بشائر الوطن

أنا فتاة من إيطاليا أكتب لكم من الحجر الصحي وأتوسل إليكم: لا تخرجوا من بيوتكم

ساهار باريانو

أصبح تفشي فيروس كوفيد-19 الآن جائحة عالمية. على الناس التعامل مع الأمر بجدية، ولكن عليهم أيضاً الحذر من الذعر المقلق.
أنا فتاةٌ من مدينة بيركلي بولاية كاليفورنيا الأمريكية أخضع للحجر الصحي في إيطاليا. ومع أن التدابير المأخوذة هنا صارمةٌ جداً، فإن تفشي فيروس كورونا ليس معزولاً في جنة بعيدة حيث توجد البيتزا والأوبرا، ولكنه يضغط بقوة ويقترب تدريجياً إلى المنزل كل يوم.

قبل انتقالي إلى إيطاليا، عشت حياتي كلها في بيركلي. تعلمت في مدارس أكسفورد الابتدائية ومارتن لوثر كينغ الإعدادية، وبيركلي الثانوية، وتخرَّجت في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. أخذت أغراضي وملابسي حين قرَّرت الانتفاع بجنسيتي الإيطالية واستكشاف الحياة في الخارج للحصول على  الماجستير في حقوق الإنسان والهجرة والتنمية في جامعة بولونيا.
انتقلت منذ سنة وكان لي هدفٌ مُحدَّد يتمثَّل في السفر وخلق مجتمع دولي قوي. أستقل القطار لحضور المحاضرات، والطائرة للذهاب إلى العمل، والحافلة للذهاب إلى أيِّ مكان آخر. يضم الأسبوع التقليدي حفلات العشاء، وتناول المشهيات، والحفلات الموسيقية، والعروض الفنية، والمحاضرات، والمواعدات مع شرب القهوة، وتدريس اللغة الإنجليزية في سجنٍ محلي، وزيارة المتاحف، والتمشية، والمهرجانات الثقافية، والنزهات. هناك دائماً مغامراتٌ جديدة في مناطق أخرى في إيطاليا، لزيارة بلدات الأصدقاء، واستكشاف درر الطبيعة المخبأة، أو لقاء مغتربين آخرين.
ثم وصل فيروس كورونا. وتحوَّل ما بدأ بمحادثة في أثناء العشاء من وقت لآخر -في غضون أسابيع- إلى أقصى قمع للحريات الشخصية شهده بلد أوروبي منذ الحرب العالمية الثانية. وفي حين أن الحجر الصحي أقل درامية مما يذيعه الإعلام الأمريكي، فإنه لا يزال جاداً للغاية ومتعدد الوجوه. تنص سلسلة التدابير الطارئة غير المسبوقة التي اتخذتها الحكومة الإيطالية على بقائنا داخل المنازل؛ إذ لا يمكننا مغادرتها دون سبب مسموح به قانونياً مثل العمل المُلِح أو شراء الطعام، وكذلك التجمعات ممنوعة. أُغلِقَت الحدائق، والمتاحف، والمقاهي، والمطاعم، والمتاجر. هذا، ويختلف تطبيق تلك التدابير من منطقةٍ لأخرى وفقاً للحكم الذاتي لكلِّ منطقة. ففي حين أنه يمكنني الخروج من المنزل للتمشية لوقت قصير (مع وجود إذن موثق)، فإن الشرطة توقف أصدقائي في ميلانو إن حاولوا ممارسة هذا الوجه البسيط من الحرية. ففي بلدٍ مفعم بالحياة الاجتماعية تكون فيه التمشية إلى مركز المدينة حدثاً يومياً عادياً، وتكون فيه المواصلات العامة آمنة ومستخدمة، يُعدُّ هذا تغييراً جذرياً. هذه التدابير بالطبع باهتةٌ مقارنةً بالحروب وغيرها من مسببات الذعر حول العالم، ولكن مثلي كمثل معظم من سيقرأون ما أكتبه، فإننا قضينا معظم حياتنا -إن لم تكن كلها- في الجزء الشمالي من العالم، وهذه الأحداث فريدة وصادمة بالنسبة لنا.
إنني أكتب لتوضيح وضعي بشكل أكبر لأصدقائي وعائلتي في الوطن، وغيرهم كثيرون ممن يواجهون خطراً فعلياً أو ينتظرون عواقب أوخم. بعض الناس مثلي يحاولون فهم قضاء شهر في المنزل فجأة في حين أن الشمس بدأت لتوها في الظهور من خلف سحب الشتاء. ولكنني أيضاً أشهد بعض الأصدقاء الذين خسروا وظائفهم أو الخائفين بشدة على أقاربهم المتقدمين في السن أو الذين يعانون مشكلاتٍ صحية، فهم أكثر عرضة للمخاطر. السجناء يمارسون الشغب في سجونهم لأنهم غير قادرين على رؤية أحبائهم، ومات منهم ستة. والآباء الذين يعملون من المنزل يكافحون للعثور على دور حضانة لأبنائهم الذين أُغلِقَت مدارسهم. وآخرون ليسوا واثقين كيف سيتخرَّجون في مدارسهم الثانوية أو كلياتهم. الطلاب الذين عكفوا يتطلَّعون لسنواتٍ لحفل الاحتفاء بنجاحهم الأكاديمي مضطرون الآن لتقديم أطروحاتهم والتخرج عبر الإنترنت. الجنازات والأفراح تُلغى. سلب هذا الفيروس الاحتفالات، وحفلات أعياد الميلاد، وكل امتيازات الحياة التي غالباً ما يتغافل عنها الـ60 مليون شخص.
غير أنه لا تزال هناك تأثيراتٌ أخطر في الأفق. فالشركات الصغيرة في خطر؛ إذن يتعيَّن على المتاجر والمطاعم إغلاق أبوابها، وينتظر اقتصاد إيطاليا الواهن بالفعل توقعات قاتمة في الشهور القادمة. يأتي هذا بعد أن استطاع كثيرون النهوض مرة أخرى لتوهم بعد كساد 2008.
تأتي هذه القرارات التقييدية استجابة لأن إيطاليا -إلى جانب الصين- تضم أغلب حالات الإصابة بفيروس كورونا؛ إذ يبلغ عدد الإصابات المؤكدة 15.113 حالة، وعدد الوفيات 1.016 منذ يوم 12 مارس/آذار. إن الإصابة بفيروس كورونا ليست مثل الإصابة بالإنفلونزا، فكثير من المصابين يحتاجون إلى العلاج في المستشفى لأسابيع في وحدات العناية المركزة، نعم يحدث هذا بشكل أساسي لكبار السن ومن يعانون من مشكلات صحية أخرى، ولكننا رأينا أيضاً أشخاصاً في الثلاثينيات بل وفي الثامنة عشرة يحتاجون إلى العلاج. هناك فترة حضانة تستمر لـ14 يوماً، ولم نصل إلى الحد الأقصى من الإصابات بعد. حتى مع تلك التدابير القاسية، فإن المستشفيات الإيطالية ممتلئة  عن آخرها. في شمال إيطاليا، يوضع المرضى في ممرات المستشفيات لعدم توافر أماكن. والحكومة تفكر في تحويل المخازن إلى مستشفيات، والمستشفيات وأطقمها الطبية من أطباء وممرضات تعمل بلا توقف. ليس لدينا أجهزة تنفس صناعية لأصحاب الحالات الحرجة، وعلى الأطباء تحديد الحالات التي لها الأولوية للحصول على فرصة للحياة من بين عشرات الحالات. إن الحجر الصحي قاسٍ، ولكن إن لم تفعل إيطاليا كل ما في وسعها لوقف انتشار الفيروس، فإن الوضع كان ليصبح أسوأ وكان النظام الصحي لينهار برمته.

مع إن فيروس كورونا أخضع البلاد لضغط هائل مادياً واجتماعياً، فإن الصحة العامة في إيطاليا -على عكس الولايات المتحدة- تُعدُّ مسؤوليةً وحقاً مدنياً. والشيء الذي لا يظهر في الأخبار معظم الوقت هو أن معدل الإصابة المرتفع هو نتيجة لشفافية تقارير إيطاليا عن الوضع. فقد تم اختبار أكثر من 40 ألف شخص بفضل نظام الرعاية الطبية العالمي المتاح في إيطاليا. مع إنني لا أشعر بالراحة إزاء التدخل الحكومي في حياتي، إلا أن وحدة الشعب الإيطالي في التضحية بحريته ونموه الاقتصادي لحماية الأفراد الأكثر تهديداً في المجتمع ألهمتني. إن التقييدات في إيطاليا -على حدتها- أظهرت ديمقراطية قوية، إذ إن هذه القوانين تتماشى مع إرادة الشعب.
يتنبَّأ هذا الحجر الصحي بالأشياء التي يُحتَمَل حدوثها بشكل أكبر في الحياة مع تغير المناخ وغيره من الأشياء التي تخل باستقرار الحياة، والتي ستهددنا عما قريب بالطريقة نفسها التي أثر بها فيروس كورونا في إيطاليا. أرجو ألا تنظروا إلى إيطاليا، والصين، وإيران على أنها حالات خاصة. فألمانيا، واليابان، وحتى وطني في منطقة خليج سان فرانسيسكو جميعها تشهد تفشياً مثل ذلك الذي حدث في إيطاليا منذ بضعة أسابيع. إن هذا وباء عالمي وأنا أنصحك بأن تتعامل مع الأمر بجدية، ولكنني أيضاً أحذر من الذعر المقلق. لا داعي لشراء جميع البضائع الموجودة في الأسواق، ولا لشراء الأقنعة الطبية. اغسل يديك، وقلل من الوقت الذي تمضيه في المناطق العامة، وابق في المنزل إن كنت تعاني من أي شكل من أشكال الحمى، ولا تسافر إلا للضرورة.
إن هذا المنشور غير موجه للحكومة أو الإدارة، ولكنه توسُّلٌ من فتاةٍ من بيركلي لكلِّ أبناء وطني في منطقة خليج سان فرانسيسكو للاحتراز المسبق وتغيير سلوكياتهم. إن الحدَّ من الآثار الضارة لهذا الفيروس، الذي لا يفرق بين الناس، مسؤولية الجميع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى