أقلام

(دعاة التطرف ومثيري الفتن).. يُصنعون ولا يُولدون

عبدالفتاح أحمد العوض

أتذكر حادثة وقعت قبل عدة سنوات في أحد المناطق بدولة الأردن ما زال لها وقعها في وجداني ومخيلتي، وتتلخص تلك الحادثة أن خطيب الجمعة في أحد المساجد بتلك المنطقة خصص خطبته العصماء ذلك اليوم لكيل الشتائم، والنيل من أحد رموز الجهاد والمقاومة بوجه المحتل الصهيوني! لا لشيء إلا بدافع العصبية بسبب انتماء الشخصية الجهادية التي استهدفها لطائفة أخرى، فما كان من المصلين الحاضرين إلا أن هبُّوا لإنزال ذلك الخطيب من المنبر، وطرده وإخراجه عنوةً من المسجد.
تُرى كم وكم من أمثال هذا الخطيب الخارج عن الأصول، والموغل في التطرف لدينا ولدى غيرنا يستحق أن ينال نفس الجزاء؟
بلادنا تنعم ولله الحمد بدرجة عالية من الإستقرار والتناغم، وهي مضرب المثل في التعايش السلمي بين أطياف الشعب ومكوناته، وهذه نعمة ينبغي أن نحرص جميعاً على المحافظة عليها وتنميتها، من خلال تعزيز الوعي المجتمعي والحس بالمسؤولية والتصرف وفق ما يتطلبه الأمر، عندما نجد من يحاول بقصد أو من غير قصد تمزيق لحمة المجتمع وإثارة النعرات الطائفية والفئوية بدوافع شتَّى.
فبين الفينة والأخرى يخرج من بين أوساطنا بعض شذاذ الآفاق الذين أعماهم التعصب واتباع الهوى، فيرتقون منابر الجمعة والحسينيات لبث سمومهم ونشر عصبياتهم أمام نظر الحشود من مريديهم المولعين بأساليبهم الخطابية الرنانة، ولا يجد هؤلاء المارقين للأسف الشديد من ينزلهم من المنابر الشريفة أو من يردعهم من أصحاب الغيرة والوعي. خاصةً أن هؤلاء الدعاة المتطرفين يتسلحون بألقاب ومظاهر دينية تحيطهم بهالة من القداسة والحظوة الإجتماعية الكبيرة، وقد يكونون فعلاً ممن يحملون مؤهلات دينية عالية ويحظون بمكانة مرموقة في الأوساط العلمية والحوزوية، ولكن كل هذا لا يشفع لهم ابداً ولا يمكن أن يكون مبرراً لتجاوزاتهم الخطيرة، فالأمن الإجتماعي واحترام جميع أفراد البلاد بشتى مشاربهم وتوجهاتهم هو خط أحمر لا يُسمح بتجاوزه.
أحد هؤلاء الذي يحمل لقب “علامة” ولديه إمكانيات خطابية وقدرات ذهنية ومخزون علمي وثقافي كبير لا يمكن إنكاره، اعتلى منبر الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام قبل مدة، وتجرأ على وصف إحدى الجماعات ” في خضم رده على أحد الخطباء ” بأوصاف بشعة وعبارات أقل ما يُقال عنها أنها خادشة للحياء! كلنا مع سماحة العلامة في استنكار ورفض ما يخرج من ذلك الخطيب هداه الله، الذي لا أستبعد أنه ربما أُصيب في قواه العقلية فخرج عن الجادَّة في السنوات الأخيرة، ولم يعد يميز بين الغث والسمين، ولكن الرد عليه لا يكون بهذا الأسلوب الفظ والبذيء الذي لا يليق بك مولانا الجليل ويجب أن ننزه المنبر الشريف من هذه الأساليب الغوغائية.
الغيرة على المرجعية الشريفة، والدفاع عن علمائنا الأعلام، ضد من يتعرض لهم ويوجه سهام النقد لهم لا يكون بهذه الأساليب التي يمجها العقل، وتستنكرها القلوب المستنيرة بهدي العترة الطاهرة وتوجيهات المرجعية العليا. لا يساورني أدنى شك أن مراجعنا العظام لا يجيزون لأي شخص أن يتهجم على فئة من المؤمنين والموالين بحجة الدفاع عنهم، فكيف بمن يتجاوز الحدود والضوابط الشرعية والأخلاقية ويثير القلاقل وسط المجتمع دفاعاً عنهم وعن آرائهم.
نعم، يجب تفويت الفرصة على هذه الفئة من المنضوين تحت لقب “علامة” ويفتقدون للحكمة ولا يحترمون القواعد الأساسية لاعتلاء المنبر، وينبغي منعهم من التمادي والإنزلاق بالتفوه بما لا يليق، مما قد يؤدي إلى إذكاء نار الفتنة بين فئات المجتمع، وهذا لا يتأتَّى إلا بحضور حيِّ وفعَّال من كافة شرائح المجتمع، والمسؤولية تقع أكبر على طبقة المثقفين وأهل العلم الذين يمكنهم موازنة الأمور وتقييم المحتوى الخطابي للمتصدين لخطب المساجد والحسينيات، فيقولون للمحسن منهم أحسنت وأجدت، ويصوبون بعض الهفوات التي قد تصدر من بعضهم فجُلَّ من لا يسهو، ويناقشون أطروحاتهم بمنهجية علمية رصينة، وإذا اقتضت الضرورة اتخاذ الإجراء المناسب مع المتجاوزين على المنبر والمثيرين للفتن لإيقافهم عند حدهم قبل أن تستفحل الأمور، فنحن من نصنع هؤلاء المتطرفين بسكوتنا عن تجاوزاتهم، وتشجيع البعض لهم، ودفعهم لارتكاب المزيد من الأخطاء، بينما يمكننا وأدُّ هذه الفتن في مهدها إذا تسلحنا بالوعي وقمنا بمسؤوليتنا الشرعية والأخلاقية والإجتماعية تجاه كل من يحيد عن طريق الإستقامة والحكمة.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى