أقلام

يوم الأربعين.. وارتدادات الفاجعة

باقر الرستم

تقديم..

اهتمام النماردة:

يمكن للفراعنة والنماردة المستبدين أن يشيدوا القصور والحصون والقلاع بأيادٍ فائقة الروعة والإتقان، والاهتمام بكل مظاهر المدنية والتقدم بما ينافس الإمبراطوريات الأخرى، وحتى الاهتمام بدور العلم ورعاية العلماء، كالتنافس بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية.

ولكن ذلك بمقدار ما يعني سلطتهم، وسطوتهم، والتفوق على الآخر المنافس، لا بقصد رعاية العلم والفن والإبداع.. وهكذا اهتمامهم بالعلم والعلماء، فإنه ينحصر في حدود ما يعزز وجودهم وكيانهم.

يظهر في موازاة ذلك اهتمامهم باحتضان ورعاية الرعاع، وإعطائهم ثقلاً وتأثيراً، وتلميعهم بما يُظهِرهم وكأنهم الأكثر علماً وإبداعاً وعبقرة أمام العلماء العمالقة والمبدعين.

من الرعاية تعليمهم الكلام والمنطق والحوار الذي يريدونه، وإن لم يتمكنوا أن يجاروا في أدائهم أداء أهل الحق في البيان والمنطق، إلا أن مهمتهم هي تلك الشريحة التي سبق وأعلنت الولاء، ويخشون التأثير عليها لخطاب الآخر، لإبقائهم ملتفين حولهم، وكذلك إثارة اللغط والشغب وممارات أهل البصيرة، واستقطاب الأماثل الجدد، أو ممارسة الخداع والتضليل، وصناعة تداخل في المفاهيم لتحييد من يمكنهم تحييدهم من النخب.

وعلى ضوء ذلك فسيكون ما ينتشر من علم وثقافة خاضعاً لقاعدة: (( كل ما تحت السماء لي))، وقاعدة (( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ))، ومخرجاتهما، وهذا ما لا ينسجم وصناعة الأمة ذات البُنى التي لا تقوم على أساسٍ سلطاني، وإنما بقاعدة (( لستَ عليهم بمسيطر))، وقاعدة (( لا إكره في الدين، قد تبين الرشد من الغي)).

* الرأي العام وصناعته:

ما يتولد من الكيانات السياسية ثقافة شعبية عامة، يمكنها أن تتغير بتغير الموسسة الحاكمة، لتكون ممارسة طريقةٍ ومنطقٍ آخر في الخطاب، وفي إدارة الحكم، لتشكيل وعيٍ آخر، وهو ما يسميها النص بمشاكلة الناس طريقة حاكميهم: (( الناس على دين ملوكهم)).

نعم.. يمكن أن تتبلور عادات وتقاليد، وفقاً لاعتيادهم على ما تم فرضه وتعاطيه لجيلٍ أو أكثر، وهو ما سيؤثر حتماً على ما ألِفوه واعتاده سلفاً، ومن الممكن أيضاً أن يُنتج من ذلك رأياً عاماً في ظل ذلك الواقع السياسي في تلك الفترة، إلا أنه يمكن أن يتغير إذا ما فرض كيانٌ حاكمٌ آخر على أنقاضه طريقةً أو نسقاً آخر نقيضاً له، قد يجعلهم غير راغبين بالعودة إلى سالف عهدهم، ولكنهم قد يتقبلون عهداً آخر يرونه الأفضل.

* تشكُّل الأمم:

ما تتشكل منه الأمة يختلف في بعض مفردات التشكل عن تشكّل الشعب؛ وذلك لأن الأمة تتشكل من خلال ضخ وعيٍ وإيمانٍ لا ترعاه أو تفرضه سلطة، ويؤمن به الناس مختارون، ويتجاوز في تمدده وانتشاره العرق والقومية، وهو ما ينطبق على منطق وشرائع الأنبياء والمرسلين، والذي يحتوي على محتوىً مقدسٍ، يتناغم ومكوِّن وعيهم الفطري، الذي يسكن في قلوبهم قبل إيمانهم.

وهذا يعني أن الناس سيقبِلون على مفاهيم وعقائد الأنبياء والرسل بأنفسهم، إيماناً منهم، وليسوا مجبرين عليه، كونها تلبي احتياجاتهم الفطرية، وتعد بحياة يبحثون عنها من خلال وعيهم، فيما لا تؤطرهم بسياجٍ يغلق عقولهم أو أفواههم، فيما تلح عليهم بها عقولهم وقلوبهم، وهذا ما يجعل الناس يرفضون بعقولهم وقلوبهم إخراجهم من تلك المضامين، وإن تغير النظام السياسي القائم.

وقد يتحول رفضهم إلى رد فعلٍ مباشر، ليدافعوا بأنفسهم عن تلك المفاهيم والعقائد.. بل سيباشرون بأنفسهم التبشير بها، ليتجاوزوا بها حدود كيانهم الاجتماعي إلى الكيانات الأخرى التي قد تختلف عنهم كثيراً.. أي أن الفكر والعقائد لا تقوم على صناعة العادة والتقليد، وإنما هو ربط العقول والقلوب بمبدأ واحد على تلوِّن بيئات الناس، واختلاف طبائعهم.

* موقف الملأ الذين استكبروا:

فيما (( الملأ الذين استكبروا))، وهم: (( السادة، والرؤساء، والأشراف)) يسعون دائماً بمنطق: (( أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ))، سيسيرون في الناس بالاتجاه المعاكس، لإعادة الناس إلى سابق عهدهم.. وهو العهد الذي يعودون فيها سادة وكُبراء.

* الكفاح ومناسبات الإحياء:

ولكبح مساعي العودة إلى سيادة أولئك الكبراء فإنه لا بد من أن يقابلها كفاح مصلحين، يمنعون تلك العودة. فدعوات الأنبياء والرسل جاءت كي تخلص البشرية من ربقة عبودية الناس لأولئك الملأ، ولا بد أن يتواصل الكفاح لمنع تلك العودة بعد رحيلهم، وإلا لذهبت أهداف جهادهم وتضحياتهم الجسام أدراج الرياح، أو تكاد أن تكون بمثابة إهداء ثمرات ذلك الجهاد وتلك التضحيات لتسلط أولئك الملأ الذين استكبروا..

فالمصلحون في كفاحهم يقومون بذات العمل الدعوي الذي يقوم به الأنبياء، ويواجهون انحرافات أولئك الكبراء واستكبارهم؛ لإعادة الناس إلى قيم ومبادئ دعوات الأنبياء إذا ما حدث وهنٌ أو تراخٍ هنا أو هناك لما يقون به أولئك، لا أن يصنعوا أمة بديلة، أو للأمة انتماءاً آخر لمرجعية الأنبياء والرسل.

كفاح المصلحين وتضحياتهم يأتي على خلفية ما يقوم به أولئك الملأ، من قيامهم بالتضليل والإرجاف، وتغلب سلطانهم لضعف الأمة أو استسلامها لأولئك الكبراء، كالحال الذي عليه الأمة في ظل حاكمية يزيد بن معاوية وأمثاله، ليفرض ذلك الواقع الذي تمظهر في يزيد كحاكم على الإمام الحسين(ع) كفاحاً مريراً، وتضحياتٍ جسامٍ.

* الحسين وإحياء أيامه:

وعندما يقول النبي الأعظم (ص): حسينٌ مني، وأن من حسين، فهذا يعني أن الإمام الحسين مثّل رسول الله (ص) يوم عاشوراء، ومثله في موقفه من يزيد.

المنهج الغائب تجاه الحالة اليزيدية والأموية صاغه الإمام الحسين، ما يعني أننا سنقرأ الحسين منهجاً محمدياً، وسيتحول كل حضوره وسيَرته وكفاحه إلى طريقة ومنهجٍ يستضيء الذين استوعبوا حديث (( وأنا من حسين))، خاصة وأنه جاهر في ذلك بقوله:(( وأسير فيكم بسير جدي وأبي علي بن أبي طالب)).

وعلى ضوء ذلك تبرز حياته كصانعٍ ومضحٍ، وهكذا حضوره وسننه كقارئ – يمثل النص- في الحوادث الواقعة، ومواجهة تداعيات الانحراف ورعاته، ليكون النموذج الأوحد المخول لتمثيله، فهو القدوة والنموذج المحتذى.

إنه الشريعة في تلك المسيرة.. خطاباً.. وحراكاً.. ونهايات أيضاً، ليحاكيه مقتدوه. في إنتاج الواقع الذي تنتجه مُثل تلك السيرة وتلك الشريعة، أو بدافع الإيمان بكل حضوره وتفاصيل ذلك الحضور، سعياً وراء الصورة التي ينتجها ذلك الحضور، بذلك النموذج وبتلك الشريعة، ومُثُلهما في الأذهان، لتتحول كل مفاصل ذلك الحراك الذي تمثلت فيه أعظم التضحيات إلى مناسبات خالدة ما ظل متمسك بأسس وقيم ذلك الكفاح.

* المناسبة في وعي الجماهير:

بالرغم من إيجابيات الفعل الجماهيري غير المحدودة، والمصطبغ بالإيمان، إلا أنه قد تتخلله في حالاتٍ من ردود الفعل المنفلتة أحياناً نتيجة التوليد العفوي لذلك السلوك الجماهيري الممتلئ عاطفة وانفعالاً ما يضخم به بعض صور المواساة والتأسي المروية شفاهاً، ودون مصادر موثوقة إلى إصابة بعض روايات الأحداث بزيادة هنا أو هناك، بما يستجيب لفهمهم الجماهيري، لتتخلق من ذلك مناسبات، قد تحظى باهتمام كبير، بحجم مكانة صاحب المناسبة في وعيهم وعقيدتهم، وبحجم مناسبة الإحياء الأم.

كل ما يمس تلك الواقعة يمكن أن يتحول إلى مناسبة، وقد تحتضن بعضاً من صورها شريحة ما، بما يتناسب ووعيها، لتتضخم، فيراها فريق آخر بأنها أُعطيتْ أكثر مما تفترضه تلك الصورة من الواقعة، وقد يرى الفريق الأول بأن ما يعتني به الآخرون ليس منطقياً.

ووجوه ذلك كثيرة، ولنضرب لذلك مثلاً الكلام عن الأربعين الذي اتخذ صورتين فيه، وهما:

الأولى: فريق يعتني بمقولة عودة الرؤوس والسبايا إلى كربلاء، أكثر من عنايته بزيارة يوم عاشوراء، ولذلك فإن كل احتفاليته بهذا اليوم يدور حول وصول السبايا إلى كربلاء.

الثانية: الفريق الآخر الذي يرى أن يوم الأربعين هو يوم زيارة، ليس مرتبطاً بعودة السبايا، ويناقش هذه المسألة بطريقة توصله إلى عدم التسليم بها.

* جدلية التنسيب:

وكنموذج لارتدادات الواقعة.. كون الاحتفال بيوم العاشر غير قادر على استيعاب ضخامة المأساة، فقد حظيت الأيام التي تسبق اليوم العاشر بأجواء احتفالية تم تنسيبها لمشاهد وقعت في يوم العاشر، وقد تقبلها الجميع، كون الجميع يعيش حالة الارتدادات الصادمة، ولا يمكن للاحتفال بيوم العاشر فيما تلى الواقعة أن يملأ ذلك الانفعال الهائل واللا متناهي أن يكون كافٍ لتحمل عبء ذلك الزخم الهائل.

ولذلك كان التقسيم الحالي لأيام عاشوراء، ليأخذ رموز الواقعة الصانعين، أو الذين مثلت مصيبتهم ألماً عنيفاً كشهادة عبدالله الرضيع أياماً تُذكر فيها واقعة استشهادهم.

ومن ذلك تسمية اليوم السابع باسم أبي الفضل العباس، حتى لنشعر في أوان ذكر الواقعة المرتبطة بالعباس أنه استشهد في ذلك اليوم فعلاً، ليحظى بقدسية تكاد تقارب قدسية يوم العاشر.

وفي جدلية واقعةٍ.. حدثت هذا اليوم أو لم تحدث هو يوم التاسع من ربيع الأول، وما أظفي عليه من مكانة وتاريخ، إلا أن مناقشة ما أظفي إليه علمياً قد لا يعطيه تلك الصورة المرتكزة في أذهان معتنقي مكانته التي تّذكر له.

وهكذا للأشخاص أيضاً، كما ذكر عمرو الضبي عن عبدالله بن سبأ اليهودي، والأحداث الجسام المنسوبة له في صناعتها، فيما مناقشته ومناقشتها لا تقبل بتلك الصورة المنسوبة له.

لا أعني بهذا أن كل تلك المناسبات أُظفيتْ إليها قيمة لا تناسب حقيقتها وطبيعتها.. أبداً، وإنما الذي أقصده أن اهتمام الناس بذلك الشخص، وقيمه، ونضاله وتضحياته، قد تكون جزئيةً ما من ذلك الاهتمام ليس واقعياً، ومع ذلك فليس بالضرورة أن يكون تنسيبها غير منطقي، وغير صحيح.. فقد لا تكون المناسبة حقيقية، ولكن أصل الفكرة حقيقية ومنطقية.

مثال ذلك.. ذكرى وفاة السيدة فاطمة الزهراء، (ع) هي في يومٍ من تلك الأيام المتعددة المذكورة في تاريخ حياتها، ومع ذلك يعد إحياء كل تلك الأيام ذا قيمة عالية، يساهم في إحياء قيمها ومبادئها ومظلوميتها.. وكلما كان ذلك الإحياء في أيام تَحمِلُ قدسية صاحب المناسبة فإن النتائج ستكون ذات ثمرة أكبر، وقيمة أعلى وأكثر انتشاراً وتأثيراً على نطاقٍ أوسع.

* يوم الأربعين والزيارات:

يوم أربعين الإمام الحسين(ع) يحمل تلك القيمة التي أشرنا إليها، ولذلك فهو بغض النظر عن صحة زيارة السبايا لضريح أبي عبدالله الحسين(ع) في ذلك اليوم، إلا أن الثابت هو أن أول من تشرف بزيارة القبر الشريف هو الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري، بمعية التابعي الجليل عطية العوفي، وزيارته بتلك العبارات الخالدة، وهي التي خلَّدتْ زيارته.

نعم.. هي كما قلنا بأن ما يرتبط بالإمام الحسين(ع) مهما كان صغيراً سيتحول في ذاته إلى مناسبة، وسيحظى باهتمام بالغٍ من مريديه، فكيف بأول زيارة كانت إلى قبره، وقد كان سَبْك عباراتها عالية المضامين والآثار.. قد فرضت نفسها لتكون خالدة.

ومن أهم الزيارات، برغم أنها ليست مما أفاضه المعصوم، وقد رافقها مناسك كالغسل، والتطيب، وهو ما يوحي بأنها جاء على خلفية وصايا مسبقة من النبي (ص) وأمير المؤمنين(ع)، وحتى عباراتها الجليلة قد تكون عنهم عليهم السلام، والله العالم.

فما قام به جابر من مشيه حافياً، وما قاله في زيارته، وتصرفه بطريقة مناسكية أعطى لزيارته تلك القيمة الخالدة، حيث قال (( يا حسين- ثلاثاً-، ثمّ قال حبيب لا يجيب حبيبه. وأنّى لك بالجواب وقد شطحت أوداجك على أثباجك، وفُرّق بين رأسك وبدنك. فأشهد أنك ابن خاتم النبيين، وابن سيد المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء. وما لك لا تكون كذلك، وقد غذتك كف سيد المرسلين، وربيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفُطمت بالإسلام، فطبت حياً، وطبت ميتاً، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك، ولا شاكَة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك المجتبى ابن زكريا. ثمّ جال بصره حول القبر)).

ثم التفت إلى الأنصار، وقال: (( السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين وأناخت برحله، وأشهد أنكم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين)).

وأيضاً وردت زيارات عدة عن الأئمة عليهم السلام، وعنايتهم بالزيارة في الأربعين، وحظهم عليها كعنايتهم بيوم العاشر. من ذلك زيارة الإمام الصادق(ع) المشهورة، والتي تشرح قضية الإمام الحسين(ع) وظُلامته، ومما جاء منها:

(( اَلسَّلامُ عَلى وَلِيِّ اللهِ وَحَبيبِهِ، اَلسَّلامُ عَلى خَليلِ اللهِ وَنَجيبِهِ، اَلسَّلامُ عَلى صَفِيِّ اللهِ وَابْنِ صَفِيِّهِ، اَلسَّلامُ عَلى الْحُسَيْنِ الْمَظْلُومِ الشَّهيدِ، اَلسَّلامُ على اَسيرِ الْكُرُباتِ وَقَتيلِ الْعَبَراتِ، اَللّهُمَّ اِنّي اَشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ الْفائِزُ بِكَرامَتِكَ، اَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ، وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ، وَذائِداً مِنْ الْذادَةِ، وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الاَنْبِياءِ، وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ مِنَ الاَوْصِياءِ، فَاَعْذَرَ في الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ، وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا، وَباعَ حَظَّهُ بِالأرْذَلِ الأدْنى، وَشَرى آخِرَتَهُ بِالَّثمَنِ الأوْكَسِ، وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ، وَاَسْخَطَكَ وَاَسْخَطَ نَبِيَّكَ، وَأطاعَ مِنْ عِبادِكَ أهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الأوْزارِ الْمُسْتَوْجِبينَ النّارَ، فَجاهَدَهُمْ فيكَ صابِراً مُحْتَسِباً حَتّى سُفِكَ فِي طاعَتِكَ دَمُهُ وَاسْتُبيحَ حَريمُهُ، اَللّهُمَّ فَالْعَنْهُمْ لَعْناً وَبيلاً وَعَذِّبْهُمْ عَذاباً اَليماً… )).

لتجسد هذه الزيارة كل المبادئ والقيم والمفاهيم التي أرادها الإمام الحسين(ع)، وشرحها الأئمة الطاهرون عليهم السلام، وهذا ما يقدم جواباً صريحاً على إشكالية أن خروج الإمام الحسين(ع) خاصاً به، ويؤكد أن ما أعطى من أهمية بالغة لهذا اليوم هو أنه يقدم معنىً وفلسفة ذات عمقٍ مرتبطٍ بارتدادات الواقعة، وهو الحداد المشحون بكل معاني الأسى وحرارة الافتجاع.. وما بين العاشر من محرم إلى العشرين من صفر ترتفع مآذن العزاء والذكريات الأليمة، فلا تبرد ولا تهدأ، وأنى تهدأ أو يشعر بنو أمية ومناصروهم ومشايعوهم بنسيان الفاجعة أو الجريمة، وهكذا هو تأكيد وتشديد أئمة الهدى(ع) على إحياء تلك المظلومية، والجريمة، والتي أشار إلى هذه النكتة اللطيفة الخطيب الأستاذ الشيخ أحمد سلمان .

* الخطاب الحسيني: بين العاشر والأربعين:

خطاب الإمام الحسين (ع) ليس فقط ذلك المنطوق الذي سجله المؤرخون بعباراته تلك، وإنما هو بذلك الحضور الذي استوعب الزمن، وتحرك في الاتجاهات المختلفة بذات حرارته، مقدماً الحسين(ع) الشارح الأوحد والواقعي للخطاب الإلهي إزاء الانحراف والتحريف الأمويَين، والترهل المفجع في تعاطي الأمة مع ذانك الوضعَين، وقد ظن الأمويون أنه لا يوجد من يقدِّم الإسلام قارئاً وحاضراً ومتصدياً لأفاعيلهم وبدعهم وزحوفاتهم الكارثية والمعقدة على أصول الشريعة والدين..

بل أغراهم انحياز موازين القوى العسكرية والاجتماعية والسياسية لصالحهم ليوغلوا ويتمادوا في طغيانهم، فيما الإمام الحسين(ع) قد رفع مستوى المواجهة ليُخرج كل كفرهم وأحقادهم للأمة، وليفهموا معنى (( فعلى الإسلام السلام إذ قد بُليتْ الأمة براعٍ مثل يزيد))، وقد فعل الأمويون ذلك تماماً، وهم لم يفهموا ذلك، وليسوا بِوَارِد فهمه..

ويهدف من ذلك أن تكون قراءة خروجه ذاك بكل ما فيه من زخم عاطفي، وحرارة وتضحيات لتكون استجابة قارئها لحركته كاستجابة جابر بن عبدالله الأنصاري، والتي خلدها التاريخ: (( والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً لقد شاركناكم في ما دخلتم فيه)).

أربعون يوماً لا تكفي جزعاً:

نقرأ كيف زار جابر، في يوم الأربعين للإمام الحسين(ع): (( فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثمّ اتّزر بإزار وارتدى بآخر، ثمّ فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثمّ لم يخط خطوة إلّا ذكر الله تعالى، حتّى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه، فألمسته، فخرّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلمّا أفاق قال: يا حسين ثلاثاً، ثمّ قال: حبيب لا يجيب حبيبه)).

فالأربعون بما قدمه الأئمة(ع)، وجابر(رض) هو أول وأقرب مراسم للإحياء، وهو قريبٌ نسبياً إلى يوم العاشر، وفي ذات الوقت أطول مدىً يستمر الناس فيه بين الأول من محرم إلى أربعين الفاجعة لإقامة المآتم والحزن والجزع، وهو ما يمكن الالتزام به، ويحافظ على تلك الحرارة، وذلك الزخم والارتباط بقضية الإمام الحسين، وبمظلوميته لمدة أطول من تلك الأيام الأربعين، لأن من يحتفل بها مريدو الإمام الحسين(ع)، وشيعته، وهم لن يكتفوا بهذه الأيام الأربعين.

هذا الزخم وتلك الحرارة ستجعل المؤمن المريد يكتشف أن هذه المدة لا تكفي جزعه، ولا حزنه ولا حِداده، وأنها ستقدم شريعة الإحياء، ومن خلال ذلك ستُجترح صوراً وأنسقة وحالات حسينية تغذي ارتباطه وولائه إلى العالم من العاشر إلى العاشر الذي يليه..

ولذلك قال الشاعر السيد جعفر الحلي، ومثله قال الشعراء بذات المنطق، وإن كان بقوالب مختلفة:

وجه الصباح عليَ ليلٌ مظلمُ
وربيــعُ أيامي عليَّ محــــرمُ

* ما يتخلُّق من الفاجعة:

وهكذا تتخلق المناسبات في ظل إضاءات المناسبة الأم كارتدادات لها، وإن لم يدعُ لها نص أو أحد، وقد تتخلق الأحداث أيضاً فيها، أو تتضخم بعضها، ويتحول كل ما جرى فيها، وبسببها إلى ذات قيمة قد يعادل المناسبة الأم، لارتباطه بها، ولتحمل قيمة اليوم والمناسبة ذاتها، أو يقترب منها، ويلتصق بها.

يوم العاشر.. يوم ثابتٌ بكل أحداثه، ولكن بعض ما قيل أنه جرى فيه، أو بعده لم يكن دقيقاً، ومع ذلك حظي باهتمامٍ تحول إلى طقسٍ شعائري عاشورائي.

نعم.. بعضه كان شعائر حقيقية، وقد تعاطى أهل البيت(ع) معه على أنها تجسد احترام ذلك اليوم وتوقيره، وتفي للإحياء حقه، ويستحق فاعله أن يكون (( من أهل الجزع علينا))، ولكن بعضاً آخر أخذ حيزاً وصِفة الشعائرية أكثر من سِمَته التاريخية، ليُدخل المناسبة في أجواء حرجة، وليفتح الباب على مصراعيه لتقدَّم الاستجابة العاطفية كشعيرة، ولو أنها لا تتناسب وقيمة وأهداف الواقعة وصانعها.

من هنا نقول بأن فداحة الخطب، ووجود أمة تحيي مناسبته سوف لن يكون الإحياء في حدود ذلك اليوم، ولا حدود الشعائرية المنطوقة ولا حتى المستنبطة له، كون الواقعة تجاوزت حدود القراءة التأطيرية في عفوية القارئ والمستجيب، إلا أن قراءة فقه خروج الإمام الحسين(ع)، وأدبياته ولغته الواردة في خطاباته سيحدد المسار الذي يفرض على الإحياء أن يسير في سياقات تلك القراءة، لتُصاغ الممارسات والمناسبات المستنبطة من خلال ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى