاري الخزرجي، وإن لم تتوفر معلومات عنه بعيد الواقعة وما آل إليه مصيره، إلا أن أرباب الرواية ذكروا أنه كان حاضراً في كربلاء بصحبة مولاه عبدالرحمن، وقد روى بدوره جوانب من عاشوراء.
٢- عقبة بن سمعان، وكان مرافقاً للحسين عليه السلام منذ بداية المشوار حتى وقع في أسر ابن زياد يوم عاشوراء، ولهذا تسنّى له أن يروي عدّة روايات هامة ودقيقة عن حركة الحسين واستشهاده.
٣- وهناك (الطرماح) ممن يعدّ من الناجين من أصحاب الحسين، وله مجموعة روايات عن الحادثة.
٤- ابن ثمامة الأسدي، وكان في جيش الحسين وقد جاءت قبيلتة لتخليصه من الأسر؛ فاصطحبوه معهم إلى الكوفة.
٥- الضحاك بن عبدالله المشرقي الهمداني، وكان قد التحق بركب الحسين في وسط الطريق، وعمل بما عاهد الحسين عليه، فقاتل جيش يزيد حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يجد لنفسه مهرباً من المعركة، وعاش بعد الحادثة مدّة طويلة روى خلالها مشاهده عن كربلاء، وعنه روى أبو مخنف – حسب الطبري – مجموعة من الروايات.
يضاف لهؤلاء، رواة آخرون من الجانب الآخر، أمثال حميد بن مسلم، شبث بن ربعي وغيرهما ممن أنّبه عذاب الضمير وعاش ندماً على خطيئته، أو من أولئك الذين دفعهم الطمع وكسب الجاه إلى رواية بعض الأحداث.
لحسن الحظ، دونت جل تلك الروايات في قرنها الاول ووصلنا كم كبير منها عن طريق أبي مخنف. ومن المناسب بمكان أن نقدم نبذةً عن شخصية أبي مخنف الذي يتصدر مقتله قائمة أترابه من المقاتل. يعد أبو مخنف من ثقات المحدثين حتى قال عنه ابن النديم “أبو مخنف بأمر من العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره”. وأبو مخنف هو لوط بن يحيى الأزدي الغامدي (١٥٧ هـ)، من أصحاب بعض الأئمة كالصادق عليه السلام، وله روايات عنه أيضاً، وكان والده من أصحاب الإمام علي، وجدّه مخنف بن سليم (سليمه) الأزدي من صحابة الرسول (ص) والإمام علي، وكان عاملاً لعلي على أصفهان وهمدان إبان خلافته، أما في معركة الجمل فقد كان مخنف حامل لواء قبيلته الأزدي حتى استشهد هو واثنين من أخوته. وقد فُقدت كتب أبي مخنف – وأغلبها في الامام علي ومقتل الحسين – إلا أن رواياته في الحسين وعاشوراء قد شقت طريقها إلى بطون الكتب التاريخية؛ فروى لنا الطبري في تاريخه قسماً كبيراً منها مع ذكر أسانيدها كاملةً وتناقلها عنه سائر المؤرخين. ومن الممكن تحصيل جلّ هذه الروايات في مؤلّفات أبي الفرج الأصفهاني، والشيخ المفيد، ومسكويه الرازي، وأبي حنيفة الدينوري، والبلاذري، وابن كثير، على أن هذه الكتب لم تذكر مصدرها في النقل، إلا أن وحدة النصوص بينها تدلّنا – بطبيعة الحال – على رجوعها إما إلى تاريخ الطبري أو مقتل أبي مخنف. ومهما كان الأمر، يبقى الموضوع الأهم في روايات ابي مخنف هو اتصالها بشاهد العيان بواسطة او واسطتين فقط؛ حيث دوّن مقتله بعد أقلّ من ستين أو سبعين عاماً على الحادثة، حيث لم تزل كربلاء حديث الناس في المجالس والأسواق. وهنا تكمن ميزة هذا الكتاب إذ نادراً مايحصل لمصدر تاريخي بهذا القِدَم أن يحظى بهذا التوثيق المباشر والسريع لاسيما في تلك الحقب.
ويقال إنّ لأصبغ بن نباته – وهو من أصحاب الإمام علي – كتاباً مماثلاً في مقتل الحسين، إلا أن الكتاب مفقودٌ تماماً ولم يحدّثنا أو يرو عنه أحدٌ من المؤرّخين. وهكذا بالنسبة لمقتل الحسين المنسوب لهشام الكلبي – أحد أصحاب الإمام الصادق – باستثناء جزء من رواياته التي تناقلها بعض المؤرّخين اللاحقين. ومن جملة المعاصرين للأئمة أيضاً يوجد هناك مقتل آخر لجابر الجعفي المتوفى سنة (١٢٨هـ)، لكن لم يصلنا منه سوى الاسم والعنوان. وهذه الوفرة في العناوين ومؤلّفيها إن دلت على شيء فإنما تدلّ على اهتمام أئمة اهل البيت البالغ بقضية الحسين، والتأكيد على نشر مبادئها وحرصهم وسائر الصحابة والتابعين ورواة المسلمين ومحدّثيهم على توثيق الحادثه والحفاظ على حقائقها.
وإلى جانب هذه النصوص التاريخية الموثقة توجد مصادر تنقل بعض الروايات دون ذكر الأسانيد. واللافت للنظر هو اتحادها مع تلك النصوص في الأسلوب والمضمون، وأحياناً تجد فيها زيادة في سرد بعض الوقائع الأخرى ممّا لم يرد ذكره في القسم الأول؛ وهذا مايقوّي ظنّنا باتحادهما في المصدر الأول، مثل ما يُشاهد في روايات أمالي الصدوق (٣٨١هـ)، وكتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي الشاعر والمؤرّخ الشيعي (٣٢٤هـ). وهناك من يذكر في آثار الصدوق كتاباً باسم مقتل الحسين، إلا أنّه لا وجود مستقلّ له حالياً، ولا يُستبعد أن تكون تلك الأمالي التي دونها طلابُه تعبيراً عن قسم من الكتاب المفقود. مع ذلك كلّه ، ثمّة مؤرخون آخرون رووا في كربلاء وحركة الحسين دون ذكر الأسانيد، ورواياتهم لاتتعارض في محتواها مع النصوص الموثقة، أمثال ما جاء في تاريخ اليعقوبي في مطلع القرن الثالث ومروج الذهب للمسعودي (٣٤٥هـ) .
وفي القرن السادس الهجري، كتب الخوارزمي أبو المؤيد (٥٦٨هـ) مقتله في الحسين مستفيداً من كتب السير والتاريخ. وقد وصلنا الكتاب دون اختلاف في نُسَخه، ولا يزال الباحثون والخطباء يفيدون منه، وغالباً ما يَنسب الخوارزمي رواياته إلى ذويها، وأحياناً إلى أبي مخنف وابن أعثم الكوفي. من هنا يُعتبر مقتله من المصادر الموثقة في هذا الباب، والتي حظيت باهتمام علماء الشيعه والسنّه على حد سواء. وفي الفتره ذاتها، أثبت أبو جعفر رشيد الدين محمد بن شهر آشوب (٥٥٨هـ) في كتابه (مناقب آل أبي طالب) مقتلاً للحسين على هامش سيرته، وكتابه هو الآخر من موثقات العلماء والمؤرخين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى