لعبة الفهد – الحلقة السادسة: وكر الشياطين

إبراهيم الرمضان
كانت ناهد منغمسة في إعداد كمية كبيرة من الحلوى، وكأنها في سباقٍ مع الزمن. لم يكن اليوم كأي يومٍ آخر؛ فهناك مناسبة ضخمة لأبي مشاري، لدرجة أن الطلبات لم تقتصر على صنف واحد، بل صحون متعددة الأنواع بأحجام كبيرة، وكأنها ولائم تُجهَّز بمناسبة مرور مليون سنة على انقراض آخر ديناصور!! كانت تعلم أن هذه الولائم ليست مجرد استعراض للبذخ، بل خلفها أهداف أبعد، وربما أسرار أخطر، فحين يجتمع الشياطين حول طاولة واحدة، لا يكون الطعام هو الشيء الوحيد الذي يتم التهامه!
في الوقت ذاته، كان موظفو الحراسات الأمنية يراقبون الشاشات بانتباه، أعينهم تتابع كل حركة داخل الفندق، بينما صدرت الأوامر بمضاعفة اليقظة بعد السرقات الغامضة التي وقعت مؤخرًا. بعضهم تساءل عن مصير “العم العجوز”، صاحب الحساء المتكرر، الذي اختفى فجأة وكأنه تبخر.
ولكن، قبل أن يتمكنوا من إنهاء تساؤلاتهم، انطفأت جميع الشاشات دفعة واحدة. تحولت غرفة الكنترول إلى مساحة من الظلام الإلكتروني وسط ذهول جميع المراقبين. قبل أن يتمكن أحدهم من استيعاب ما يحدث، أضيئت الشاشات مجددًا، ولكن بدلًا من الكاميرات الأمنية المعتادة، ظهر أمامهم اسم واحد على الشاشة، يتوسط الخلفية السوداء بخطٍ مشفرٍ أبيض: X-Shadow.
ساد الصمت للحظة، لم يكن هناك أية رسالة أخرى، فقط تلك الكلمة، كأنها توقيع ساخر على لوحة تحكمهم. فجأة، اقتحم أبو مشاري الغرفة ومعه حارسه الشخصي، وجهه أصبح مثل الفلفل الرومي الأحمر من شدة الغضب، وعصاه تضرب الأرض بضجر.
رفع أحد الحراس يديه إلى الأعلى بنظرة بريئة:
– لا تنظر إليّنا هكذا يا سيدي، نحن لسنا مسؤولين عن هذا.
أبو مشاري (بحنق):
– من المسؤول إذن؟ عفاريت الفندق؟! أولستم رجال أمن؟ هذه مشكلة أمنية!!
تدخل الحارس الآخر بجدية:
– سيدي، نحن مدربون على التعامل مع المتسللين، اللصوص، وحتى المخمورين الذين يقتحمون الفندق ليلًا.. ولكننا لسنا مدربين على التعامل مع عصابات إلكترونية! هذا ليس مجال خبرتنا!
فجأة، دوّى في المكان صوت إنذار، ولكنه لم يكن الإنذار المعتاد، بل صوت ضحكة ساخرة، تكررت على جميع السماعات في الفندق، أبو مشاري توقف، شهق ببطء، وكأن صدى تلك الضحكات أعاد له ذكرى قديمة، ذكرى لم يكن يريد استحضارها، ثم استدار نحو حارسه الشخصي، عينيه تضيقان كأنهما تحاولان حرقه بنظرة واحدة:
– متى خرج من السجن؟! ولماذا لم تخبرني؟! أين عيونك؟ أين خلاياك النائمة؟ هل نامت حرفيًا؟
الحارس الشخصي حاول تبرير نفسه بارتباك:
– سيدي، لم يكن لدينا أي تقرير يشير إلى تحركاته… عندما خرج من السجن، اختفى عن الأنظار تمامًا، كأنه لم يكن موجودًا، لم يثر أية مشاكل، لم يتواصل مع أي شخص… لم يكن لدينا أي سبب للاعتقاد بأنه سيعود!
أبو مشاري (وهو يضغط على أسنانه بغضب، يشد على عصاه حتى كادت تنكسر بين يديه):
– لم تتوقعوا؟!! وماذا تتوقعون إذن؟ أن يرسل لي بطاقة دعوة قبل أن يبدأ بالعبث معي؟!
في تلك اللحظة، انتقل صوت الضحكات الساخرة مجددًا عبر مكبرات الصوت في الفندق، كأن صاحبها يسخر من كل شخص في الغرفة، نظر إلى الحارس الشخصي بعينين مشتعلتين بالغضب، ثم همس بصوت منخفض:
– هذا اللعين… لم يكن يختبئ، كان يراقبنا.
في المطبخ …
ناهد لا تزال منهمكة في إعداد الحلوى، ولكنها لاحظت حركة غير معتادة بين الموظفين والحراس، الوجوه مشدودة، والحديث يدور حول شيء لم تفهمه تمامًا… ثم، فجأة، اندفع أحد المشرفين إلى المطبخ بسرعة، نظر حوله بعجلة قبل أن يتساءل بلهجة متوترة:
– لماذا أنتِ وحدك؟ أين بقية الطباخين؟
رفعت ناهد رأسها للحظة، حاجباها معقودان بقلق:
– لا أعلم، قبل قليل، رأيتهم يتلقون رسائل على هواتفهم، ثم فجأة… ركضوا جميعًا خارجًا، وكأنهم مذعورون من شيء ما… ما الذي يحدث؟
ازدادت ملامح المشرف توترًا، ثم قال بصوت منخفض ولكنه قاطع:
– لا تسألي، استمري في العمل وكأن شيئًا لم يكن.
ولكن ناهد لم تكن غافلة، شيء ما يحدث بالخارج… ورغم أنها لا تعرف التفاصيل، إلا أن قلبها بدأ ينبض بسرعة، وكأن إحساسًا داخليًا يخبرها بأن هناك شخصًا يحاول الوصول إليها.
وفجأة، انقطع التيار الكهربائي.
ساد ظلام دامس في المطبخ، ظلام ثقيل لا يخترقه سوى أصوات الفوضى التي اشتعلت في الخارج. تصاعدت احتجاجات النزلاء من الممرات، صراخ الموظفين، وضجيج الأبواب التي تُفتح وتُغلق بعنف. بدا الأمر وكأن الفندق بأكمله يمر بكابوس حي، كأنه قنبلة موقوتة انفجرت فجأة دون سابق إنذار.
ناهد وقفت مكانها دون حراك، عيناها تحاولان التكيف مع العتمة. لم تستطع رؤية شيء، ولكنها سمعت فجأة صوتًا مألوفًا جدًا، صوتًا محفورًا في أعماق ذاكرتها، صوتًا كان في حياتها عندما كانت مجرد طفلة… صوتًا لم تعتقد أنها ستسمعه مجددًا:
– ناهد.
تجمدت في مكانها… هذا الصوت… تعرفه… تعرفه جيدًا.
بدأ ضوء خافت من خلف باب المطبخ، لم يكن ضوءًا كهربائيًا، بل ضوء فانوس عتيق، كأن الزمن قد عاد إلى الوراء. ومن خلف هذا الضوء، ظهر ظل رجل يسير بخطوات واثقة نحوها، يحمل الفانوس في يد، ويده الأخرى ممدودة نحوها كأنه يطلب منها الهدوء:
– لا تقلقي، لست هنا لأؤذيك.
في تلك اللحظة، عاد كل شيء إلى ذهنها.
صوت خطوات مسرعة… يد قوية أمسكت بها عندما كادت تُختطف… طفلة صغيرة في السادسة، تصرخ بخوف بينما يحاول رجل غريب جرّها إلى سيارة… وفتى في بداية العشرينات، يقفز على الرجل، يضربه بشراسة، يجعل الأرض تبتل بدمه، ثم يمسك بيدها الصغيرة ويجري بها إلى برّ الأمان.
ذلك الفتى… كان فهد.
لقد كان بطلها عندما كانت في السادسة، كان آخر شخص شعرت معه بالأمان قبل أن يختفي من حياتها.
والآن… بعد كل هذه السنوات، بعد كل ما مرت به، ها هو بطلها فهد يقف أمامها مجددًا.
ناهد:
– ألست … فهد؟
ارتفع حاجب فهد قليلًا، ثم ابتسم ابتسامة جانبية، الابتسامة الساخرة التي نفسها لم تفارقه يومًا، وقال بصوت هادئ ولكنه واثق:
– لم أتوقع أن ذاكرتكِ بهذه الجودة! كنت سأعطيكِ خيارات متعددة أو حتى أجيبِ بـ صح أم خطأ مع تعليل الخطأ حتى تتذكري.
رغم الظلام، رغم الفوضى بالخارج، رغم الفارق الزمني بين لقائهما الأخير وهذه اللحظة… إلا أن شيئًا ما كان واضحًا في هذه اللحظة.
ناهد لم تعد وحيدة بعد الآن.
فهد (بابتسامة خفيفة وهو يرفع يديه في حركة مطمئنة):
– أطمئنكِ، والدكِ وإخوتكِ بخير، وقد أخبرتني الخالة أم موسى بكل شيء… هذا الطاغية أبو مشاري تمادى أكثر من اللازم، وصدقيني، لقد حان وقت رد الدين.
ارتعشت ناهد للحظة، ورفعت يدها إلى فمها بينما الأخرى تشير إليه بانفعال تطالبه بخفض صوته، عيناها تحركتا بسرعة تبحثان عن كاميرات المراقبة.
فهد (بابتسامة ساخرة وهو يهز رأسه بثقة):
– اهدئي، لستُ بهذا الغباء… أبو موسى قدّم لي هدية ثمينة: مخترق إلكتروني غامض يسمي نفسه “X-Shadow”. صحيح أنه مرتزق رقمي لا يعمل إلا بمقابل، ولكن عندما علم أن الهدف هو أبو مشاري، قرر أن تكون الضربة الأولى “مجانية”، كنوع من العروض التجريبية.
خفض صوته قليلًا، ولكن بريق التحدي في عينيه ظل مشتعلًا:
– لقد عطّل كل الكاميرات، واستبدل أصوات الإنذار بتسجيل لضحكاتي… يمكنكِ تخيّل وجوههم الآن وهم يحاولون فهم ما يحدث. باختصار، لا أحد يراقبنا، ولا أحد يسمعنا.
وضع المصباح على الطاولة، ثم استند على الجدار، واضعًا يديه في جيوبه، قبل أن يضيف بمرح مستفز:
– في الواقع، قد يكون هذا هو أول مرة يمكنكِ فيها أن تشتمي أبا مشاري بحرية دون أن تتعرضي للعقاب! فرصة لا تُعوَّض، أليس كذلك؟
حاولت ناهد كتم ضحكتها، ولكن الابتسامة وجدت طريقها إلى شفتيها رغم كل شيء:
– لا أظنك خاطرْتَ بحياتك، وعبثتَ بأمن الفندق، وأطفأتَ الكاميرات… فقط لأجل أن تقول لي هذا!
فهد (وهو يرفع يديه باستسلام ساخر):
– حسنًا، لم آتِ فقط لهذا، رغم أنني أعترف أن رؤية أبي مشاري يركض كفأر سمين، متخبطًا في الظلام، كانت متعة بحد ذاتها.
ثم عاد بنبرته الجادة، عاقدًا حاجبيه وهو يراقب ناهد:
– أدرك تمامًا أن وضعكِ صعب… بل هو جحيم بحد ذاته، ولكن هذا الجحيم يمكن أن يكون سلاحًا في أيدينا. باختياره لكِ ليحبسكِ قسرًا، فقد زرع بيده ثغرة أمنية لا تلتقطها الكاميرات، ولا تكشفها أجهزة التنصت.
أردف بصوت أكثر حزمًا، وعيناه تراقبان ردة فعلها:
– نحن في حالة “حرب استنزاف”، قد تستمر لفترة طويلة، فأمثال أبي مشاري لا يسقطون بضربة واحدة، بل يحتاجون إلى ضربات دقيقة، متتالية، تمزق دفاعاتهم قطعةً قطعة. ولأجل هذا… نحتاج إلى مصدر من الداخل. شخصٌ قريبٌ منه… شخصٌ يعرف مواعيده، أسراره، تحركاته… شخصٌ مثلكِ تمامًا.
حدقت فيه ناهد، عيناها مترددة، تفكر في مدى خطورة الأمر، ثم همست:
– ولكن كيف يمكنني إيصال المعلومات إليكم؟ بالتأكيد لن تقوم بعملية الاختراق في كل مرة حتى تصل إليّ! هذا جنون.
فهد (يخرج شيئًا من جيبه، ويضعه في راحة يدها بحركة سريعة):
– لا تقلقي، حسبتُ لهذا الأمر جيدًا. هذا هاتف مزود بشريحة آمنة، لا يمكن تتبعها. احتفظي به في وضع الصامت دائمًا، واستخدميه فقط عند الضرورة.
ثم سحب شيئًا آخر صغيرًا، ووضعه في يدها الأخرى:
– وهذا جهاز تنصت صغير، لا يعمل إلا عندما تضغطين عليه بطريقة معينة. استخدميه فقط عندما تجدين فرصة لتسجيل حديث مهم. أما الهاتف… فمهمته بسيطة، التقطي صورًا لأي مستندات أو وثائق تجدينها، وأرسليها لنا. لا تتركي أثرًا، ولا تخاطري بدون داعٍ.
رفعت ناهد الهاتف، نظرت إليه للحظة، ثم نظرت إلى فهد وعيناها تتحدث أكثر من كلماتها… كان الأمر أكبر منها، ولكنه أيضًا كان فرصتها، فرصتها لكسر القيد.
غادر فهد المكان بعدها بقليل، وبعد دقائق عادت الكهرباء تدريجيًا، ومعها بدأ الهدوء يعود إلى الفندق، كان واضحًا أن الطاقم الأمني بدأ يسيطر على الوضع مجددًا.
لم يمضِ وقت طويل حتى عاد المشرف إلى المطبخ، يتفقد المكان بعينين متوجستين، ثم نظر إلى ناهد وقال بلهجة تحمل بعض الريبة:
– حسبتكِ استغللتِ الظلام وهربتِ.
رفعت ناهد رأسها، وأجابت بنبرة هادئة ولكن حادة:
– وضعي المقيد لا يسمح لي بالهرب.
أطلق المشرف زفرة خفيفة، قبل أن يرد بجفاف:
– الاجتماع سيُعقد كما هو مخطط له، ولكنه سيتأخر نصف ساعة عن موعده المحدد، تأكدي من أن يكون كل شيء جاهزًا في الوقت المطلوب.
ثم أغلق الباب خلفه، تاركًا ناهد وحدها في المطبخ. نظرت إلى جهاز التنصت الذي أعطاها إياه فهد، تشعر بارتجاف خفيف في أصابعها… كان هذا الجهاز في يدها بالضبط في اللحظة المناسبة، في قلب الحدث، حيث سيوثق كل كلمة تُقال داخل وكر الشياطين.
عادت إلى عملها بسرعة، تكثف مجهودها حتى تتمكن من تنفيذ خطتها دون تأخير. بعد أن انتهت من إعداد جميع أطباق الحلوى، وضعتها في أماكن متفرقة ومنظمة على طاولات الطعام، ولكن طبقين منها احتفظت بهما، واتجهت بهدوء إلى قاعة الاجتماعات، دون أن تتلقى أية تعليمات بذلك.
دخلت القاعة الفخمة، حيث كانت الطاولة الطويلة لا تزال فارغة، والجو يعكس رهبة الاجتماعات السرية التي تدور بين الكبار. بحركة محسوبة، وضعت الطبقين على طرفي الطاولة، متعمدة اختيار موقعين متقابلين، حتى لا يثير الأمر أية شكوك. وبينما كانت تقوم بذلك، حرصت على زرع جهاز التنصت أسفل الطاولة، بالقرب من الكرسي الذي يجلس عليه أبو مشاري دائمًا.
ولكن قبل أن تكمل مهمتها، جاءها صوت مفاجئ جعل قلبها يقفز في صدرها:
– أنتِ! ماذا تفعلين هنا؟!
التفتت بسرعة، لتجد أحد الموظفين يحدق بها بحدة، كأن وجودها في المكان يثير الريبة. حافظت على رباطة جأشها، وردت بصوت هادئ ولكنه يحمل بعض التردد:
– وضعت طبقين من الحلوى هنا، وجدت أنها فكرة جيدة لتناولها مع القهوة والشاي أثناء الاجتماع.
ساد صمت للحظة، كانت فيها ملامح الرجل متجهمة، وكأنه يزن كلامها بعناية. ولكنها لم تُخفض نظرها، ولم تمنحه فرصة الشك. وأخيرًا، زفر الرجل ببطء، قبل أن يرد بنبرة محايدة:
– مع أنه تصرف مرتجل، إلا أنه لا بأس به هذه المرة… ولكن لا تتصرفي دون تعليمات مرة أخرى.
اكتفت ناهد بإيماءة هادئة، ثم غادرت القاعة بهدوء، تشعر بأنفاسها تتسارع قليلًا. ولكنها رغم ذلك، لم تستطع منع نفسها من الابتسام بخفة… جهاز التنصت كان في مكانه، واللعبة قد بدأت بالفعل.
انتظرت بعدها لساعات حتى انتهى اجتماعهم، وبقيت في مكانها تراقب خروج آخر شخص من القاعة. مع انشغال بقية الموظفين في تنظيف المكان، تسللت بخفة إلى غرفة الاجتماعات قبل أن يصل إليها أي شخص آخر، كانت خطواتها محسوبة، وأنفاسها محبوسة، تعلم أن أية حركة غير محسوبة قد تلفت الانتباه لما زرعته تحت الطاولة.
بسرعة، انحنت تحت الطاولة، يداها تبحث بدقة عن جهاز التنصت، حتى وجدته، أوقفته على الفور وأخفته في جيبها قبل أن تقف مجددًا وكأن شيئًا لم يكن. لم تمضِ سوى لحظات حتى دخل بقية الموظفين، فانضمت إليهم لتكمل أعمال التنظيف دون أن تبدي أي تصرف مريب.
بعد انتهاء العمل، عادت إلى غرفتها، وأغلقت الباب خلفها بهدوء. استلقت على سريرها للحظات، تحاول استيعاب ما فعلته للتو. لم يكن الأمر معقدًا كما ظنت، ولكنها لم تستطع منع شعور التوتر الذي بدأ يتسلل إلى داخلها. ما فعله فهد كان مجازفة خطيرة، ولكنها جاءت في الوقت الذهبي تمامًا.
بعد لحظات، جلست وسحبت الهاتف من جيبها، كتبت بسرعة رسالة إلى فهد:
– يبدو أنك اخترت التوقيت الذهبي وكأنك تعلم ذلك، لقد كان هناك اجتماع للشياطين هذه الليلة، وقمت بزرع جهاز التنصت بالوقت المناسب بوكرهم قبل قدومهم. انتهى الاجتماع وحصلت على التسجيل بنجاح. ثم أضافت: كيف يمكنني إرساله إليك؟
جاءها الرد سريعًا بعد أن شكرها على إنجازها السريع:
– بهذه السرعة، لو كنتِ في سباق مع الضوء، لا أعلم أيكما سيصل أولًا!! حتى كاميرات المراقبة ستحتاج إلى إعادة تشغيل … لا تقلقي، الجهاز مُعدّ سلفًا للاقتران بالهاتف، كل ما عليكِ هو تشغيله مجددًا، ثم فتح التطبيق المخصص وستجدين التسجيل محفوظًا فيه، بعدها يمكنكِ مشاركته عبر برنامج المحادثة.
تنفست بعمق، فتحت التطبيق، وبدأت بتحميل التسجيل… لم تكن تعلم ما الذي ستسمعه، ولكن حدسها يخبرها أن ما بداخل هذا الملف ليس بالأمر العادي.
قامت فعلًا بإرسال الملف، ولكن فضولها دفعها إلى تشغيل التسجيل لتستمع إليه. لم تمر سوى لحظات حتى بدأت تسمع أصواتًا مقرفة لطريقة أكلهم للحلوى، مصحوبة بضحكات سمجة وتعليقات فارغة وتافهة، مما جعلها تتنهد بضجر وتقوم بتخطي عدة مقاطع. كان حديثهم في البداية يدور حول استعراض ممتلكاتهم، الاستهزاء ببعض الشخصيات العامة، والتباهي بثرواتهم الطائلة.
ولكن، بعد عدة تخطيات، بدأت تصل إلى الأحاديث الجادة… اللحظة التي افتتحوا فيها اجتماعهم الحقيقي. أصبحت أصواتهم أكثر جدية، ونبراتهم محمّلة بالكلمات الثقيلة. لم يكن الاجتماع مجرد جلسة ودية بين رجال أعمال، بل كان طاولة تخطيط لعمليات تلاعب مالي واسعة.
تحدثوا عن تمرير مبالغ ضخمة عبر قنوات اعتادوا استخدامها، حيث أسسوا بنوكًا وهمية لاستغلال النظام المصرفي العالمي. كانوا يستخرجون القروض بأوراق رسمية تبدو سليمة، ثم يعلنون إفلاس تلك البنوك قبل سداد المستحقات، متسببين في خسائر هائلة للبنوك الكبرى، بينما يخرجون هم بالمكاسب.
انتقل الحديث سريعًا إلى غسيل الأموال، وكيف أن شركاتهم الوهمية كانت الغطاء المثالي لجعل الأموال القذرة نظيفة. تدور الأموال بين حساباتهم، وتنتقل من شركة إلى أخرى حتى يصبح من المستحيل تتبع مصدرها الحقيقي، بينما القوانين، كما وصفها أحدهم، لم تكن أكثر من أداة في يد من يعرف كيف يستخدمها.
ثم تحول الحديث إلى محور آخر!!
أحدهم قال بنبرة ساخرة ولكن ذات مغزى:
– ها قد عاد فهد للعبث بك يا أبا مشاري، هذه الليلة كانت حافلة… كنت أتمنى لو أنك انتظرت سنتين فقط، قبل أن تجعله يتورط في تلك القضية التي أرسلته إلى السجن، لكنت قد ارتحت منه تمامًا… وربما اختفى ذكره بتلك الموجة الدامية.
ضحك أبو مشاري بسخرية، ثم رد بازدراء:
– ومن قال لك إن فهد من رواد المساجد؟ أنا حتى أشكّ إن كان يعرف اتجاه القبلة!
تعالت الضحكات، ولكن أحد كبار الشخصيات رد عليه بلهجة ساخرة ومشبعة بالتلميح:
– لا تتحدث عن القبلة يا رجل، لا أظنك تعرف في أية بقعة من الأرض تقع! حتى في فندقك، لم تكلف نفسك بوضع ملصقات توضح اتجاهها، كما تفعل بقية الفنادق.
ارتسمت على وجه ناهد نظرة متوترة… أي موجة؟ عن ماذا يتحدثون؟ بدا وكأنها جملة عابرة، ولكنها لم تكن كذلك؟ سنتان بعد سجنه… هذا يعني عام مقتل والدتها!! هل يعقل أنهم يتحدثون عن الحادثة نفسها؟!
استمرت في الاستماع، محاولة ألا تفوّت أية كلمة. ثم جاء ما جعل الدم يتجمد في عروقها.
رد أبو مشاري تحدث بلهجة منخفضة ولكنها واضحة:
– لا يهم أين وجهة القبلة، ما يهم أننا وجهنا البنادق كما أردنا، كان لا بد من تحريك بعض العناصر لإشعال الموقف، ولم يكن ينقصنا سوى الوسيلة. لم يكن لدينا وصول مباشر، ولكن… حسنًا، لنقل أن الخدمات الأمنية لبعض الشركات لم تكن مجرد حراسة.
كان هناك صمت للحظات، ثم أضاف:
– كل شيء تم تسهيله لهم، من حصولهم على الأسلحة، إلى وصولهم لجامع القرية، حتى أنهم لم يحتاجوا للبحث عن سيارات، لقد تم توفير كل شيء لهم حتى يصلوا إلى موقع الجريمة كما هو مخطط له.
تسارعت أنفاس ناهد… هل يعقل؟!! أبو مشاري… ضالع في الهجوم على الجامع؟ كان دور شركته الأمنية أكبر مما كان يعتقده الجميع؟!! هل كان هو من سهل وصولهم؟!!
ثم جاء صوت أبي مشاري بنبرته المتعالية نفسها التي كانت تثير اشمئزازها دائمًا، ولكنه كان أكثر فخرًا هذه المرة:
– والآن، ما النتيجة؟ خرجنا نحن من الموضوع أنقياء اليدين، بل حتى أخذنا البطولة أمام المسؤولين! تم تقديم معلومات باسم شركتي الأمنية حول السائق الذي أوصلهم، ومن خلاله تمكنوا من التوصل إلى جميع من قاموا بالجريمة. قدمنا أنفسنا كأبطال الأمن الذين أنجزوا المهمة… وهكذا، لم يلتفت أحد إلى الأساس، من الذي فتح لهم الطريق أصلًا؟!
ارتعشت يد ناهد، وكادت تسقط الهاتف من يدها… أبو مشاري… لم يكن مجرد شخص فاسد… كان أكثر من ذلك بكثير. لقد كان وراء قتل والدتها!! لم يكن فقط مستفيدًا من الجريمة، بل كان جزءًا من تنفيذها.