أقلام

الإطراء المزيف والنتائج الكارثية

م. أمير الصالح

بعد يومين من تعيين مربية للصف الأول بواجب عمل فني مدرسي لبنات صغار، في مرحلة الثالث ابتدائي، وفي مطلع الفصل الدراسي الأول، قامت إحدى الطالبات بتقديم عمل، برسمها لوحة فنية زيتية متقنة ومميزة على أن ذلك العمل من إنجازها!. أمطرت مربية الصف بالثناء والإطراء المفرط على الطالبة المدعية لإنجاز العمل، مربية الصف تغافلت عمن قام بإنجاز العمل، وأغدقت الفتاة بالمدح على ما لم تعمله بيديها، وإنما هو موظف آسيوي بإحدى القرطاسيات المتناثرة أو محلات الخط. أحست كل الطالبات الصغيرات الأخريات، بأنهن مهما تفانين في التدريب والعمل لتعلم مهارات استخدام الفرشاة ودمج الألوان، فإنهن لن يبلغن نفس مستوى الإنجاز والإتقان الذي قام به موظف القرطاسية الآسيوي وانتحلته زميلتهن على أنه من عملها، وعليه أصيبت معظم الطالبات المثابرات بلون من ألوان الإحباط.

هكذا تشجيع مزيف من قبل ربة الفصل الدراسي لإنجاز وهمي لمن لم يقم بالعمل بنفسه هو مواز لتوزيع نياشين وأوسمة وألقاب علمية كبيرة دونما استحقاق فعلي يُذكر. هذه القصة أطرقت مسامعي قبل شهر تقريبا، فاستحضرت من ذاكرتي عدة مواقف عن سلوكيات وتكريمات مزيفة انتهت إلى تدمير بيئة العمل الاجتماعي والعمل الوظيفي.

أشارككم أيها القراء الكرام بقصتين من الواقع، ولكم الحرية التامة في استقراء الحادثة وتجنب الوقوع في نفس السلوك الغير سوي والذي لا يستسيغونه نفسيا و أخلاقيا.

القصة ١:
عملت مع أحد المدراء المباشرين وقد لاحظت تباين وتناقض أدائه وكلامه عند مقابلته الموظفين في الاجتماعات المباشرة عما يرسله من تعليمات أو تقارير عبر الرسائل الالكترونية أو يصدر منه من أفعال. تفحصت الوضع من عدة زوايا فانكشف لي بعض من المستور عن شخصية ذاك الإنسان وهو أن ذاك المدير المباشر، مجرد ديكور، وهو في الواقع مدير أجوف علما، وفاشل إداريا لضعفه المعرفي واللغوي والذوقي وانتحاله أعمال وإنجازات غيره تارة سطوة وتارة خداعا، والتملق بإنجازات موظفيه أمام بعض مدراءه. و كان ذاك الشخص يحب أن يُمدح بما لم ينجزه حتى أصبح عرفا غير مكتوب بين من يرأسهم من الموظفين أنه لا يمكن إطلاق أي مقترح أو عقد أي محاضرة أو تقديم أي ورقة عمل إلا إذا أدرج إسم ذاك الشخص أولا ضمن قائمة أسماء فريق العمل دونما أي عمل من طرفه!. و كان المدير العام يكيل الثناء والإطراء والمدح لذاك المدير المباشر (سارق جهود موظفيه) بأمور وإنجازات انتحلها؛ واتضح لي بالتمحيص والتحقيق بأن طفولة ذاك المدير المباشر قائمة على التدليس والغش والتزوير منذ أيام مقاعد الدراسة حتى استحصل شهادته الأكاديمية بطرق ملتوية وشراء الذمم. نمى في الشركة التي يعمل بها وكبر غشه وتدليسه واستخدام علاقاته، واكتشفت أن كل خطاباته وايميلاته والتقارير المكتوبة باسمه ومسودات الندوات وحتى انهاء دوراته التدريبية عن بعد e-learning تتم عبر مجموعة موظفين يعملون بإدارته تحت امرته من الموظفين الآسيويين والمواطنين!!!. المشكلة أن بعض المدراء العامين، كانوا يسوقون لترشيحه لتبوء مركز قيادي في إحدى إدارات الشركة، والمشكلة الأفظع، أن ذلك الشخص عايش الدور. وبالفعل تم تمكينه واستشرى شره على الناس حتى نفر معظم الموظفين المميزين من المواطنين عن طريق مخرج التقاعد المبكر، والأجانب عن طريق مخرج الاستقالة. وأضحت دائرته شبه عزبة أو مزرعة خاصة له ولأحبابه وبعض الموظفين الآسيوين المتزلفين وبعض من أولئك الآسيويين يحملون جوازات زرقاء، إلا أن عقليتهم عقلية عمال تنفيذيين لمقاول!!

القصة ٢:
تلقيت قبل مدة زمنية خبر نعي أحد الشخصيات الأهلية وهو من الوسط الاجتماعي العام، إلا أن ما لفت نظري في الخبر هو مجموعة الألقاب التي تقدمت إسم الشخص المراد نعيه، من منظور عملي، تكاد أن تكون معظم الألقاب المذكورة إن لم تكن كلها في حق الشخص المنعي، نابعة من عاطفة جياشة وغير موضوعية لكاتب صيغة الدعوة لنعي الراحل، ودون مراعاة لعقول الناس واحترام التصنيفات العلمية للألقاب. قد لا يستفيد الراحل من جملة الألقاب المصبوغة عليه بعد رحيله، ولكن حتما، تلكم الألقاب إن تم الإمعان في تسويقها وتناقلها عبر الأنام و الأيام فإنها ستوثب أبناء الراحل وأحفاده لانتزاع وجاهة مدعاة أو تقمص مكانة اجتماعية على حساب بعض أبناء المجتمع العصاميين والمكافحين والمتفوقين. المشكلة الأفظع هي أن أبناء الراحل ومعظم أقاربه يعيشون الدور وينسجون قصصا وبطولات ومواقف وعنتريات ليس لها أصل، تعظم وتبجل الراحل. والواقع أن الشخص الراحل أيام حياته لم نسجل له موقفا بطوليا واحدا وليس له أي أثر علمي، ككتب علمية أو بحوث، وليس له وقف ريعي خيري. وإنما هي سرديات قصصية مبجلة له يطلقها عليه بعض أبناءه وأحفاده مع العلم أنه لم يكن أيام حياة الراحل، أي مانع خارجي يحجب الناس عن الاطلاع على بطولاته حين وقوعها. فموضوعيا يجب احترام عقول الناس وعاطفيا وأدبيا لا يحق للأبناء والأحفاد من أي طيف اجتماعي، مزايدة المجتمع لأخذ مكانة واكتساب حضوة.

في استنكار التزييف والخداع، يتناقل الناس العبارات التالية في الواتس اب ولم أقف على مصدرها ولابأس أن نوردها هنا بتصرف:

– ما ذنب العنب إذا صار خمرا؟
– وما ذنب اللحية إذا أطلقها رجل فاسق؟
– وما ذنب النقاب إذا لبسته عاهرة؟
– وما ذنب الصلاة إن كان صاحبها كاذبا؟
– وما ذنب الثقافة إن ادعاها فاجر؟
– وما ذنب الرياضة إن مارسها مخادع؟
– وما ذنب التجارة إن اشتغلها محتال؟
– وما ذنب الصداقة إن خانها فاجر؟
– وما ذنب الشرف إذا دنسه فاسق؟
الذنب سيكون ذنب الإنسان إن خُدع بتلك الأصناف البشرية المتلونة أو لكون الإنسان تكاسل أو لم يسعى لتحصين نفسه من المزيفين والمزيفات.

و هذه الجمل تتضمن دعوة ذكية واستشهادا حكيما لضرورة تفعيل الوعي والتمحيص وأدوات التنقيب المعرفي لتجاوز المطبات والفخاخ والصدمات وعلى كل منا تفعيلها ليعيش بسلام واستقرار نفسي.

أتدارس مع القراء الكرام، بأنه لابد من التمييز بين المجاملة المعقولة والإطراء المزيف والجلد المحطم والتغافل المحمود. أضحى من المؤكد بأن الإطراء المزيف قد يؤدي إلى نتائج كارثية، بتبوء من لا يستحق، لمكان مؤثر على الكثير من الناس؛ وكذلك النقد اللاذع المحطم قد يؤدي لكوارث اجتماعية بتهشيم وتهميش معظم عناصر وكوادر النجاح داخل المجتمع؛ لذا من الجميل الإلتزام بالقاعدة الأخلاقية: (لا تقف ما ليس لك به علم) فيما لم تدركه ولا تصفق مع المصفقين دون دراية ولا ترمي حصاة ضد الآخرين لمجرد المحاكاة. الوعي والنقد الموضوعي والرشد والعقلنة والبصيرة واستخلاص العبر من قصص التاريخ وتلمس بوصلة الحق والحقيقة وتناقل التجارب المفيدة، أدوات وملاذات آمنة عندما تضرب شواطئ مجتمعنا عواصف التزييف من كل اتجاه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى