أقلام

رحلةٌ مضمخةٌ بالدهشةِ ..لطفولةٍ قلقةٍ

محمود المؤمن

تأمل في ديوان (توقيع شخصي للظلال)

(إن القارئ لا يريد اكتشاف النص بل يريد اكتشاف ما في ذاكرته)
هكذا أجاب أدونيس على السؤال الفلسفي العميق الوارد في مقال شعرية القراءة:
هل استطاعت القراءة أن تتطور هي الأخرى بنفس الوتيرة التي تطور بها النص الشعري الخاضع لقانون تطور اللغة وتغير الإنسان التعبيرية وارتفاع الذوق الجمالي؟!
ولكي أكون منصفاً في قراءتي لهذا الديوان ربما أجنح للظلالِ وأكتفي بها لأن المساحة الضوئية مكثفة في تجربة الأستاذ عبدالله المعيبد بدءًا بالطفولة وانتهاءً بالعزلة وما يتخلل بينهما من من دهشةٍ وقلق شعري ورحلة استجمامية ممتدةٍ إلى الشتات الكثير الذي يقتفي القلة وكم كان شُجاعاً عندما عزم على التفتيشِ عن نجوميته وقد صرح عن ذلك قائلاً:
لا يُدركُ الفتحَ يومَ الفتحِ من جَبُنا

ولي ثلاث وقفات حول تجربة الشاعر المرهف عبدالله المعيبد أعرض لها على أمل استيفاء الجمال :-
طفولة الدهشة ورحلة الاستجمام والقلق الشعري

الوقفة الأولى طفولة الدهشة:-
ثيمة الطفولة حاضرة وبشدة في نصوص الأستاذ عبدالله المعيبد ومتجسدةً في شخصيته الترابية الراقية
فهي ليست طفولة حضورية تهتم فقط بالدعاية والإعلام من أجل إثبات الذات المزيفة بل هي طفولة إبداعية لا تشيخ وتبقى طاغيةً رغم تقدم العمر وتراكم أتعاب الحياة وعبر عنها صراحةً بقوله:
ساعٍ أدقُّ البابَ بابَ تساؤُلٍ
فلربما طفلُ الحقيقةِ يِولَدُ

وقد وُلِدَ هذا الطفل فعلاً كما أراد أن يكون وهمه الوجودي ممهورا بتوقيعه الشخصي
طفلُ الحياةِ أنا، ما انفكَّ يحملُني
فُلكُ السؤال إلى إشراقةِ الحُكمَا

وهو غفاريِّ الهوى حتى في طفولته :-
وليْ نايٌ يُرافقني
إلى منفايَ كالظلِّ
كَبُرتُ هناك يا وطني
وظلَّتْ لهفةُ الطفلِ

وحينما يستأذن للدخول على القصيدة يقرأ
دعاء الطفولة المطمئنة:
سأدخلُ في القصيدةِ مطمئِناً
وخطويْ ، نحو موسيقايَ، طفلُ

ولهذه الدهشة الطفوليةِ يومان:
يوم سعدٍ كما عبر عن ذلك قائلاً :-
شِعري طفولةُ دهشةٍ غنَّت هنا
بعضَ الحنينِ على لسانِ غريبِ

ويوم بؤس كما في قوله:
لا الأرضُ عادت هيَ الأرضُ التي فَتَنتْ
لا الطفلُ عادَ يُناغي دهشةَ الصِّغَرِ

الوقفة الثانية رحلة الاستجمام:-
عندما استغرق متأملاً في الآية الكريمة (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) ينقدحُ في ذهني للوهلة الأولى مفهوم العُزلة التي من حق كل مبدع أن يأوي إليها بين الفينة والأخرى لتتكامل منظومته الفكرية وتتشكل شخصيته الحرفية ودون شك من يتتبع شاعرية المعيبد يدرك بأن له مقرًا يلوذ إليه كلما أحس بهيجان مشاعره فتارة يكون هذا المقرُ كهفاً يسكب فيه ما يختلج بذاته:
مقامُكَ الآنَ ديوانٌ ومحبرةٌ
والليل في روحِكَ النوريّةِ الكهفُ
وتارة يكون هذا المقرُ بئراً يؤنس وحشة قاسية :-
ويوسفُ أنتَ آخيت الليالي
وعزلتُكَ التي ربَّتكَ بئرُ

وتارةً ثالثةً تكون هذه الخلوةُ طويلةٌ
رغمَ بدائيتها:
رأيتُهُ في زُقاقِ الطينِ
قلتُ لهُ :
متى تعودُ؟
فقالَ : امتدتِ الرحلةْ!

وتارةً رابعةً تنبع هذه العزلة من الضمير الحي:
إذا طاشتْ بيَ العتماتُ حيناً
فلي في داخلي
ضوءٌ مُرَبِّي

وأخيراً وليس آخِراً وفي ختام ديوانه يمزق هذه العزلة لينفتح على الوجود بأسره بكل ما أُوتي من قوةٍ موجوعة :
سأفتحُ عزلةً نحو الأعالي
وعن توراةِ أوجاعي سأتلو

ومن ضمن الطقوس الحديثة التي عُرف بها الشعراء على وجه الخصوص ارتشاف القهوة واحتساء الشاي حين تتداعى لديهم الأفكار على هيئة خربشة ومونولوجيا ومعاناة وسمر
في فسحة القهوة
اكتظت دفاترُنا
بالخربشاتِ التي في طيها نصفو
….
حوارٌ داخليٌّ كالأغاني
ويصفو رفقةَ الفنجانِ فِكرُ
….
مُرَّ عبرَ المجازِ حتى توافي
شاعراً يحتسي المعاناةَ شايا

لنا أطيافُ أُغنيةٍ
تبدَّتْ في النواعيرِ
وشايٌ من حقيقتِنا
يُخاصِرُ حفلةَ الغوري
…..
كلُّ ما نحتاجُهُ في شوقِنا
قهوةٌ.. منفى ، وأشعارٌ ، وشامَةْ
….

الوقفة الثالثة القلق الشعري :-
وهذه السمة بارزة في أغلب قصائده وأشدها وقعاً ما يُكتَمُ في نفسه :-
وربَّ صمتٍ أثيريٍّ تضجُّ بهِ
فالشاعر الحرُّ
في أعماقهِ طَفُّ

ولك أن تتصور بأن هذا القلق كالطاقة من حيث تحوله من شكل إلى آخر والفوضى سيدة الموقف حيناً وحيناً آخرَ يكون التمرَّدُ هو المسيطر لا سيما إذا لبس عباءةَ التساؤل:
فوضى تحطُّ رحالَها في داخلي
والأغنياتُ تَجدُّ في ترتيبي
تعبتُ أحملُ طينةً تتمرَّدُ
فمتى بُجرِّدُني العروجُ وأصعدُ؟
إني سؤالٌ
والسؤالُ جراحةٌ
بإجابةٍ عرجاءَ ليس تُضمَّدُ

وله في اضطرابه الشعري أسوة بأرق شاعر العرب الأكبر وقلق أبينا الطيب المتنبي ولكنه ببداوةِ روحه يتقاسم هذا القلقُ بصورةٍ أجلى مع سيد البيد الثبيتي في الزمكان
ولك أن تدرك التناص بين بيتيهما:-
الثبيتي:
قَصَائدِي أَينَمَا يَنْتَابُنِي قَلَقِي
ومَنْزِلِي حَيثُمَا ألْقِي مَفاتيحِي
المعيبد:
مكاني كلُّ منفىً للحيارى
زماني مثلَ شِعري لم يُحِطْ بي

بحق تجربة عبدالله المعيبد تجربة ناضجة وثرية
ومصدر قوتها تكمن في بساطتها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى