أقلام

القرية المغشوشة

د/ عبدالجليل الخليفه

قبل اربعمائة عام، هجمت قوات البحرية الاوربية على بعض المناطق الأفريقية و عادت الى بلدانها ببواخر تحمل الاف الأسرى الأفارقة الذين استعبدتهم في بلدانها. قضى أغلب هؤلاء الأسرى أعمارهم عبيدا يعملون في الزراعة و صناعة النسيج و حفر الأنفاق في الامبراطورية البريطانية و غيرها.

يحكي الحكماء للعبرة أن أحد هؤلاء العبيد كان محظوظا فأشترته أسرة غنية محبة للعلم و العلماء و أهدته الى قسم علوم الطبيعة في جامعة كامبريدج المشهورة ببريطانيا. و صادف ان كان اسحق نيوتن قد التحق بالجامعة كأحد أساتذتها و كان مشغولا بأبحاثه في الضوء و الجاذبية و قوانين الحركة الثلاثة. و هكذا عمل هذا العبد المسكين خادما مطيعا في هذا الجو المفعم بالحيوية و النشاط. فقرر أن يدرس أساسيات علوم الطبيعة في الجامعة بالإضافة الى عمله الدؤوب. و خلال سنتين من عمله و دراسته مبادىء العلوم البسيطة، عمل مع اسحاق نيوتن في مختبره و شاهد كيف أستطاع نيوتن أن يرسل الضوء الأبيض عبر المنشور لينتج ألوان الطيف في الجهة الآخرى. و شاهد أيضا كيف طور نيوتن تلسكوب غاليليو و استخدم فيه عدسات تعالج الزيغ اللوني فتعكس الأجرام السماوية بوضوح شديد.

ملأت تجارب المنشور و التلسكوب مخيلة هذا العبد المسكين و ظن أنه لو عاد الى بلاده لحسبه أهله أنه أعلم العلماء و أنه قد بلغ الثريا في علوم الطبيعة و أسرارها. منذ ذلك الحين و هو يعد العدة للهرب و الرجوع الى بلاده، و قد حمل معه نموذجا مبسطا للمنشور و آخر للتلسكوب. وكان يسهر الليل و الحلم يداعبه أنه قد عاد الى بلاده و أجتمع الناس حوله يسألونه و هو يجيب بطلاقة عن علوم الطبيعة و أسرارها.

ذات يوم أستأذن من سيده في الجامعة و أنطلق الى ميناء برايتون في جنوب بريطانيا و قد نوى الهرب الى بلاده. و هكذا أحتال كأنه أحد عبيد السفينة فركبها مع مجموعة من التجار حتى وصل الى بلاده و فر هاربا الى قومه.

أحتفل به قومه في القرية و شاع فيها أنه قد رجع عالما مشهورا في الطبيعة و أسرارها. و في خضم هذا الاحتفاء الكبير، فكر كيف يبني له سمعة أكبر و مكانة أعظم، فقرر أن يجمع من الفقراء المساكين مالا ليؤسس به مختبرا و مرصدا في القرية، فأنبرى أهل القرية المساكين و باعوا مالديهم من مجوهرات و دفعوا المال اليه بكل فخر و اعتزاز و قد أخذتهم نشوة الفرح به كخبير محلي، و ظنوا أن قريتهم ستصبح قبلة العالم في علوم الطبيعة. و هكذا أقام هذا الغشاش المنشور في المختبر و شيد التلسكوب في المرصد و دعا الناس زرافات زرافات ليروا عجائب اختراعاته و عبقريته، و كان قد لبس ملابس علماء الطبيعة و قد تدلت النظارة من عينيه. و هكذا شاع صيته في الأمصار و جاءته الوفود للتبريك و تعلم ما حسبوا أنه آخر ما توصل اليه العلماء.

مرت السنون و هذا الغشاش لم يعرف من علم الفيزياء و الطبيعة سوى المنشور و التلسكوب. لقد خسر هذا الغشاش كثيرا و خسرت معه القرية و أهلها. أما نيوتن العبقري فقد أكتشف بعد سنوات محدودة قانون الجاذبية العظيم و قوانين الحركة الثلاثة. و مع ذلك لم ينشر أبحاثه إلا بعد مراجعتها و تدقيقها من قبل العلماء الآخرين.

هكذا أنطلقت اوروبا في علوم الطبيعة، فجاء بعد نيوتن الكثيرون و منهم اينشتين بنظريته النسبية و جاء بعده علماء فيزياء الكم و أسرارها العجيبة.
أما تلك القرية الفقيرة فبقيت مغشوشة بهذا الجاهل أعواما مديدة و فاتها قطار العلم و الحضارة حتى بان مستوره و أنكشف أمره فطرده أهل القرية شر طردة، و هم يرددون: (رحم الله امرءا عرف قدر نفسه).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى