أقلام

المكتبة كحبرٍ للأنفاس عند أحمد الرويعي

محمد آل عمير

في مسافات الأبجدية، هنالك دكة تركن إليها تكتب عالمك الوجداني، تسير مع أحرفها باتجاه الارتواء كيلا تظمأ روحك للبحث في ماهيات التأمل وبواعث الحكمة، وكأن الروح غصناً ينمو في جذور الأتربة القديمة، بدروس تصيغها مواسم الريح وحكاياها.

تمضي بك المسافات وتنهل منها سراجاً للعبور من عصور مضت وتراكمت في دوائر العوالم التي لم تكتشفها بعد في كوامن ذاتك.

لماذا الارتواء؟
لأن السؤال بحد ذاته ارتواء قبل أن يكون إجابة، والإجابة تسطع كجدول مائي تتجدد فيه الأسئلة دون انقطاع.

ويحدث أن يكون السؤال
كفضول الكائن الهارب من شتاته، أو يكون كسيرة ذاتية مكثفة تصيغ للذات رسالتها ورؤيتها على هذه المعمورة.

والارتواء يبعث على اليقظة، وعلى النهوض من سبات اليأس إلى إشراقة الكفاح، لأن الكفاح ضرورة قبل أن تكتب أو تقرأ، ضرورة قبل أن تكتب آمالك،
ضرورة قبل أن تؤثث ذاكرتك، ضرورة قبل أن تقرأ ذاتك.
هنا يترجم الرويعي بعضاً من أنفاسه عبر مصفوفة متراكمة من دهاليز الأوراق ورائحة الكتب حينما تتصفحها لأول مرة.
يقول الرويعي في نظرته للمكتبة:
هذا عالمي، أحتجّ به على الأشياء بالطّريقة التي أريد، يجعلني أتخفف كطفل، وأتمايل كغصن في شجرة مطمئنة، تبدو الكتب على الأرفف كما لو أنّها أبواب معلقة في الهواء، وأنا مُسَيَّرٌ لها مسير الروح في برزخٍ حر.
من بين يراع الشاعر تتكون للمكتبة أبواب ودهاليز تعيش من بين الأرفف تحثه على السكون أمام لوحة المفاتيح الإلكترونية ساعة، ساعتين، ثلاث ساعات، أو ربما أياماً قبل أن يصوغ حرفاً واحداً يحل كضيفٍ جديد في بوح السطور.
يقول الشاعر أحمد الرويعي:
في الكثير من الأحيان أذهب للكتابة ومعي قهوتي وأفكاري وخططي لبناء القصيدة، وأقضي ساعات طويلة دون أن أكتب أي حرف واحد، لكني لا أحزن، لأني إن لم أكتب فأنا مارست الانغماس ولو لم يتحقق بشكل كامل، فأنا نلت شرف زيارة مخيلتي، ومشيت بين الصور في أزقة الذاكرة.
هنا بين أهداب المكتبة، يحدث أحياناً أن تنطلق رائحة البخور المنبعثة بهدوء عابر، تحث على البحث المستمر حول إيقاعات لا تخلو من الغم تارة ولا تخلو من البهجة تارة أخرى.

ما بين الشعر والرواية تستنطق الجدران صوتها الداخلي أمام ملامح المكتبة، حتى القهوة يصبح البُن فيها جزء من حبر الأرفف وقريباً من أوكسجين الدهشة ومدارك المخيلة.

في معجم الكتابة عند الرويعي؛ لعل القصيدة هي التي ألحت عليه كي يؤثث مكتبة تتمازج فيها عناوين متكونة من الشعر بأنواعه، النثر والدراسات الأدبية، الرواية والقصة القصيرة، الشذرات المختزلة من وحي اللغة
وملامح من سير ذاتية، ووجهات من الأدب العالمي المترجم.

ويحتمل أن تكون المكتبة هي التي كتبت في وجدان الرويعي فصولاً من التساؤلات واختبرته كيلا يغفل يوماً عن دروس التفكر في كوامن المعنى نحو تجليات القصيد.

يرسم في الكلمات الأولى نقشاً يستلهمه من نقوش الكهوف التي اختلطت بعوامل التعرية الزمنية القديمة، يتسائل عن الأبجديات الهَرِمة وعن المعادن التي تتشكّل وتتغير مع تغير الليل والنهار مع مرور السنين في سديم الوقت.

المكتبة تتنفس بأنفاس الساكنين في أعماق لغتها
والوقت رهين بتراكم المعارف والتجارب وتناغم الإلهام بالتمارين الكتابية.

وما بين المكتبة والقصيدة جسر يحيك الأنفاس بالآهات والهموم، ويرتبط مع البشائر والأمنيات.
وهنالك تعبر الأنفاس إلى آمالها، وتبوح للآفاق بسعي حثيث، والأنفاس تمضي مع الذاكرة كروحٍ تكتشف كينونة الأبجدية ما استطاعت لذلك سبيلا.ً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى