أقلام

سيد السيرة ومحييها

 

عاش العلامة جعفر مرتضى العاملي “طيب الله مثواه”بداياته وهو يعشق البحث والتحقيق ولكنه لم يرح بدن ركابه في وادٍ علمي بعينه، بل ظل يتجول في أصقاع الفكر ويبعث بقلمه رسولا عنه في هذا الوادي وذاك، فكتب في العقيدة، والتفسير، والفقه، وحتى في النحو العربي ، ولكنه وجد مكانه المناسب وإقامته المشرفة في السيرة المطهرة، فمثلت السيرة الشريفة مشروعه الأول ومثل هو رجلها الأول في هذا العصر!

تأثر بسحر جمالها تأثرا جعله يشيح عن كل راغب إليه في التدريس فلم يستجب لطلبات بعض محبيه في أن يلقي عليهم دروسه التحقيقية في الفقه إلا فترة من الزمن ـ كما حدثني بذلك الصديق والشيخ الفاضل حسان السويدان ـ لم يحتمل معها البعد عن معشوقته السيرة فقدم اعتذاره وطوى أوراقه ونزل مرتمسا في محبرة التاريخ النبوي والوَلَوي خاصة..

وقد جاءت انطلاقته المباركة ـ بحسب تصوري ـ ثمرة من ثمار المجلس العلمي الثلاثي الذي استمر زهاء عشرين عاما بينه وبين السيد مهدي الروحاني والأحمدي الميانجي رحمهم الله جميعا، وهو من المجالس التي كانت تذكر في قم المعظمة ويحضره لفيف من الأعلام والمجتهدين البارزين آنذاك.. وتمخض عن كتاب مشترك بين الأعلام الثلاثة حول فقه وحديث علي عليه السلام عند المذاهب الإسلامية، وقد كان من المقرر طباعته من قِبَلِ جماعة مدرسين، وسنتبين لاحقا أن مسيرته في هذا المشروع لم تتأثر بهذا المجلس فحسب بل إنه مرّ بمحطات أشعلت فيه روح الحماس و عمَّقت لديه العلاقة ببحث السيرة بحثا علميا..

امتيازات بحثه في السيرة المباركة:

1 ــ   الاستقراء المقارن الذي يقارن فيه بين المصادر الإسلامية سنية وإمامية وغيرها من الفرق والمذاهب، فقد كان يعمل بهذا الاستقراء وبشكل مستقصٍ حدا لا يحضرني معه أنه نفى ورود نص أو خبر في موطن فنُقض عليه بالإثبات من قبل غيره  ولا العكس..

2 ــ  الاستقراء المفارق فلا يبدأ بالبحث وطرح النظر إلا بعد أن يفرغ من إبراز الجوامع والفوارق بين النصوص في القضية الواحدة.

3 ــ  فتح باب النقد والتحقيق فيها بالحديث عن كل الوجوه التي تحتملها القضية التاريخية.

 4 ــ  حساب القرائن وهو فن محله البحث التاريخي بل لا يصلح النظر التاريخي إلا به، وهو سبيل خطير سلكه سماحة السيد الفقيد ، فإن ضم القرائن بعضها إلى بعض قد يسقط قضايا تاريخية مشهورة كشهرتهم في تحديد تاريخ موت الخليفة الثاني في شهر ذي الحجة التي أعاد النظر فيها بحساب فني للقرائن التاريخية فكشف عن خطأ ما اشتهر بينهم..

و أخيرا اكتسب البحث التاريخي واجهة علمية اتسعت قليلا من خلال التأسيس لهذه المدرسة التي لم تكن مألوفة من ذي قبل فنهض العلم التاريخي على يد ثلة تعاصروا وتناصروا من أمثال السيد الفقيد، والدكتور سهيل زكار، والشيخ محمد هادي اليوسفي، و ربما كان من ورائهم مَن هم خارج منطقة الضوء.

 

الكوثرة العلمية:

كان التاريخ علما منقطع النسب والصلة بالعلوم الإسلامية الأخرى ولكنه استطاع أن يتفاعل بحدود ما مع بعض العلوم الإسلامية، لا سيما علم الكلام، والتفسير، واللغة، وعلم الرجال والتراجم، وقد نشطت هذه الكوثرة والتفاعل بين جزئيات هذه المواد المختلفة على يد المحقق الفقيد “جعله الله في المرضيين” بصورة واضحة لا تفوت على القارئ، فاستحق ـ عن جدارةـ وسام المتكلم والرجالي والمؤرخ في آن معا..

وقد انبسط ـ في موسوعتيه الصحيح من سيرة النبي الأعظم، و الصحيح من سيرة الإمام علي ـ عدة مطاردات ثمينة للشيخ ابن تيمية وكلها ذات أهمية علمية سبق وأن اقترحت على بعض الأحبة أن يقوموا باستلالها وجمعها في مؤلف مستقل..

التوقيت الموافق:

بعد العقود الأولى من القرن الفائت انبثق الوعي بالسيرة في طرازه الحديث، وتجددت المحاولات في الكتابة عنها وخرجت مؤلفات عديدة لشخصيات مختلفة لا تختلف كثيرا إلا في الذوق الانشائي وطبيعة التبويب، كما أنها لا تتفوق على كتب السرد التاريخي إلا بالقليل من المناقشات والتدقيقات ما أشتهر منها هو:

1ـ في رحاب أئمة أهل البيت عليهم السلام، للسيد محسن الأمين، مأخوذ عن موسوعته الكبيرة “أعيان الشيعة”.

2ـ الموسوعة الشريفة للسيد عبد الرزاق المقرم، غير مكتملة(1).

3ـ الموسوعة الجميلة للشيخ باقر القرشي.

 4 ـ  موسوعة من المهد إلى اللحد للسيد محمد كاظم القزويني.

 ويليها الموسوعات المتوسطة لكل من:

1ـ السيد هاشم معروف الحسني.

 2ـ قادتنا كيف نعرفهم للسيد الميلاني، يحتوي على عدة أجزاء.

 3 ـ سيرة الرسول وخلفائه للسيد علي فضل الله، في عدة مجلدات.

 وإن طابعها شبه الموحد وتوافقها في الأسلوب العام كاد أن يخلق انطباعا يرى فيه الآخرون أن ما قدموه هو منتهى منهج الشيعة وعلمهم في السِيـَر.. ولكنه انطباع تضاءل وانمحق أمام جهود و محاولة السيد جعفر العاملي”زاد الله في شرفه” والذي قد سبح فوق هذه الموجة التي علتْ سطح بحر الثقافة الشيعية في القرن الماضي فانطلق أسوة بكل هؤلاء الذين عاصرهم إلا أنه تميز بما خلف من تركة عظيمة في السيرة لا تفاضل ولا تسابق لا في التخريج، ولا في التدقيق والتحقيق حتى جاءت فائقة في الضخامة والمنهجية على جميع ما طرح بأيدي الدارسين الإسلاميين في هذا العصر.

 

منارة وإثارة:

إن هذا العَلَم الجليل ومن خلال شمولية بحثه لعامة قضايانا الإسلامية والمذهبية من جانبها التاريخي قد حقق منارة علمية باسقة، سواء بما كتبه ضمن الدوائر الثلاث للسيرة(2) أو خارجها من قبيل دراسته لمرحلة أبي طالب(3)، وتحقيقه الضافي لمرحلة الفتوحات(4)، ودراسته للسياسة الملهمة في ثلاثة أدوار من حياة الأئمة عليهم السلام الحسن الزكي فالرضا فالجواد، والتي ربما تقف بالقارئ على الخطوط العامة للثقافة السياسية لدى الشيعة..

ولو عدنا إلى دراساته الثلاث فإننا نرى ـ وبالرغم من هيبتها العلمية وضخامتها الموسوعية التي علت من صرح المنارة العلمية للتاريخ ـ إلا أنها كأي دراسة بكر ليس بالضرورة أن تهب العقول المستقبلة لها ثمرا يانعا بل إنها قد تدس في الألباب لُبَابــاً ولقاحا لتقوم باحتضان جديد للأفكار إلى أن تمخض أو تلد مكونا معرفيا جديدا في هذه القضية التاريخية أو تلك، وهكذا تعمل في ابتكارات هذا العلامة بسنة التعقيب إضافة أو هدما !!

وهنا يبدو جانب الإثارة في أطروحاته المنتشرة ضمن هذه الدوائر الثلاث للسيرة بالذات.. وأنا أشير تحديدا إلى ظاهرة الذوق والتذوق التي أرى أنها منبسطة على بحوثه ويمكن أن يحسها القارئ في شكلين:

أ ) التأويل والتحويل في الروايات: وهذا وفاء منه لمبدأ الشمولية الذي دعاه ليقف على كل رواية في خصوص القضية التي يعالجها فهو يشير بكل أمانة إلى ضعفها ولكنه لا يكتفي بذلك، بل يعمل بكل إخلاص للاحتمال الذي يدور حولها مما يجعله يحولها على ظرف خارجي أو شأن شخصي محتمل وقد يبدو للقارئ غاية في البعد، ولعلني لا أشتبه إن قلت أن هذه المادة كثيرة في دراسته!

ب) الاستبعاد: ربما أبدى موقفا أو ألقى تساؤلا حول قضية من القضايا استبعادا لا استنادا!! كما صنع في حادثة الاسراء والمعراج الشريفة، عندما رفض خبر تخفيف الصلاة باقتراح الكليم موسى وبنى رفضه على تصور أن إبراهيم الخليل كان أولى بأن يبدي هذه الملاحظة وقد مر به النبي قبل أن يمر بموسى!!

ويشابهه رأيه بخصوص رواية تثبيت المسلمين للتاريخ الهجري و موقف علي عليه السلام فيه على ما يحضرني الآن..

بل ربما دعتنا بعض استبعاداته إلى التأمل العلمي فيما يقدمه ومثالي الوحيد في هذه المقالة هو ما تكرر منه من إدراج الحديث التاريخي الذي يختلف في الزيادة والنقيصة في تقديرات وخصائص تخص الحدث أدرجه ضمن الحديث المضطرب وبالنتيجة يكون ساقطا أو ضعيفا من هذه الناحية، وهو الدور الذي تمثله في حديث إنفاق أبي بكر على النبي في خروجه وحديث تقدير مهر أم كلثوم بنت علي عليه السلام(4) بينما المعروف لديهم أن تباين الخصائص واختلاف التقادير لا يتعدى التعارض فيها إلى أصل القضية ولا يمس ثبوتها بشك!

ومهما يكن من حال فإنه يبدو عليه في هذا الموضع وذاك من حالات الاستبعاد ما قد نختلف أو نتفق معه فيه..

 والانصاف أن الذوق والتذوق مما لا يمكن مجانبته لا في الدراسات الاجتماعية ولا في الدراسات التاريخية؛ لأن لها صلة صميمية بالطبع الإنساني العام؛ ولذا من الطبيعي أن يشكل الذوق مساحة ليست بالقليلة التي تنسى في دراسات السيد الفقيد”جعلت الجنة مثواه”، وإن أهمية إعادة النظر فيها تأتي من أهمية اختلاف الأذواق والطباع!

المشروع الكبير في الوقت القصير:

لقد كتب ما ينوف على الخمسين مجلدا في تصحيح سيرة الإمام علي وقفاه بأربعة وعشرين جزء في الإمام الحسين صلوات الله عليهما وقد أسف هو قبل قرائه في أن يأتي توقيت الاشتغال بهذين المشروعين في وقت وافته فيه الأزمات الصحية مما جعله يتسابق مع الوقت ويضاعف من معدل الإنجاز فأنهى ما يزيد على السبعين مجلدا في سنوات معدودة، ولم يفته الاعتذار للقارئ بل قد ازداد إحساسه بالقصور في دراسته حول تاريخ الحسين عليه السلام فواجه القارئ بالاعتراف والاعتذار الصريحين في خاتمة دراسته وأنه لم يكن يجد الفرصة للتدقيق والتحقيق كما هي عادته وأنه كان يبعث بالمسودة إلى المطبعة أي أن مبيضته في هذا الكتاب هي مسودته، حتى أنني ذيلت بعض مجلداته بتعليقات وطرزتها بحواشي غير أني لم أتشجع لنشرها من حيث اعتذر هو رضوان الله تعالى عليه.

وتجدر الإشارة إلى أنه أنجز كتابه هذا في أجواء تفاعلية أشبه ما تكون بمجالس البحث العلمي إذ يتضح لمن يتابع سطوره أنه كان يعتمد على المناقشات المتكافئة بينه وبين محبيه وطلابه حتى أنك لا تكاد تمر بمبحث إلا وأشار فيه إلى هذه الأجواء بمثل قوله: وقال بعض أهل الفضل.. ومما احتمله بعض الأفاضل…الخ. 

وتعليقا على ما لاحظناه من العجلة في التأليف نؤكد أن هذا لا يعني أن ما قدمه في هذا الزمن القياسي بسيطا بل هو فائق المحصول كثير الثمرة والحق أن سطوره وصفحاته تجري بالأذهان عصفا فكريا وتفتح عليها آفاقا بحثية واسعة، الارتحال معها يجعلك تعود بغنائم وأرباح أخرى جديدة، والاختلاف معها لا يضر من حيث هو طبيعي وضروري.

 وفي مختصر القول: إن كتاباته لا تناسب إلا ذوي الهمم والطاقة في مجال البحث والنظر!

 

انفتاح الباحث سمة التواضع العلمي!

التواضع هو طبع وهو موقف دلالته غير محدودة إذ يدل على جمال الروح، ويشير إلى التزام الباحث ووفائه لبحثه، و يبرز صدق موقفه وشفافية روحه، وفي هذا الموضوع خواطر ليست بالقليل مع هذا السيد الجليل”أعلى الله مقامه”

منها: ما حكاه الصديق الحبيب فضيلة الشيخ شوقي الحداد أنه قدم له قائمة بالملاحظات على هوامش كتابه سيرة النبي الأعظم فتقبلها بصدر طيب واعتذر عن الأخطاء بأن هناك لجنة تتابع معه في نقل المصادر.

منها: في شهر 5 من عام 1998 م أقامت الحسينية المهدوية بقم المقدسة حوارية مفتوحة مع سماحته وتلطف الأخوة باختياري لمحاورته وإن الحوار امتد بنا وقته، ولم يبدو منه سوى  الأريحية التي لا تستغرب على العلماء الأفذاذ بالرغم من أن غالبية الأسئلة التي تفاعل بها الجمهور انتقادية ولاذعة في بعض الأحيان!!

ونهاية المقال: إننا نتأدب بأدبه وأدب الأعلام البررة ونلقي باعترافنا بقصور ما قدمنا هنا في التعريف بإنجازه وعطاءه العلمي الطويل

ونستغفر الله من كل قصور وهو حسبنا ونعم الوكيل .

 

 

 

 

كتبه:

عبد الجليل البن سعد

حي المحمدية بالدمام:

29 / 2 / 1441 هـ

 

______________

* هذه المقالة تقدم قراءة مستقلة للمشروع الكبير الذي عني به السيد الراحل وهو السيرة ولا تحمل أي تقييم لنتاجاته وأنشطته الأخرى

(1) و قد اتسمت مؤلفات هذا السيد الجليل بالتحقيق في صورة واضحة.

(2) سيرة النبي الأعظم . سيرة الإمام علي . سيرة الإمام الحسين في التاريخ والحديث صلوات الله عليهم أجمعين.

(3) ظلامة أبي طالب.

(4) ضمن الحياة السياسية للإمام الحسن عليه السلام.

(5) لم يكتفي سماحته بهذه الوجوه في تضعيف هذه الحادثة أو تلك بل حقق فيها من أكثر من وجه ولكن ما ذكرناه خاصة بنقطة التأمل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى