أقلام

الجود في حياة الإمام الجواد -عليه السلام

أمجد الأحمد

عاش الإمام محمد الجواد -عليه السلام- حياة قصيرة لم تتجاوز 25 سنة إلا أنّها كانت حياة مباركة زاخرة بالعطاء في مختلف مجالاته.
“وقيمة حياة الإنسان ليست في الامتداد الذي تتلاحق فيه ساعات الزّمن، بل في العمق الذي يعطي للزّمن القيمة والحركة والفكر والانفتاح، بالمستوى الذي نشعر بأنّ ساعة من الزمن تعادل سنوات طوالاً، فكم ساعة من ساعات الذين اكتشفوا والذين أنتجوا وأثروا بأعمالهم الحياة، تعادل بعطائها العميق ألف سنة من أعمار الكسالى والخاملين! فالمسألة، إذًا، ليست في امتداد الحياة على مستوى الطّول، وإنّما في امتدادها على مستوى العمق.”

يقول الشاعر:
هي الحياةُ انتقالاتٌ مفاجئة لا الطولُ مقياسها الأسمى ولا القِصَرُ
تخلّدُ المرء وقفـاتٌ وترفعُه إلى ذُرى المجــد ساعاتٌ هي العُمُــرُ

والإمام الجواد -عليه السلام- برغم قِصَر عُمُرِه، يأتي في طَليعةِ العُظماء الذين خلّدهم التاريخ بقيمِهم، وبعطَائِهم للمجتمع الإنساني.
وبمناسبة ذكرى وفاته -عليه السلام- نقف عند صفة من صفاته الكريمة التي اشتهر بها وهي صفة (الجود) حيث كانت حياته تجسيداً لهذه الخصلة النبيلة حتى لُقِّب (بالجواد).
يقول الذهبي، أحد أبرز المؤرخين من أهل السنّة والجماعة في كتابه (تاريخ الإسلام) عن الإمام الجواد، أنه عليه السلام: “كان أحد الموصوفين بالسّخاء، فلذلك لقب بالجواد”.
وقال ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة): “محمد بن علي الجواد كان من أعيان بني هاشم وهو معروف بالسّخاء والسّؤدد ولهذا سمّي الجواد”
وصور الجود في حياة الإمام الجواد عليه السلام متعددة منها:
الصورة الأولى: الجود المالي
وقد نقل المؤرخون قصصاً كثيرة عن سخاء الإمام الجواد عليه السلام.
ومن ذلك ما ورد، بأنّ أحمد بن حديد قد خرج مع جماعة من أصحابه إلى الحج فهجم عليهم جماعة من السُرّاق ونهبوا ما عندهم من أموال ومتاع، ولما انتهوا إلى يثرب انطلق أحمد بن حديد إلى الإمام محمد الجواد، فأخبره بما جرى عليهم، فأمر عليه السلام له بكسوة وأعطاه دنانير ليفرّقها على جماعته وكانت بقدر ما نُهب منهم.
وفي هذه الصورة الرائعة إشارة إلى أن الإمام عليه السلام لا يردُّ سائلاً بل يسارع إلى قضاء حوائج الناس وكشف الكربة عنهم.
ولم يكن عطاء الإمام عليه السلام معلقاً على سؤال المحتاج بل أكثر عطاءه كان ابتداءً منه قبل السؤال ولذا لقب (بالجواد).
وفي تعريف (الجود) يقول اللغويون: الجود كثرة العطاء من غير سؤال للناس والتعفف عما لديهم.

يقول الشاعر:
وما الجود من يعطي إذا ما سألته ولكن من يعطي بغير سؤال

فالجواد هو مَن يمتاز عطاءه بميزتين:
1- أنه عطاء كثير 2- عطاء بدون سؤال
وهكذا كان إنفاق الإمام الجواد عليه السلام ينفق الكثير الكثير من المال سنوياً على الفقراء والمحتاجين بدون سؤال حفظاً لكرامتهم وصوناً لماء وجوههم.
ذكر الصَفَدي وهو من أعلام أهل السنة في كتابه (الوافي في الوفيات) عن الإمام الجواد عليه السلام: “وكان يبعث إلى المدينة في كل عام بأكثر من ألف ألف درهم… وكان من الموصوفين بالسخاء ولذلك لقب الجواد”
رؤية جوادية في الإنفاق
طرح الإمام الجواد -عليه السلام- رؤية قيمية حضارية للعطاء والبذل.
ورد عنه -عليه السلام- أنه قال: “ما عظمت نعمة الله على أحد إلا عظمت عليه مؤونة الناس، فمن لم يحتمل تلك المؤونة عرّض النعمة للزوال”.
يبين الإمام -عليه السلام- للإنسان أن كل نعمة يتفضل بها الله عليك فإنه تعالى يحمّلك مسؤولية تجاهها أن تشرك الآخرين في هذه النعم
فالمنعم تبارك وتعالى حينما ينعم عليك بنعمة العلم أو المال أو القوة أو الجاه بمقدار هذه النعم تصبح مقصداً للمحتاجين.
فالحذر الحذر أن تتعامل مع هذه النعم على أنها حكر عليك وحدك ولا تبذلها للناس فإن الله تعالى يقول: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّ الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء”.
ونستفيد من كلمة الإمام الجواد (ع) السابقة أن هناك نسبة وتناسبًا بين نِعَم الله على العبد وبين حاجات الناس إليه، فعدم تحمّل حاجات الناس يتسبب في زوال النعمة بأحد طريقين: إما من خلال زوال النعمة نفسها، أو زوال الإنسان ذاته ومفارقته لتلك النعمة.
يقول تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم 7]
وفي كلمة أخرى للإمام الجواد -عليه السلام- يكمل هذه الرؤية لتكون منطلقاً للبذل والإنفاق في سبيل الله تعالى يقول:” أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه، لأنّ لهم أجره وفخره وذكره، فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنما يبتدئ فيه بنفسه”.
هذه الرؤية الرائعة تحصّن الانسان من الوقوع في فخ المنّ والعُجب والرياء الذي يبطل العمل ويذهب بأجره يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة 264].
كيف للإنسان أن يحمي نفسه من الشعور بالخسارة حينما ينفق؟ أو من الشعور بالعُجب والاستعلاء إذا أسدى خدمة للآخرين؟
الإمام الجواد -عليه السلام- يقدّم لنا العلاج في بيان أن الإنسان أحوج للإنفاق والبذل من الفقير الذي يأخذ منه.
وبالتالي من يمتنع عن الإنفاق ويستثقل ذلك فهو الخاسر في الواقع؛ لأنه أحوج لعمل المعروف من أهل الحاجة إليه. لماذا؟
أولاً: “لأن لهم أجره”
فأهل المعروف ينالون الثواب العظيم من الله تعالى وقد تحدث القرآن الكريم في آيات كثيرة عما أعده الله لعباده المنفقين ومن تلك الآيات الكريمة قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262].
ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29].
ويقول تعالى: {آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7].
وعن الإمام الجواد -عليه السلام- أنه قال: “إن للجنة بابًا يقال له باب المعروف لا يدخله إلا أهل المعروف”
ولكن مشكلة الكثير من الناس يستغرقون في المطالب الدنيوية ويقصرون نظرتهم على الأمور المادية ويغفلون عن الأجر الإلهي وعظم شأنه في الآخرة يقول تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم 7].
ثانياً: “وفخره”
إضافة للأجر الإلهي الذين يحصلون عليه أهل المعروف في الآخرة لهم الفخر في الدنيا والمكانة بين الناس حيث أنّ الجود والعطاء يكسب الإنسان المحبة في قلوب من يحسن إليهم وتكون له السيادة والوجاهة فلهم الفخر حيث يُعرفون بأنهم أهل المعروف كما يكون لهم الفخر في الآخرة أيضا.
ورد عن الإمام الجواد عليه السلام أيضاً أنه قال: “أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة”.
ثالثاً: “وذكره”
أهل المعروف لهم الذكر الحسن بعد موتهم وهذا عمر ثاني يعيش به أهل المعروف بين الناس حيث تغيب شخوصهم ولا يغيب ذكرهم ومجدهم وآثارهم وهذا الذكر الحسن الجميل سبب لنزول الرحمات الإلهية عليهم ورفعة مقامهم عند الله تعالى

يقول الشاعر:
فارفع لنفسك بعد موتك ذِكْرَها فالذِّكْرُ للإنسان عمرٌ ثاني

ثم يختم الإمام الجواد عليه السلام كلمته الرائعة هذه بقوله: ” فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنما يبتدئ فيه بنفسه”

يقول تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء 7].
ويقول تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ} [البقرة 110].

فكل ما يقوم به الإنسان من عمل المعروف فإنه يقدّم لنفسه ويحسن لنفسه فهو الرابح الأول حيث له الأجر والفخر والذكر
كما قال الإمام عليه السلام. وبهذه الرؤية الجوادية الرائعة يندفع الإنسان نحو الجود والعطاء بنفسية متزنة وبأخلاق فاضلة بعيداً عن العُجب والرياء وما شابه.

الصورة الثانية: الجود الأخلاقي
الجود الأخلاقي يكون بالابتسامة في وجوه الآخرين، وبالعفو والتسامح، وبالكلمة الطيبة
عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “تبسمك في وجه أخيك صدقة”
وعنه (ص): “الكلمة الطيبة صدقة”
قد يكون الإنسان جواداً في بذل المال على زوجته وأبنائه أو على المحتاجين من أبناء مجتمعه ولكنه شحيحاً في أخلاقه.
يبخل بطلاقة وجهه، ويبخل في إظهار مشاعره الإيجابية تجاه الآخرين ويبخل في قول الكلمة الطيبة للناس، يبخل في العفو والتسامح ويمسك على العداوة والحقد.
إذا تأملنا في آيات القرآن الكريم والنصوص الإسلامية نجد أن العطاء الأخلاقي يتقدم على العطاء المالي يقول تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة 263].
أن تبتسم في وجه زوجتك وأبناءك وتتحدث معهم بالكلام الجميل الحسن وأن تتعامل بأخلاق فاضلة مع الناس أولى من أن تغرقهم بالأموال الكثيرة وتشبعهم من الطعام اللذيذ وتكسوهم من الثياب الفاخرة ووجهك عبوس وكلامك حاد وتعاملك فظ غليظ.
الإمام الجواد -عليه السلام- لم يكن جواداً بأمواله فقط بل كان جواداً بأخلاقه العالية والتي هي امتداد لأخلاق جده الرسول (ص) {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٌ عَظِيمٍ} [القلم 4] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران 159].
ورد عن الإمام الجواد -عليه السلام-: “عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه”.
وفي هذه الكلمة بيان المعيار الصحيح للإيمان الحقيقي الواعي فالإيمان الصادق يتجلى في أخلاق الإنسان وحسن تعامله مع الناس وليس في الطقوس والمظاهر الشكلية والممارسات الولائية الفارغة من مضمونها الحقيقي.
ويحذّرنا الإمام الجواد -عليه السلام- من مُعاداة الناس فيما ورد عنه أنه قال: “لا تُعادِ أحداً حتى تعرف الذي بينه وبين الله تعالى، فإن كان محسنا لا يسلمه إليك، وإن كان مسيئاً فإن علمك به يكفيكه فلا تُعاده”
فالإنسان العاقل المؤمن يتجنب معاداة الناس لأنه يخشى أن يقع في معاداة ولياً من أولياء الله وهو لا يعلم أو ينكّد حياته ويلوث روحه بوسخ العداوة.
فحينما تجد نفسك تأمرك بمعاداة أي أحد من الناس عليك أن تفكر أن هذا الشخص لا يخلو من أحد أمرين: إما محسن أو مسيء
فإن كان محسناً بينه وبين الله فإن الله تعالى لا يسلمه ولا يضيّعه بل يدافع عنه يقول تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج 38].
قد يعجل الإنسان في اتخاذ عدو بسبب سوء ظن فيه أو لأنه سمع عنه ما لا يرضيه فيحمل عنه صورة سيئة ويحاربه لاعتقاده أنه منحرف وضال ويريد الشر للدين وأهل الدين، وفي آخر المطاف يُفاجأ بأنّ ذلك الذي اجتهد من محاربته هو مِن أولياء الله ومنزلته عند الله عظيمه، ويحدثنا القرآن عن هذه الصدمة التي تصيب البعض حينما يدخل النار ولا يرى أولئك الذين اعتقد أنهم من أهل النار وحاربهم في الحياة الدنيا واجتهد في معاداتهم.
يقول تعالى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:62-64].
وإن كان عدوّك مسيئاً فعلمك بإساءته تكفيك للحذر منه والابتعاد عنه فلا تعاديه. لأن العداوة تمرض القلب وتشغل الفكر وتلوّث النفس وتهدد الدين فالعداوة تحرك صاحبها لارتكاب المحرمات وبالتالي يقع فيما يسخط الله.
فالمؤمن بعيد عن العداوات والخصومات لأن الإيمان يجعل قلب الإنسان ينبض بالحب والتسامح والصفاء لجميع الناس.

الصورة الثالثة: الجود بالوجاهة والمكانة الاجتماعية
من نعم الله تعالى على الإنسان أن يحظى بمكانة مرموقة في مجتمعه ويكون من أصحاب الوجاهة الذين يفزع إليهم الناس في قضاياهم ومشاكلهم، وهذه فرصة مهمة ونعمة جليلة، على الإنسان أن يسعى في قضاء حوائج الناس وتنفيس كربهم من خلال شخصيته ومكانته وعلاقاته
لا أن يسخّر علاقاته ووجاهته لمصالحه الشخصية الذاتية وإنما يجعلها وسيلة للجود على الناس في تخفيف معاناتهم والتفريج عنهم.
من صور الجود في حياة الإمام الجواد -عليه السلام- الجود بوجاهته ومكانته ومحبته في قلوب الناس استثمر كل ذلك في اصلاح ذات البين وقضاء حوائج الناس والتخفيف من معاناتهم وحل مشاكلهم.
روى أحمد بن زكريا الصيدلاني عن رجل من بني حنيفة من أهالي (بست وسجستان) قال: رافقت أبا جعفر(الجواد) في السنة التي حجّ فيها في أول خلافة المعتصم فقلت له: إنّ والينا جعلت فداك رجل يتولاكم أهل البيت ويحبكم وعليّ في ديوانه خَرَاج، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إليه بالإحسان إليّ.
فأخذ القرطاس وكتب: “بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإنّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً وإنّ مالك من عملك إلا ما أحسنت فيه، فأحسن إلى إخوانك، واعلم أن الله عز وجل سائلك عن مثاقيل الذرّة والخردل”
قال: فلما وردتُ سجستان سبق الخبر إلى الحسين بن عبد الله النيشابوري وهو الوالي فاستقبلني على فرسخين من المدينة فدفعت إليه الكتاب فقبّله ووضعه على عينيه، وقال لي: حاجتك؟ فقلت: خَرَاج عليّ في ديوانك قال: فأمر بطرحه عني وقال: لا تؤدِ خراجاً ما دام لي عمل، ثم سألني عن عيالي فأخبرته بمبلغهم، فأمر لي ولهم بما يقوتنا وفضلاً، فما أديتُ في عمله خراجاً ما دام حيّاً، ولا قطع عنّي صِلته حتى مات.
وقد تحقق كل ذلك ببركة الإمام الجواد -عليه السلام- ورسالته إلى الوالي.

الصورة الرابعة: الجود العلمي
من صور الجود في حياة الإمام الجواد -عليه السلام- الجود بما أعطاه الله من علم ومعرفة يرشد به الناس ويدّلهم على الله تعالى ويرفع مستوى إيمانهم ووعيهم وبصيرتهم.
ومع قِصر عمر الإمام الجواد -عليه السلام- إلا أنّه ملأ المرحلة التي عاشها بما يستطيع من العلم والحكمة والروحانية مما ساهم في ترسيخ الثقافة الإسلامية وتعميق الرؤية الفكرية للإسلام، حتى بلغ عدد الرواة عنه 272 راوٍ يروون عنه الحديث بين رجل وامرأة وكان من بينهم شخصيات بارزة مثل: علي بن مهزيار، أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، زكريا بن آدم، محمد بن إسماعيل بن بزيع، الحسين بن سعيد الأهوازي، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، وكان لبعضهم تأليفات ومصنفات في مختلف حقول المعرفة الإسلامية.

وترك آثاراً علمية جليلة نقرأها فيما يلي:

أولا: الحِكم والمواعظ القصيرة والتي تختصر أفكاراً عميقه كحِكم جدّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
ومِن الحِكم الجوادية إضافة لما تمّ ذكره آنفاً قوله -عليه السلام-:
“لا تكن عدواً لله في السر ووليّاً له في العلانية”
“كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة”
“من عمل على غير علم كان ما يُفسد أكثر ممّا يُصلح”
“ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار ولين الجانب وكثرة الصدقة”
“من أطاع هواه أعطى عدوّه مناه”
“من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة”
“إيّاك ومصاحبة الشرير فإنه كالسيف المسلول، يحسن منظرُه ويقبح أثَرُه”
“فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء”
“من سلامة الإنسان قلة حفظه لعيوب غيره وعنايته بإصلاح عيوب نفسه”

ثانيا: أدعيته
من الأساليب التي اعتمدها أهل البيت عليهم السلام في بث العلوم والمعارف أسلوب الدعاء حتى وردنا عنهم (ع) الكثير الكثير من الأدعية ومنها أدعية الإمام الجواد -عليه السلام- التي احتوت على مضامين توحيدية عالية تقوي من ارتباط المؤمن بالله تعالى والتوكل عليه عز وجل.
ومن أدعية الإمام الجواد -عليه السلام- في الثناء على الله عز وجل:
” يا ذا الذي كان قبل كل شيء ثم خلق كل شيء ثم يبقى ويفنى كل شيء وياذا الذي ليس في السماوات العلى ولا في الأرضين السفلى ولا فوقهن ولا بينهن ولا تحتهن الهٌ يُعبدُ غيرُه”.

ومن أدعيته -عليه السلام- في طلب خير الدنيا والآخرة:
“يا مَن أظهر الجميل، وسترَ القبيح، ولم يهتك الستر عنّي، يا كريم العفو، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا كريم الصفح، يا عظيم المنّ، يا مبتدئ كل نعمة قبل استحقاقها، يا رباه، يا سيداه، يا مولاه، يا غياثاه، صل على محمد وأهل بيته، وأسألك ألا تجعلني في النار” ثم تسأل ما بدا لك.
هذا نموذجين من أدعيته المباركة وعلى القارئ العزيز أن يراجع كتب الأدعية ليتعرف على المزيد من أدعية الإمام ويتأمل في مضامينها.

ثالثا: احتجاجاته وحواراته
ذكر المؤرخون مجموعة من الحوارات والاحتجاجات للإمام الجواد -عليه السلام- ومن المهم الاطلاع عليها والتأمل في أجوبة الإمام -عليه السلام- ونتعلم منها أسلوب الحوار والاستدلال العلمي الممزوج بكامل الأدب والأخلاق التي يجب يتحلى بها كل إنسان في حواره مع الآخرين
ومن تلك الحوارات المهمة حوار الإمام الجواد -عليه السلام- مع قاضي القضاة في عصره (يحيى بن أكثم) حول الخليفة الأول والثاني وفيه دروس بليغة مهمة باعتبار أنّ هذا الموضوع حسّاس عند المسلمين وكأن (يحيى بن أكثم) يريد إحراج الإمام الجواد -عليه السلام- بالسؤال عن الشيخين ظنّاً منه أنّ ذلك يستفز الإمام فيتحدث عن الخلفاء بطريقة تثير سخط عامة المسلمين فيوقع الفتنة بين الإمام وأتباعه وبين الطوائف الإسلامية الأخرى
فقال يحيى بن أكثم: ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي: أنّه نزل جبرئيل -عليه السلام- على رسول الله (ص) وقال: يا محمّد! إنّ الله عزّ وجلّ يقرؤك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عنّي راضٍ فإنّي عنه راض.
فقال الإمام الجواد-عليه السلام-: “لستُ بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله (ص) في حجة الوداع: قد كثرت عليَّ الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله عز وجل وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله،
قال الله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سرّه؟ هذا مستحيل في العقول!”

ولنقف عند هذا المقطع من الحوار لنتأمل في جواب الإمام الجواد (ع)
أولا: نلاحظ أن الإمام (ع) حينما سمع مقالة يحيى بن أكثم لم يواجهه بالسخرية والاستهزاء ولا بالإساءة للخليفة الأول وإنما ابتدأ الجواب بكلمة تفتح قلب الطرف الآخر عليه وتعطي صورة عن الإمام أنه رجل موضوعي ومنصف في تقييمه للآخرين فقال: “لستُ بمنكر فضل
أبي بكر” فأنا لا أنطلق في محاكمتي لهذا الخبر من منطلق عداء شخصي أو تحامل على الخليفة يجعلني أرفض أيّ فضيلة تُنقل في شأنه وإنما أعرض هذا الخبر على موازين العقل والكتاب والسنة فإن وافق ذلك أقرّ به ولا أنكره وإن خالف العقل والكتاب والسنة أعرضتُ عنه وفق المنهج الذي أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله.
وفي هذا دلالة على منهج أهل البيت عليهم السلام في احترام رموز الآخرين فلا يتحدثون عنهم بأساليب التهريج والاستفزاز التي تثير الشحناء
ثانيا: استناد الإمام الجواد -عليه السلام- على القرآن الكريم في أجوبته وحواراته ليكون القرآن هو المحور الذي تدور حوله أفكارنا وهو الدستور الذي نأخذ منه أحكامنا وعقائدنا وأخلاقنا ومفاهيمنا.
وهذا منهج أهل البيت عليهم السلام في كل حواراتهم واحتجاجاتهم يجسدون الإسلام الأصيل في منطقهم العلمي وفي سموهم الروحي وفي سلوكهم الأخلاقي.
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على ولايتهم ويوفقنا للسير على نهجهم والاقتداء بهم وأن يتقبل منّا هذا القليل بكرمه إنه وليَ التوفيق.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى