أقلام

زكي السالم.. ساقي حانة العشق

إبراهيم بوشفيع

مقدمة: مرفأ سفن الشعر والظرافة والأماني
زكي السالم اسمٌ طرق بصري لأول مرة ممهوراً بديوان (مرفأ الأماني) بصحبة ديوان الشاعر جاسم الصحيح الأول (ظلي خليفتي عليكم)، في العام 1420هـ، وقد كانا من أوائل الدواوين الشعرية الأحسائية التي أقتنيتها في أواخر دراستي الثانوية، وبداية انفتاحي على حقيقة الشعر وتجليه الجمالي على قلبي، وأتذكر حينها أني التهمت ديوانه الجميل في جلسة واحدة.
ويشاء لي القدر أن ألتقي به مرة أخرى بعد ثلاثة عشر عاماً، ولكن هذه المرة وجهاً لوجه، في ملتقى ابن المقرب الأدبي، وقد رأيته إنساناً بحق، أكبر من مجرد شاعر، تتجلى مشاعره وأحاسيسه في سلوكه اليومي، وتعامله مع أصدقائه بل مع سائر الناس، رجل يدخل القلب بلا استئذان، تقتحم ابتسامته أعتى حصون العبوس، وتهتك ظرافته أثخن أستار الوقار والتجهم، عرفته عن قرب جداً، فرأيته كزجاجة عطر شفافة، ترى ما بداخلها، وترى من خلالها كل الأشياء عبر السائل العطري العبق.
أبو عدنان ربما يعرفه البعض شاعراً جميلاً أنيقاً، ولكنه أكثر شاعرية في مشاعره من غالبية الشعراء الذين نعرفهم ونسمع بهم، إذا جالسته أبصرتَه قصيدةً من تواضع، وبيتاً يتيماً من ظرافة وخفة دم لا يتكرر، وملحمة تاريخية تكاد تقول إذا حدثك “مالهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها”، رجل موسوعي بحق، قارئ نهم، شاعر رشيق، مطلع بشكل كبير جداً جداً جداً على تفاصيل التاريخ الفني والسياسي والسينمائي العربي، خصوصاً في بداياته الأولى، حيث يلون حديثُه كل الأفلام البيضاء والسوداء.
لقد آثرت على نفسي أن أدخل هذه الورقة البسيطة إلى ثلاثيات العشق من بوابة الذات النقية الرقيقة لهذا الشاعر العظيم فعلاً، فمن خلال معرفتنا بهذه الروح الرقيقة الشفافة ننفذ إلى جزء بسيط وشاطئ صغير ومرفأ متواضع من بين موانئه وسواحله الكبيرة والمتعددة.

وقفات مع ثلاثيات في حانة العشق:
أبدع بعض الشعراء العرب في الكتابة الشعرية بأسلوب الثلاثيات، وتتميز الكتابة بطريقة الثلاثيات بأنها تشبه شعر الهايكو الياباني، حيث الالتزام بثلاثة أبيات، وضغط الفكرة والصورة، وحشرها بكمية ضخمة من روح الشعر، تجعل مقطوعة واحدة بحق تعادل قصيدة، نقرأ مثلاً لأحمد بخيت في شهد العزلة:
وقلتُ أعلّمُ الفَخّارَ شيئاً من ذكاءِ الماءْ
وأوقظُ غفلةَ الأشياءِ كي تتكلمَ الأشياءْ
لعلّ زجاجةَ المصباحِ تحفظُ حكمةَ الأضواءْ
***
أنا ضيفٌ على الدنيا وأوشكُ أن أودّعَها
وُلدتُ بحِضْنِ قافيةٍ وأختمُ رحلتي معَهَا
وغايةُ شهوةِ الكلماتِ أن تغتالَ مبدعَهَا!!
وممن أبدعوا في هذا المجال شاعرنا الجميل الأستاذ زكي السالم، حيث كتب مجموعة من الثلاثيات التي يطل علينا بها بين فينة وأخرى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأسماها “ثلاثيات من حانة العشق”، ولنا هنا عدة وقفات:

• شرفة على الثلاثيات:
حين نطل على هذه النصوص الرشيقة القصيرة، نراها تمثل المدرسة الشعرية التي ينطلق منها شاعرنا الجميل، وهي المدرسة الرومانتيكية، التي تنفعل لأرق المواقف، وتوظف اللغة الرقيقة الرشيقة في سبيل توصيف المشاعر والأحاسيس التي تختلج الروح الإنسانية، وكأنك تشعر به يتحدث عنك بلسانه هو، ولذا كان العنوان “ثلاثيات من حانة العشق” مطابقاً لمحتوى هذه الثلاثيات التي تغرق في الحب الرومانسي، وتدغدغ المشاعر بالشعر العذري، وتنظر لهذه الأحاسيس والعواطف لتحيله حباً إفلاطونياً متعالياً وراقياً، لا شعراً مبتذلاً أو ساقطاً في وحل اللغة أو الوصف.
ونلاحظ أن الثلاثيات جاءت من مجزوء الوافر، هذا البحر الرشيق الراقص الخفيف على الروح، وقد أجاد الاختيار، فقد جاءت الثلاثيات راقصة على وتر القلب والروح بلغتها وموسيقاها الخفيفة التي تربت على أذنك قبل أن تنفذ إلى قلبك وروحك.
• توظيف النصوص القرآنية والدينية:
مما نلاحظه في هذه الثلاثيات بشكل جليٍّ هو حضور اللغة القرآنية فيها، وتوظيفها توظيفاً خدم النص والفكرة، فنقرأ مثلاً:
قطعتُ دروبكِ اللهثى ولم أُبصرْ سوى تعبي
ولم آنسْ بجنبِ هواكِ ناراً تحتوي لهبي
فعدتُ عصاً لأوجاعٍ أهشُ بها على غضبي
وكذلك يقول:
وجدتُكِ في أعالي الطُّورِ ناراً وَقدُها فزعي
فسرتُ إليكِ مُنحطماً وآمالي تسيرُ معي
ولما لم أجدكِ ( هُدىً ) خنقتُ الآه في وجعي
فنلاحظ أنه هنا استدعى قصة موسى (ع) بصياغتها القرآنية، ووظفها توظيفاً رائعاً لإيصال المعنى الذي يريده، بل أدعي أنه يريد أن يتجاوز رومانسية الحب بشكلها الإفلاطوني إلى القداسة النبوية، ليكون أكثر صدقاً وتأثيراً.
ويقول كذلك في استدعاء واضح لقصة تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام:
عشقتُـكِ منذُ فجرِ العشقِ لم أكفرْ بملتِـهِ
وصغتُــكِ فيه محراباً أوَلِّي شطرَ قبلتهِ
وحين قَلاكِ ربُّ الحُـبِّ .. أغراني بردتِـهِ
ونجده كذلك في هذه الثلاثية:
وردتُ حياضَكِ الأصفى وصرتُ أذودُ عُذّالَـكْ
وأسقي ميّـتَ النجـوى ، لأبعثَ فِيهِ آمالَـكْ
تبعثرَ حُبِّيَ المرصوصُ حينَ جمعتُ أوصالَـكْ
استفتح الثلاثية باستحضار لتركيب نعرفه كثيراً في دعاء الصباح المروي عن أمير المؤمنين (ع) حيث يقول: “أم كيف تطرد مسكيناً ورد إلى حياضك هاربا؟”، وكذلك في ختامها يذكرنا بالآية الكريمة من سورة الصف: ” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ”.
• استحضار الرمز:
ولا شك أن شاعراً مثقفاً ومطلعاً على الأدب العالمي بحجم شاعرنا أبي عدنان لن يفوته أن يهرب في كتاباته بعض الرموز العالمية في استحضار جميل، كاستدعائه رمزية (دنجوان) أو (دون خوان) الشخصية الأسطورية الإسبانية، المعادل الموضوعي لزير النساء في ثقافتنا العربية، حيث تعاظم الأنا والغرور والاهتمام بالمظهر، مع الخواء الداخلي النفسي، فشاعرنا يستحضر هذا الرمز، بكل ثقله الرمزي وتعلقاته النفسية والتأويلية، حيث يتنقل بين أحضان النساء ولكنه لا يظفر إلا بالخسران والخيبة في كل مرة. يقول:
عرفتُ من النساءِ العشرَ والعشرينِ والأكثرْ
وكنتُ كـ ( دنجوانٍ ) لا يملُّ غرامَهُ الأطهرْ
أضعتُ سِنيَّ أحلامي ، وغيرَ الوجدِ لم أظفرْ
• البعد الفلسفي أو فلسفة الحب:
ونجده كذلك يفلسف الحب، ويضفي عليه صبغة فلسفية وتأويلية عميقة تتجاوز البعد الجسدي أو المادي، مما يصبغه صبغةً متعالية -بالمعنى الفلسفي- ومثالية راقية، يقول:
بثغركِ سرُّ هذا الكونِ ، لغزُ وجودِه الأزلي
وفوقَ شِفاهكِ الإنسانُ يرسمُ شكَّهُ الجدلي
كأنكِ في مَدارِ الخلقِ محوَرُ دارَةِ العِللِ
ولا شك أن مصطلحات مثل (الوجود الأزلي)، (الشك الجدلي)، (محور دارة العلل)، هي من عمق الفكر الفلسفي، وهنا يوظف هذه الحرب الفكرية الفلسفية الطاحنة، والجدلية الديالكتيكية، ويسحبها إلى بساط الشعر، وليس أي شعر، إلى الشعر الغزلي الرقيق البسيط، فكيف استطاع أن يوفق بين هذين الخصمين، بين العمق العقلي والعمق العاطفي.
ولنقرأ كذلك نظرته الوجودية السوداوية الكئيبة التي تذكرنا بكافكا وألبير كامو وغيرهما، حيث اليأس والسواد والطريق المسدود، فنراه يشكو إلى حبيبته بشكوى وجودية ملؤها الكآبة والسودواية:
كئيباً مثل هذي الأرض جئتك اشتكي نفسي
وثقل خطاي يسبقني إلى مبكىً من اليأس
كأني فوق ظهر اليوم أحمل مثقلا أمسي

• الصورة المتحركة:
من الأشياء اللافتة للانتباه كذلك في هذه الثلاثيات الجميلة، هو التصوير المتحرك، أو لنقل سينما الصورة الشعرية، حيث تقرأ وكأنك تشاهد مشهدًا سينمائياً من فيلم رومانسي يمر أمام عينيك، شاهد مثلاً هذه الصورة المتحركة في قوله:
إذا ما جِئتِني تمشينَ في استحيائكِ المُغري
وعثرةِ خطوكِ الهمجي بين تأوّدِ الخَصرِ
أخافُ تهورَ الفستانِ حين يمرُّ بالصدرِ

خاتمة:
وما ذكرت هنا إلا بعضًا من النقاط على عجالة، وإضاءات لا ترسل إلا إشارات بسيطة عما تحويه هذه الثلاثيات من كنوز وخفايا إبداعية كثيرة رغم قصرها وسلاسة لغتها.
وختاماً، ما يزال لي رجاء أن يطيّب شاعرنا الكبير قلوب محبيه وقرائه وأصدقائه بطباعة ديوانه الثاني، فقد طال العهد، وقلوبنا وأرواحنا تهفو للاستزادة من هذا المنبع الشعري الرقراق، وأن يهدي قراءه باقةً من حديقة قصائده المتخمة بالجمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى