أقلام

مع الفخر الرازي في التجلي الإلهي

علي محمد عساكر

الفخر الرازي -وكونه من الأشاعرة الذين يعتقدون بالرؤية البصرية لله سبحانه وتعالى- فقد اتخذ من قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} دليلا على إمكان الرؤية البصرية لله تعالى، وذكر عدة وجوه في الاستدلال بها على ذلك، منها أن الله تعالى تجلّى بذاته المقدسة للجبل، وأن الجبل لم يطق ولم يتحمل ذلك التجلي، مما يدل على إمكان التجلي والرؤية.

وإليك نص كلامه في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} فقد قال: (وهذا التجلي هو الرؤية، ويدل عليه وجهان:

الأول: إن العلم بالشيء يجلي لذلك الشيء، وإبصار الشيء يجلي ذلك الشيء، إلا أن الإبصار في كونه مجليا أكمل من العلم به، وحمل اللفظ على المفهوم الأكمل أولى.

الثاني: إن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى، بدليل أن الجبل -مع عظمته- لما رأى الله تعالى آنذاك تفرقت أجزاؤه، ولولا أن المراد من التجلي ما ذكرناه وإلا لم يحصل هذا المقصود، فثبت أن قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية)

ولا خلاف لدينا فيما ذكره في الوجه الأول من أن إبصار الشيء يجعله أكثر جلاء من مجرد العلم به، وإن كنا نختلف معه في أن الله تجلى بذاته المقدسة للجبل، لما يلزم في ذلك من محذورات كالتجسيم وغيره، بل نقول أنه تعالى تجلى بآية من آياته للجبل فجعله دكا.

وإنما تجلى الله للجبل بتلك الآية فجعله دكا ليس لأنه سبحانه ممكن أو جائز الرؤية، وإنما ليثبت عدم إمكان رؤيته تعالى، ويبيّن فظاعة طلبها، وأن فيها جرأة كبيرة على الله، وذلك بأن علّق حدوثها على مستحيل، وهو استقرار الجبل بالتجلي إليه، وكانت إرادته التكوينية أن لا يستقر، وليس للجبل التخلف عن تلك الإرادة فلم يستقر {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}.

ومما يدل على عظم طلب الرؤية وفظاعته قوله سبحانه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}.

فقد اعتبر عز وجل سؤالها أعظم وأكبر من سؤال أهل الكتاب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله أن ينزل عليهم كتابا من السماء ليكون دليلا على صدق نبوته، كما أخذ طالبيها بالصاعقة، وسماهم ظالمين.

وبالعودة إلى ما يقوله الرازي نقول: إن التجلي كما يكون بالذات يكون بالآثار:

تلك آثارنا تدل علينا
فاسألوا بعدنا عن الآثار

وبما أنه لا يمكن أن يتجلى الله لأي أحد، أو لأي شيء من الأشياء بذاته المقدسة، تجلّى عز وجل للجبل بآية من آياته جعلته دكا.

وربما أيّد هذا أن الله نسب الدك إلى ذاته المقدسة، وليس إلى الجبل ليقول الرازي: (إن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه).

فالله هو الذي تجلى وهو الذي دك، دون أن يكون الجبل قد رأى ذلك التجلي، فقد تعلّقت إرادته على أن يجعله دكا، فجعله دكا كما أراد، إذ ليس للجبل -كما ليس لغيره- أن يتخلف عن إرادته سبحانه وتعالى.

أما ما ذكره الرازي في الوجه الثاني فهو كالأول، يحتاج إلى تأمل كبير، وتواجهه إشكالات كثيرة، وأول ما فيه أنه لا يصح التنظير والمقابلة بين الإنسان والجبل لا من جهة السمع ولا الرؤية ولا غيرهما.

فنبي الله موسى لأنه إنسان فهو لديه قابليات الحركة والتكلم والسمع والنظر والرؤية…لامتلاكه أدواتها، أما الجبل فلأنه جماد فليس لديه أي شيء من تلك القابليات لعدم امتلاكه لتلك الأدوات، مما يعني أنه لا مكان لما افترضه الرازي من التنظير بين الكليم موسى أو الإنسان عموما وبين الجبل، ولا يصح أن يقول: (إن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى، بدليل أن الجبل -مع عظمته- لما رأى الله تعالى آنذاك تفرقت أجزاؤه) أو يقول: (إن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه)

وهل لدى الجبل من القابليات، أو أنه يملك من الأدوات ما يجعله يرى ويتحمل أو لا يتحمل تلك الرؤية، لنعبر مثل هذا التعبير؟!

بتعبير آخر: فإن الفخر الرازي يرى أن الجبل رأى ذلك التجلي فلم يحتمله، فاندكت أجزاؤه.

وهذا لا يمكن إلا في حال أن تتغير طبيعة الجبل وحقيقته من الجماد الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يدرك، بل ولا حياة فيه، ولا شعور لديه، إلى شيء آخر يكون حيا وسميعا ومبصرا ومدركا، كأن يكون إنسانا أو غيره ممن يملكون الحياة والشعور والإدراك.

وبما أن الجبل جماد ولا حياة فيه، كما أن طبيعته لم تتغير إلى ما فيه حياة، يسقط القول: (إن الجبل -مع عظمته- لما رأى الله تعالى آنذاك تفرقت أجزاؤه) لامتناع أن يكون ذلك إلا مع الحياة والإدراك.

والفخر الرازي نفسه في الوقت الذي كان يقول فيه بتجلي الله تعالى للجبل، ورؤية الجبل لذلك التجلي، واندكاكه على أثر تلك الرؤية، كان ملتفتا إلى ما يواجه هذا القول من إشكالية عدم وجود الحياة في الجبل، مما جعله يضطر إلى أن يبحث لنفسه عن مخرج يساعده على الخلاص من هذه المعضلة، فأشكل على نفسه بقوله: (أقصى ما في الباب أن يقال: أن الجبل جماد، والجماد يمتنع أن يرى شيئا)

ولم يجد حلا لهذا الإشكال إلا باللجوء إلى الافتراضات التي لا دليل عليها ولا برهان، فقال: (لا يمتنع أن يقال: إنه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم، ثم خلق فيه رؤية متعلّقة بذات الله تعالى، والدليل على ذلك أنه تعالى قال: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} ، وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحصول العقل والحياة فيه، فكذا هاهنا)

وكما يقول السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه (كلمة حول الرؤية) معلقا على هذا الافتراض: (أسف بفلسفته هذه كل إسفاف، واعتسف فيها أي اعتساف، فإن النواميس التي فطر الله عليها الجبال وسائر الجمادات تأبي -بفطرتها- أن يكون فيها شيء من الحياة والعقل والفهم والرؤية)

والحق أننا لسنا بحاجة إلى هذا التكلّف في التفسير والبيان والاستدلال، فما تأويب الجبال مع داود -كما يقول العلامة الطباطبائي- إلا بمعنى (سخّرنا الجبال له، تؤوب معه والطير، وهذا هو المتحصل من تسخير الجبال والطير له، كما يشير إليه قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ}

وبتفسير السيد شرف الدين: (إن معنى أمر الجبال -هنا- بالتأويب مع داود، وامتثالها هذا الأمر، أنه تعالى شاء تأويبها فلم تمتنع عليه، وأوّبت مع داود عليه السلام كما أراد الله تعالى، فكانت في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر آمره المطاع، على حدّ قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ، فإنه لا قول هنا من الله عز وجل ولا منهما، وإنما شاء الله تكوينهما فلم تمتنعا عليه، وتكونتا فورا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالعبد المطيع يرد عليه أمر مولاه المطاع فيبادر إلى الامتثال فورا، وهذا ما يسميه أهل البيان بالمجاز على سبيل التمثيل والتصوير، وما أكثره في الكتاب والسنة وكلام بلغاء العرب…)

فتأويب الجبال مع داود إنما كان كما أراد الله، أما بأي وجه كان ذلك التأويب فالله أعلم، وليس بالضرورة أن يكون تأويبها مع داود بأن يكون الله خلق فيها حياة، أو جعل لها لسانا، خصوصا وأننا لا نملك دليلا صريحا على ذلك، وخصوصا وأن الله عز وجل أكد أن كل شيء في الوجود يسبح بحمده لكننا لا نفقه ذلك التسبيح ولا كيفيته، كما يقول سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}.

وكما أن تسبيح هذه الموجودات لا يدل على أن فيها حياة وأنها تتكلم، كذلك تأويب الجبال مع داود لا يدل على ذلك، ولا أقل من أنه ليس بالضرورة أن يكون كذلك، وذلك بدليل اختلاف الآراء في تفسير الآية كما تجد ذلك في المجلد الرابع الجزء الخامس ص597 من مجمع البيان.

أضف إلى ذلك أن ما حدث لداود من تأويب الجبال معه أو غيره مما خصه الله به من الآيات الباهرات إنما هو إعجاز إلهي له عليه السلام، ولا يصح أن نأخذ من أمر إعجازي دليلا على ما نحن فيه الآن، لنقول أن الله خلق في الجبل حياة ومكّنه من الرؤية، خصوصا وأن الآية ليست بصدد الحديث عن معاجز موسى، بل ما حدث من هذا التجلي وذاك الاندكاك ليس معدودا من معاجزه عليه السلام، وخصوصا وأننا لا نملك دليلا على هذا الافتراض الذي افترضه الفخر الرازي بأن الله خلق في الجبل حياة.

ولنا في كتابنا المخطوط (مع ابن الأحساء في أسئلته) كلام يمكن أن يوضح لنا المعنى، ويساعدنا على استخلاص نتيجة فيما يتعلق بالتجلي للجبل، بعيدا عن التكلّف في القول بخلق الحياة فيه، وتمكينه من الرؤية والإدراك، فقد قلنا: (متى ما تعلّقت الإرادة الإلهية التكوينية بشيء من الأشياء، وأراد الله تبارك وتعالى تحقيق ذلك الشيء وإظهاره من العدم إلى الوجود، تحقق ذلك الشيء لا محالة.

فكلمة {كُن} في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} كناية عن إرادته التكوينية، وقوله عز وجل: {فَيَكُونُ} إشارة إلى تحقق الشيء، وعدم تخلّف المراد عن إرادته التكوينية سبحانه وتعالى.

فمثلاً حين يقول سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، فليس معنى هذا أن الله تعالى خاطب السماء والأرض بكلام لفظي مكوّن من هذه الحروف والكلمات، وإنما قوله سبحانه للسماء والأرض هو إرادته التكوينية بخلقهما وإيجادهما من العدم، كما أن قول السماء والأرض: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أيضاً ليس قولاً لفظياً، وإنما هو قول عملي يمثل استجابتهما لأمر الله، وعدم تخلفهما عن إرادته.

فليس هنا أي قول لفظي لا من الله ولا من السماء والأرض، وإنما قوله سبحانه هو إرادته التكوينية، وقولهما هو استجابتهما لتلك الإرادة الحتمية.

وكذا الحال في كل الموجودات الإمكانية، فكلامه سبحانه لها هو إرادته التكوينية في خلقها وإيجادها، وهي كلامه المظهر لقدرته الكاشف عن عظمته، وذلك أن الكلام لا ينحصر في اللفظ فقط، بل كل ما دل على معنى هو كلام، فالإشارة الواضحة الدالة على معنى كلام، والأفعال الخارجية الكاشفة عن القدرات والخصوصيات كلام…وعلى هذا يكون مجموع العالم الإمكاني -كما يقول السـيد الطباطبائي-: (كلام الله سبحانه، يتكلم به فيظهر المكنون من كمال أسمائه وصفاته، فكما أنه تعالى خالق للعالـم والعالم مخلوقه، كذلك هو تعالى متكلم بالعالم، مظهر به خبايا الأسماء والصفات، والعالم كلامه).

وكذلك الحال هنا، فليس تجليه تعالى إلا إظهار آية من آياته جعلت الجبل دكا، دون أن يتجلى سبحانه بذاته، ودون أن يرى الجبل ذلك التجلي بتلك الآية، والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى