أقلام

الإمام الحسين في عيون غير المسلمين

علي محمد عساكر.

الحمد لله الذي جعل القتل لأهل البيت عادة، وكرامتهم من الله الشهادة، والصلاة والسلام على النبي محمد وآله السادة القادة.
يعتبر الإمام الحسين عليه السلام من الشخصيات العظيمة التي استطاعت أن تسجل اسمها في سجل الخالدين بكلمات من ذهب وأحرف من نور لن يستطيع الزمان محوها مهما تعاقبت السنون، فنصيبه من هذه الحياة هو الخلود الأبدي، والبقاء ما بقي الليل والنهار، تلهج باسمه، وتعتز بأمجاده الأجيال جيلا بعد جيل، من مختلف النحل والملل والأديان في شتى بقاع العالم على الأطلاق.
فالإمام الحسين ممثل لجده النبي، وامتداد طبيعي لخط النبوة والرسالة: “حسين مني وأنا من حسين” والرسالات الإلهية لا تموت، وهو عليه السلام نور إلهي، ومصباح هداية: “الحسين مصباح الهدى، وسفينة النجاة” ونور الله لا ينطفئ.
يقول المفكر المسيحي (ميشال كعدي) عنه عليه السلام: “أما الإمام الحسين فقد خصّ بالبقاء الدائم في الأديان والطوائف العالمية، وبقي ركن إيمان وصلاة، ومعينا للفضائل، وقبسا لأرواح ونفوس المؤمنين في الأديان كلها، ثم زادها ضياء في عيون البشر.
الإمام الذي نعيده إلينا في عاشوراء، دخل الزمانين، فأحبه الكون والمرء والعقب، ومشت على زهرة دمه الأجيال، وعطفت عليه الدنيوات.
هذا المعروف في الأصالة والنسب، سليل الرؤى والشموخ، ومسرى البصر إلى ضحايا آل البيت، الذين قضوا ضريبة سيوف الغدر، ودريئة الرماح، ورمية النبال، وقد قضوا وفي أرواقهم بهاء النعمة والصدور الزواكي”
وقد تكلمت بشيء من التفصيل عن الخلود الأبدي والحضور العالمي للإمام الحسين عليه السلام في موضوعي: (الإمام الحسين: حياة أبدية وملك عالمي) كما أوضحت في ذلك الموضوع أنه لم يتم الاحتفاء بأحد من قبل شعوب العالم كما تم الاحتفاء به، ولا كتب عن أحد من عظماء الدنيا (نثرا وشعرا) ما كتب عنه صلوات الله وسلامه عليه، وأكدت على أن “كل هذه الكتب والمؤلفات والدراسات والتحقيقات والمقالات والكلمات والقصائد…ليست مما انفرد بتأليفه الشيعة الإمامية خاصة، ولا هي فقط من إنتاج المسلمين عامة، بل الكثير منها هو لغير المسلمين سواء من شرقيين أو مستشرقين، ومن كل ملة ونحلة ودين، كاليهود والمسيحيين والتبت والبوذيين والهندوس…ومن مختلف دول العالم، كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والمكسيك والنرويج وبلجيكا وإسبانيا وروسيا والصين واليابان والهند ومصر وسوريا ولبنان والعراق والسعودية …ولن نغالي إذا قلنا: من كل ملة ودين من كل بلدان العالم على الإطلاق، ففي كل بلدان العالم للإمام الحسين منبر وموطئ قدم، وكل لسان بكل لغة لهج باسمه، ورتل آيات حمده وشكره آناء الليل وأطراف النهار صلوات الله وسلامه عليه”
وانطلاقا من ذلك كله فقد رأينا أن نخصص هذا الموضوع لنقل بعض ما قيل في الإمام الحسين عليه السلام من قبل شخصيات غير إسلامية، وذلك لعدة أسباب منها:
أولا: إن هذه الكلمات تكشف لنا النقاب عن مكانة الإمام الحسين عليه السلام في الفكر الإنساني، ومنزلته في نفوس شخصيات العالم قاطبة، وتوضح لنا أنه عليه السلام فعلا -وكما يقول الأب اللاهوتي (رولان)-: “رمزٌ يضيءُ في آفاقِ العالمِ، والعواصم، والطوّائِفِ المؤمنةِ بالخالقِ والإنسانيَّة”
ثانيا: إن هذه الكلمات لم تصدر من أناس موالين للإمام الحسين لنتهمهم بالانسياق وراء مشاعرهم وعواطفهم الجياشة.
ثالثا: إنها لم تصدر من أناس مسلمين، لنتهمهم بأن كلامهم نتاح خلفياتهم الثقافية المتوارثة.
وقد أثبتنا في موضوعنا: (الإمام الحسين: حياة أبدية وملك عالمي) أن ما كتب في الإمام الحسين، وما قيل عنه صلوات الله وسلامه عليه يفوق العد والإحصاء، ولذا فنحن نؤكد على أن ما سننقله في موضوعنا هذا ما هو إلا غيض من فيض، أو قطرة من بحر، بل هو لا شيء واقعا، كما أننا سنحاول أن نختار بضع كلمات متنوعة في مضامينها، ليمكننا ذلك من تسليط الضوء على عدة جوانب من شخصية الإمام الحسين عليه السلام، وذلك في عدة نقاط على النحو التالي:
النقطة الأولى: الإمام الحسين في قيمه وأخلاقه:
كل مطلع على سيرة الإمام أبي عبد الله، واقف على حياته، يعلم أنه كان عليه السلام في قيمه وأخلاقه إنسانا ملائكيا، أو قرآنا ربانيا يمشي على الأرض، وهو ما أكده مترجموه، وشهد به مؤرخو حياته من مسلمين وغيرهم.
يقول الإعلامي والروائي السوري (انطوان يوسف بارا) في ص26-27 من كتابه (الإمام الحسين في الفكر المسيحي) “شخصية الحسين محيط واسع من المثل الأدبية، والأخلاق النبوية، وثورة فضاء واسع من المعطيات الأخلاقية والعقائدية، ولعلنا نتمثل أهم سمة من سمات العظمة في هذه الشخصية من قول جده الرسول صلى الله عليه وآله: (حسين مني وأنا من حسين) فارتقت إنسانية السبط إلى حيث نبوة الجد: (حسين مني) وهبطت نبوة الجد إلى حيث إنسانية الحفيد السبط: (وأنا من حسين)”
وهذا كلام نوراني، وكله عظمة وبهاء وجمال، وينطوي على أمور مهمة جدا، منها:
أولا: الاعتراف بالإسلام كدين، وبنبوة نبينا الأعظم وأنه رسول من الله عز وجل، وتعظيم وتبجيل له ولأهل بيته، وحفظ لمقامهم ومركزهم الديني بما لا مزيد عليه.
وهذا مما يمتاز به مسيحيو الشرق على المستشرقين، ولذلك أسباب عدة ذكرها انطوان بارا في (24) وما بعدها من كتابه المذكور، كما أشار إلى بعضها الباحث الأستاذ (راجي أنور هيفا) في ص20 وما بعدها من كتابه (الإمام علي الفكر المسيحي) وغيرهما.
ثانيا: فيه بيان لقيم الإمام الحسين الأخلاقية الرفيعة، وسمو منزلته، وعظمة شخصيته بما لا مزيد عليه، فهو صلوات الله وسلامه عليه (محيط واسع) في مثله وأخلاقه.
والمحيط من الاحاطة بالأشياء، وإنما سميت البحار الكبيرة الواسعة العظمية (محيطات) لسعتها وإحاطتها باليابسة، والمحيط بعلوم عصره، هو الجامع لها، الملم بها كلها في جعبته، وكذلك المحيط بالأخلاق هو الجامع لها.
وأما الفضاء فهو أعظم من المحيط وأوسع رغم عظمته -أعني المحيط- وسعته واحاطته بالأشياء، فالحسين عليه السلام فضاء يسع جميع القيم الأخلاقية والإنسانية، ويحيط بها من كل حدب وصوب.
ولم يجد (انطوان بارا) ما يوضح به ذلك الفضاء وتلك الاحاطة إلا أن يجعل أخلاق الإمام الحسين أخلاق جده النبي، الذي يؤكد القرآن الكريم أنه صلى الله عليه وآله (لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقد يقال: أن (اللام في لعلى) للتوكيد، وقد يقال: أن المراد أنه عليه وآله السلام فوق الخلق العظيم، فلا يمكن الاحاطة بفضاء وسعة أخلاقه صلى الله عليه وآله، وهكذا كان سبطه الإمام الحسين عليه السلام.
ثالثا: لا عجب أن يكون الإمام الحسين شبيها بجده الرسول في قيمه وأخلاقه كما في سائر شؤونه، فهو عليه السلام الإمام المعصوم، والامتداد الطبيعي لخط النبوة والرسالة في الأرض، وهو وجده نور واحد، وحقيقة واحدة، لا يمكن التفكيك أو التفريق بينهما، وإلا لما قال صلى الله عليه وآله: (حسين مني وأنا من حسين)
النقطة الثانية: الاعتزاز بعلي والحسين:
هناك شخصيات يكون لها من عظمة الجلال وجلال العظمة ما يجعل الآخرين ينحنون لها إجلالا وإكبارا، ويخضعون بحضرتها تقديرا واحتراما، ويعتبرونها محل الفخر والاعتزاز حتى وإن اختلفوا معها في الدين والمعتقد.
وشخصية الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام في طليعة هذه الشخصيات التي تصاغر بحضرتها العظماء والكبار من جهة، واعتبروها محل فخر واعتزاز من جهة أخرى، بل وأكدوا أنهم لو كان الإمام الحسين لديهم لكانوا أسياد العالم.
يقول الدلاي (لاما) المولود في ولاية شنغهاي سنة 1354هـ 1935م والمتقلد لمرتبة (الدلاي) التي هي أعلى مرتبة دينية في الديانة البوذية التبتية، وتعني: (الروحاني المحيط بالحكمة) وهو الزعيم الديني والسياسي للبوذيين التبتيين: “إذا كانت لدينا نحن البوذ شخصيات مثل الإمام علي، ومثل الإمام الحسين، وإذا كان لنا نهج البلاغة وكربلاء، فإنه لن يبقى في العالم أحد إلا ويعتنق العقيدة البوذية، نحن نفتخر ونعتز بهاتين الشخصيتين الإسلاميتين”
ففي الوقت الذي نرى فيه بعض المسلمين -حتى من شيعة علي والحسين- يجهلون قدر هاتين الشخصيتين العظيمتين، ويطالبون بنزع رداء القداسة والعظمة عنهما، ويعتبرون الكثير مما ينسب إليهما أو يقال عنهما من الغلو، ونتاج العاطفة، ومن معطيات الخلفية الدينية المتوارثة…نرى هذا الزعيم الكبير المتبوء لذلك المقام الرفيع في تلك الديانة البوذية التبتية يعتز بعلي أمير المؤمنين وبعطائه العلمي الغزير المتدفق، المودع في نهج البلاغة، هذا الكنز العلمي الكبير، كما يفخر بولده الإمام الحسين وما قدمه من تضحيات وقرابين في سبيل العزة والكرامة، وسائر القيمة الإنسانية، ويؤكد أنه لو كان لديهم في البوذية التبتية مثل هاتين الشخصيتين القياديتين العظيمتين لعرفوا كيف يتعاملون معهما بشكل صحيح، ويستفيدون منهما استفادة حقيقية في إقناع العالم باعتناق البوذية.
وهذه الكلمة شبيهة بما نقله الكاتب المسيحي (انطوان بارا) في ص82 من كتابه (الإمام الحسين في الفكر المسيحي) من أن قسيسا مسيحيا قال: “لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كل بلد بيرقا، ولنصبنا له في كل قرية منبرا، ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين”
وعلق انطوان على هذه الكلمة الذهبية الرائعة بقوله: “مثل هذا الكلام لا يصدر على عواهنه، بل يقصد به أن الفداء والاستشهاد اللذين يشكلان ركن الدين المسيحي الأساسي قد جسدهما الحسين عليه السلام خير تجسيد في استشهاده، هذا الاستشهاد الذي لا يقدم عليه إلا المبشرون بالأديان السماوية، أو المتصدون لانحرافها، وكان الحسين عليه السلام واحدا منهم”
كما أنه -أعني انطوان- حين سئل عن معنى هذه الكلمة النورانية في لقاء معه، أجاب كما -هو مدون في ص384 من كتابه المذكور-: “هي عبارة تكشف كم أنتم الشيعة والمسلمون لا تعرفون قدر إمامكم، لقد كان لدينا حافر حمار المسيح عليه السلام، وكنا نحج له، وأنتم لديكم مرقد الحسين، وآثار وبركات الحسين، وتراث الحسين، ولم نركم قمتم باستثمارها إيجابيا، أما لو كان الحسين منا لأقمنا له في كل أرض بيرقا، لأنه ليس مرحلة فحسب، بل هو مسيرة حرية الإنسان، وهو مبدأ أزلي سيعي المسلمون سره عاجلا أو آجلا”
توبيخ وتقريع مؤلم وموجع من انطوان بار للمسلمين وجهلهم بالإمام الحسين، وعدم معرفتهم كيف يتعاملون معه، ويستفيدون منه بشكل صحيح، وإنه لتقريع وتوبيخ رغم ما فيه من شدة وألم إلا أنه جدير بالتأمل أيضا، ولا أريد أن أعلق أكثر.
النقطة الثالثة: كربلاء ثورة الإنسانية التي لا تنسى:
في موضوعي: (كربلاء ثورة القيم الإنسانية) أكدت على أن أهم عامل من عوامل خلود هذه الثورة المقدسة، هو أنها ثورة مثل عليا، وقيم فاضلة، ومبادئ كريمة، عنوانها (الحق) وهويتها (الصدق) وغايتها (العدل) وشعارها (العزة والكرامة والفضيلة) بكل ما لهذه القيم الإنسانية الفاضلة من معنى.
ولأنها (ثورة القيم الإنسانية) ولأن طبيعة القيم الإنسانية هي الخلود والبقاء خلدت هذه الثورة المباركة، ولأن (القيم الإنسانية) يعشقها وينادي بها كل البشر بغض النظر عن مناطقهم الجغرافية، ومستوياتهم الثقافية، وعقائدهم الدينية، تيمت البشرية بالإمام الحسين وثورته، وراحت على هواه تغني.
في (مؤتمر يوم الحسين السنوي) الذي يعقد سنويا في الأسبوع الأول من شهر شعبان في مدينة (لاهور الهندية) ويستمر لعدة أيام، والذي عقد في سنة 1374هـ نيسان 1955م تحت شعار (التقريب بين الأقوام) وتم توثيقه في كتاب حمل اسم المؤتمر الدائم (يوم الحسين) ألقى الرئيس الهندي الهندوسي الأسبق الدكتور (راجند مهاديف برساد) خطابا عن الإمام الحسين وثورته المظفرة المجيدة، فكان مما جاء فيه: “إن قصة الشهادة في كربلاء واحدة من تلك القصص في تاريخ الإنسانية التي لا تنسى أبدا، ولا يمحى أثرها من حياة الملايين من الرجال والنساء في أنحاء العالم…إن فداء الحسين لا يخصّ منطقة ولا قوما بعينهما، ولكنه إرث إنساني لكل البشرية لاستلهام معاني الإخوة الإنسانية”
ففي الوقت الذي تكون فيه نظرة البعض -حتى من المسلمين- إلى الحسين وثورته نظرة ضيقة ومحدودة جدا، بل وخاطئة في الكثير من الأحيان، إذ يعتبرونه مزق الجماعة، وشق وحدة الصف، وتجاوز حده فقتل بسيف جده، أو أنه -في أحسن التقديرات- لم يحسن التصرف، فألقى بنفسه وأهل بيته إلى التهلكة، وفي أحسن الأحوال يعتبرون ثورته ثورة عادية كسائر الثورات التي جرت في التاريخ، نرى غير المسلمين -كما هو الحال عند المسيحيين والبوذيين وغيرهما- يعتبرنها أعظم ثورة في تاريخ الأديان الإلهية جمعاء، ولا يقبلون أن يحتكرها قوم معينون، أو أتباع دين معين، بل يؤكدون أنها ثورة الإنسانية، ومن أجل الإنسان أينما كان، بغض النظر عن موطنه ولغته ودينه ومعتقده…لأنها ثورة العزة والكرامة ضد الظلم والاستبداد، كما تؤكد ذلك بيانات الثورة الحسينية الكثيرة التي من أشهرها قول مفجرها الإمام الحسين عليه السلام: “إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر…” وقد تحمّل عليه السلام في سبيل ذلك ما تعجز عنه تحمله الجبال الرواسي.
يقول المستشرق البريطاني السير آرثور ولستون: “لم يشهد العالم قط رجلا هالت عليه مثل تلك المصائب والآلام من العطش والجوع وعدم الاستقرار، ومع هذا فقد قاوم وواجه هذا الكم الهائل من الأعداء في تلك الصحراء العربية ذات الحرارة الشديدة.
نعم، كان ذلك هو الحسين الذي تمكن أن يقاوم العدو، وهذه علامة بارزة مميزة، تدل على علو معنوياته، وصفاء ذاته، وقد عمل بصدق بكل ما يعتقد به، ودافع عن أهدافه بكل إخلاص.
وكان في الصبر والاستقلال والأخلاق وفي كل ممارساته المثل الأعلى الذي لا يضاهيه أحد، ولذلك يمكن القول بأن الحسين بحد ذاته كان معجزة، وهذا الإنسان هو الذي تفتخر به العلماء في كل العصور، وتتحدث عنه، والأهم أن العالم لم يتعرف على شخصية شجاعة غيره”
النقطة الرابعة: الحسين قدوة البشرية ومعشوقها:
من أهم العوامل التربوية للإنسان أن يجعل لنفسه قدوة صالحة في الحياة، يحاول أن يستضيء بنورها، ويسر على نهجها في تحقيق معالي الأمور، والذي يريد أن يكون إنسانا رساليا في حياته، ويحقق أعظم الإنجازات في كل المجالات، فلن يجد له أسوة وقدوة تنير له الدرب، وتمنحه الطاقة والحيوية والنشاط، لتكون له خير معين على تحقيق أهدافه السامية العالية كالإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
يقول الأكاديمي من جامعة السوربون البرفسور الفرنسي (بير لوري): “رسالة الله ليس لها معنى في أفواه الناس إلا عند هؤلاء الذين يجعلون من الحسين أسوة لهم، يجاهدون في سبيل الله من أجل العقيدة، ويكشفون القناع عن الكفر في الوقت نفسه”
فالثوار والمصلحون بحاجة ماسة إلى قدوة صالحة من الثائرين والمصلحين يستمدون منها القوة والعزيمة، وتبث فيهم التفاؤل والأمل، وتمنحهم الصلابة والصبر على المكاره، وتشجعهم على عدم الاصابة باليأس والاحباط، أو الخنوع والاستسلام، كما يتعلمون منها القيم الفاضلة، والصدق والإخلاص في العمل، وعدم استغلال الآخرين، أو البحث عن المصالح الشخصية باسم الاصلاح في الأمة.
ولن يجد هؤلاء مثل أبي الضيم، وسيد الأحرار، وقدوة الثائرين والمصلحين الإمام الحسين عليه السلام.
ولعل هذا معنى من معاني ما ينسب إلى الفيلسوف الهندي الهندوسي (غاندي) المعروف باسم: (المهاتما) أي: (صاحب النفس السامية) أنه قال: “تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر” وقوله الآخر: “على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالإمام الحسين”
وهي كلمات نقلها عنه (نهرو) في كتاب له بعنوان: (صفحات من تاريخ الهند) حسبما ينقل الشيخ محمد صادق الكرباسي في موسوعته الحسينية عمن أخبره من الأصدقاء، وإن أكد (الكرباسي) أنه لم يعثر على كتاب لنهرو بهذا الاسم.
والحق أن عدم عثوره عليه لا ينفي عدم وجوده في الواقع، أو أنه تلف، أو فقد، فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، خصوصا وأن هناك من أخبر الكرباسي به، وما كان ليخبره إلا لأنه رآه، أو سمع ممن رآه مثلا، وعلى أية حال فإن المشهور جدا أن هذه الكلمة: (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر) لغاندي، وكل من ذكرها نسبها إليه، ولم تنسب لغيره فيما أعلم، والله أعلم.
وعلى كل حال فإنه رغم أهمية معرفة القائل، إلا أن عدم معرفتنا به أو تأكدنا منه لا ينفي قيمة وأهمية هذه الكلمة، فهي كلمة عظيمة، وذات معنى عميق، سواء كان قائلها هو غاندي، أو غيره.
وحين سئل الكاتب المسيحي انطوان بارا عن هذه الكلمة ودلالتها، قال معلقا كما في ص384 من كتابه (الإمام الحسين في الفكر المسيحي) “غاندي مصلح تأثر بشخصية المصلح الأكبر الحسين بن علي عليهما السلام، وصحيح أن قصة الحسين عليه السلام دموية، إلا أنها في الوقت ذاته كانت سلمية لا عنيفة، ومن هنا انتهج غاندي منهجية ألا عنف، فاستطاع توظيف المظلومية في الانتصار على الاستعمار البريطاني، تماما كما فعل الإمام الحسين عندما وظّف مظلوميته على مرّ التاريخ للحفاظ على الدين والعقيدة والمبادئ.
إن الشعور بالمظلومية عبارة عن قوة روحية تتغلب على الحواجز المادية التي يضعها الناس، الشعور بالمظلومية هو أيضا الشعور براحة الضمير من أدران الدنيا، وهذا الشعور يتولّد إلى طاقة روحية جبارة، هي التي جعلت غاندي ينتصر على الإنجليز كما انتصر الحسين عليه السلام من قبل على الأمويين.
وعندما نقول: انتصر، إننا ندلل على ذلك بما نراه اليوم، فانظر إلى مرقد الحسين، وانظر إلى قبر يزيد، الأول أضحى قبلة للناس، والآخر أمسى مزبلة مزرية”
وهذا ما يؤكد لنا حياة الإمام الحسين، واستلهام البشرية منه، وتتلمذها على يديه عبر التاريخ، ولهذا هامت البشرية بالإمام الحسين، بعد أن تيمها بحبه، وأصبح معشوقها الأول الذي على هواه تغني، فأصبحت لا تمل ذكره في {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ}.
يقول القاضي والإعلامي والأديب الشاعر المسيحي الباروني (بولس سلامة) في مواطن عدة من مقدمته لملحمته (عيد الغدير) في الدعوة إلى الاقتداء بعلي أمير المؤمنين وشبله الإمام الحسين، والتعبير عن عشقه لهما، وهيامه بهما، والتشيع لهما من أعماق قلبه، وبكل جوارحه، وكذا تأكيده على الحاجة إليهما صلوات الله وسلامه عليهما: “إن العروبة المستيقظة اليوم في صدور أبنائها -من المغرب الأقصى إلى آخر جزيرة العرب- لأحوج ما تكون إلى التمثل بأبطالها الغابرين، وهم كثر، على أنه لم يجتمع لأحد منهم ما اجتمع لعلي من البطولة والعلم والصلاح، ولم يقم في وجه الظالمين أشجع من الحسين، فقد عاش الأب للحق، وجرد سيفه للذود عنه منذ يوم بدر، واستشهد الابن في سبيل الحرية يوم كربلاء، ولا غرو، فالأول ربيب محمد، والثاني فلذة منه” “أجل، إنني مسيحي ينظر من أفق رحب لا من كوة ضيقة…مسيحي ينحني أمام عظمة رجل يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الأرض ومغاربها خمسا كل يوم، رجل ليس في مواليد حواء أعظم منه شأنا، وأبعد أثرا، وأخلد ذكرا، رجل أطلّ من غياهب الجاهلية فأطلت معه دنيا أظلها بلواء مجيد، كتب عليه بأحرف من نور: لا إله إلا الله، الله أكبر” “بقي لك بعد هذا أن تحسبني شيعيا، فإذا كان التشيع تنقصا لأشخاص، أو بغضا لفئات، أو تهورا في المزالق الخطرة، فلست كذلك، أما إذا كان التشيع حبا لعلي وأهل بيته الطيبين الأكرمين، وثورة على الظلم، وتوجعا لما حلّ بالحسين، وما نزل بأولاده من النكبات في مطاوي التاريخ، فإنني شيعي”
وهو القائل معبرا عن حبه وتشيعه لعلي أمير المؤمنين وبينيه الأكرمين:
جلجل الحق في المسيحي حتى عد من فرط حبه علويا
أنا من يعشق البطولة، والإلهام، والعدل، والخلاق الرضيا
النقطة الخامسة: العجز عن معرفة الإمام الحسين عليه السلام:
الإمام الحسين هو سرّ الله الخفي، الذي كلما تعمقت البشرية في معرفته تظل عاجزة عن إدراك كنه حقيقته، ولعل المعرفة الحقيقية به تتمثل في الإقرار بالقصور عن إدراك تلك المعرفة، والعجز عن الوصول إليها!
هذا ما يقوله حتى غير المسلمين في الوقت الذي يرى فيه المسلمون أو بعضهم أن ذلك من الغلو، ونتاج الخلفية الثقافية المتوارثة!!
وقد أشرنا إلى أن مما اشتهرت به شبه القارة الهندية أنها اعتادت على تخصيص يوم باسم الإمام الحسين عليه السلام، يجتمع فه الناس من مختلف الطوائف والملل والنحل ليحتفوا بسيد الشهداء، ويقدسون ثورته، ويمجدون أهدافه، وفي شهر شعبان سنة (1374هـ 1955م) كان هذا الاجتماع على العادة، فاعتلى المنصة رجل القانون الهندوسي (وياس ديو مسرا) فألقى خطابا عظيما عبّر فيه عن حبه الكبير للإمام الحسين، وأبدى عواطفه الجياشة نحوه، كما وجه الدعوة للجميع باسم الإمام الحسين إلى المحبة والتآخي، ونبذ الخلاف، والفرقة، والنزاع الطائفي، كما تحدث عن الحسين وثورته ومعطياتها، فكان مما قال في تأكيده على عجز البشرية عن معرفة شخصية الإمام عليه السلام: “إن التحدث عن الحسين والتكلم عن شخصيته الفذة، وكذا التنقيب عن أحواله، أشبه شيء بمن يستعين بالسراج ويفحص عن الشمس…فمن كان بهذه المثابة من العظمة والجلال أنّى يسع البشر وصفه، وبيان فضائله؟!
إن البشرية لم تبلغ لحد الآن درجة تستطيع أن تعرف الحسين، ولا غرو إذا جهل الأجانب وغير المسلمين الحسين، ولم يعرفوا منزلته، فإن أكثر المسلمين قد جهلوا مقامه، ولم يعرفوه حق المعرفة، ولم يتوصلوا إلى معرفة ذاته المقدسة.
نعم، ما عرف الحسين إلا الصفوة، وأهل المعرفة، وألو الألباب، وهم قليلون جدا”
وهذا الكلام الجليل ينسجم تماما مع ما جاء في الفكر الديني، وأكدته النصوص الإسلامية من عجزنا عن معرفة النبي وآله حق المعرفة، وأن كل ما لدينا من معرفة بهم وعنهم سلام الله عليهم إنما هو بقدرنا وليس بقدرهم، فإن قدرهم لا ينال، ومع ذلك فإنه متى قاله الواحد منا تم اتهامه بالعاطفة والغلو، وأن كلامه نتيجة خلفيته الثقافية السائدة…ولكن ماذا نقول عن رجل هندوسي، لا يعتقد في الإمام الحسين ومركزه الديني بما يعتقده المسلمون -وخصوصا شيعة أهل بيت العصمة والطهارة- فهل نتهمه بما نتهم به شيعة الحسين من العصبية والعاطفة، أم أن الإمام الحسين فعلا هو (سرّ الله الأعظم) الذي عجزت البشرية وستظل عاجزة عن اكتشافه، ومعرفة كنه حقيقته؟! وأن هذا الرجل الهندوسي قد تعمق في دراسة الإمام الحسين، ومحاولة معرفة شخصيته، واكتشاف حقيقته، فتوصل إلى حقيقة أن الحسين -وإن كان هو الشمس المشرقة على الجميع، ويراها كل أحد في دنيا الوجود- إلا أنه أيضا هو السر الإلهي الخفي، والحقيقة العظمى التي لم تصل البشرية إلى اكتشافها في حاضرها، ولن تتمكن من اكتشافها في مستقبلها، وستظل في معرفة الإمام الحسين، ومدى عظمته، وكنه حقيقته حائرة إلى يوم يبعثون!
إنه لمؤلم وموجع ومخجل أن نرى غير المسلمين يلهجون باسم إمامنا الحسين آناء الليل وأطراف النهار، ويرتلون آيات حمده وشكره في كل وقت وحين، ويرفعونه إلى هذه المقامات السامية العالية، ويتعمقون في معرفته إلى هذا الحد الكبير، ويعبرون عن أسفهم لعدم وجود شخصية مثله عندهم، ويؤكدون أن الإمام الحسين لو كان لهم لملكوا الدنيا، وأصبحوا أسياد العالم، ولكان الناس كلهم تبعا لهم، في الوقت الذي نرى فيه بعض المسلمين، وبعض نخبنا الثقافية تراه إنسانا عاديا جدا، وتترفع حتى عن قراءة سيرته، أو تستشهد بموقف من مواقفه العظيمة الخالدة، أو تستدل وتستضيء بقول من أٌواله الحكيمة البالغة، ولا تكلف نفسها ولو بكتابة مقال بسيط عنه حتى وهي تعيش أيام ثورته، بل وتدعو إلى نزع رداء القداسة عنه، وتعتبر جل ما يقال عنه من الغلو، ونتاج الخلفية الثقافية المتوارثة!!
وإني لأدعو كل من يحملون مثل هذا الفكر، ولديهم تلك التوجهات إلى قراءة النبي وآله من جديد، وأن يعيدوا النظر في نظرتهم إليهم، ودعوتهم إلى نزع رداء القداسة عنهم، وترفعهم عن الاستدلال بموقف من مواقفهم، أو الاستشهاد بقول من أقوالهم، أو الأنفة من قراءة سيرتهم، واعتبراهم ذلك من دلائل التخلف، وبراهين الرجعية، كما أود أن أهمس في آذانهم بأن مناقشة مختلف القضايا والمواضيع (ومنها مقامات النبي وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) ومحاولة نقضها، لا تتم بالتعبير الإنشائي العام، كتعبير: (هذا من الغلو، أو نتاج الخليفة الثقافية المتوارثة) أو ما شابه ذلك من تعبيرات إنشائية عامة ليست هي من البحث الأصيل، ولا من النقد العلمي في شيء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى