أقلام

نحّات الأخيلةِ الأمهر

عبدالوهاب أبو زيد

في حديث سابق للصديق الشاعر السوري حسان الجودي عن شاعرنا الكبير الصديق جاسم الصحيح، قال فيه ما معناه إن النجاح الذي أصابه جاسم في بث روح جديدة في القصيدة الكلاسيكية يفوق كل ما حققه شعراء قصيدة الشعر مجتمعين. وشعراء قصيدة الشعر لمن لا يعرفهم هم مجموعة من الشعراء العراقيين الذين برزوا في بدايات القرن الواحد والعشرين وكان يجمع بينهم ميل ونزعة لكتابة القصيدة الكلاسيكية بروح جديدة مختلفة عن سائد ومألوف هذا الشكل الشعري المثقل بتراثه الضارب بجذوره في تربة التاريخ، وقد كانوا يمثلون أو أنهم سعوا لأن يمثلوا حركة شعرية جديدة مستقلة فأصدروا بيانًا خاصًا بهذه الحركة وقعه مجموعة منهم أذكر منهم عارف الساعدي وبسام صالح مهدي وعارف الساعدي.
ربما يكون الجودي مبالغا فيما قاله وربما لا يكون، ولكن الأكيد بالنسبة لي على الأقل هو أن الصحيح نجح إلى حد كبير وبشكل جلي في ضخ دماء جديدة في جسد القصيدة الكلاسيكية المثقلة بتاريخ طويل فيه النماذج المضيئة المشرقة وفيه كذلك النماذج التي ولدت ميتة منزوعة الروح. ولا أبالغ حين أقول إن جاسم يختزل في إهابه خلاصة جماليات القصيدة الكلاسيكية مكثفًا في صوته أجمل وأبرز أصوات تلك القصيدة على امتداد تاريخها الطويل والعريق الذي ليس له شبيه في ثقافات ولغات العالم كلها.
يكتب جاسم قصيدته متدرعًا ومدججًا (ولا أقول مثقلًا) بكل ذلك التراث العظيم، ولكن ليس به وحده بالطبع وإلا لكان نسخة أخرى مكررة منه تضاف إليه وتضيع في زحمة أصواته، بل بروح عصره أيضًا وبثقافته ومفرداته التي تتسلل إلى قصائده بخفة ورشاقة ومهارة يتقنها أيما إتقان. والقول إنه يتقنها ربما لا يؤدي المعنى الذي قصدته لأن الإتقان ربما يكون ابن الصنعة وهو أبعد ما يكون عنها، فهو شاعر سليقة وفطرة توظف الثقافة العميقة لخدمتها وتعزيزها.
وجاسم إلى ذلك صانع صور ونحات أخيلة شعرية ماهر، فلا يكاد يخلو بيت من أبيات قصائده الكثيرة والطويلة من صورة شعرية مدهشة تصدمك، صدمة جمالية بالطبع، بذكائها وانسيابيتها وطرافتها أحيانًا، وكل ذلك بغرض إيصال المعنى وتفتيقه وتوسيع أمدائه وتكثيف طبقاته، فالمعنى لا يغيب من قصائده والمغزى، وإن غمض أحيانًا على بعض القراء، موجود بانتظار قارئ متمهل وربما متمرس في قراءة الشعر.
كتب جاسم وما زال يكتب قصيدة التفعيلة طبعًا، ولكنه يكتبها بروح القصيدة العمودية لفرط همينتها عليه ربما وفرط تشبعه بها كما أشرت في قراءة سابقة لي عن شعره. وفي هذا السياق أشير إلى أنه كان بوسعه، وهو غير عاجز عن التنقيب والحفر في آبار القصيدة الحداثية التي تنغلق على ذاتها وتبتعد عن القارئ المتعجل والبسيط، بل وحتى المتمرس، ولكنه آثر أن يكون قريبًا من الناس وأن يكتب لهم ويكون صوتهم الذي يعبر عن مشاعرهم بأرقى ضروب التعبير الجمالي الذي يصل إليهم ولا يتعالى عليهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى