أقلام

العلوم الاجتماعية في الحداثة الغربية بين التحدي والطموح

د. عبدالجليل الخليفة

يسأل البعض بذكاء:
لماذا لم تنتج الحداثة الغربية نظرية اجتماعية محكمة تدرس تطورات المجتمع وظواهره وتتنبأ بمستقبله بدقة كما تفعل قوانين نيوتن للحركة الميكانيكية في عالم الطبيعة؟
للإجابة على هذا السؤال، لابد أن نستعرض تاريخ علم الإجتماع وأحد نظرياته المشهورة.

أوروبا وبداية النهضة العلمية:
تبنت الكنيسة المسيحية في العصور الوسطى بعض الأفكار اليونانية كمركزية الأرض وجعلتها من مقدسات الدين التي لا يجوز مخالفتها، حتى هبت رياح التغيير في القرن الرابع عشر وبدأت العلوم الاسلامية وغيرها تصل إلى فلورنسا في إيطاليا ثم انتقلت منها إلى فرنسا وإسبانيا فانتشرت بعض الفنون كالنحت والرسم وغيرهما. رافق ذلك ترجمة فلسفة ابن رشد وكتب ابن سينا وابن الهيثم والبيروني و غيرهم من العلماء المسلمين، خاصة في علم الفلك وما أنتجه مرصد مراغة الذي أسسه نصير الدين الطوسي عام 1259م. هكذا انطلقت في الغرب نهضة علمية كان من روادها كوبرنيكس الذي أثبت مع زملاء سبقوه مركزية الشمس ودوران الأرض وبقية كواكب المجموعة الشمسية حولها. ثم تبعه غاليليو الذي وثق هذه النظريات باستخدام التلسكوب الذي صنعه لأول مرة، ونذكر هنا اقتباسًا من غاليليو حيث قال: (توجد الفلسفة في هذا الكتاب الكبير، كتاب الكون، وهو مفتوح لنا باستمرار. ولكن لا يمكننا فهم الكتاب إذا لم نعرف اللغة التي كتب بها ولم نحاول تعلم الحروف المستخدمة في كتابته. إنه مكتوب بلغة الرياضيات ولغتها هي الدوائر، والمثلثات وأشكالٌ أخرى هندسية، وبدونها فلا يستطيع الإنسان فهم حتى كلمة واحدة من الطبيعة والكون، وبدونها يضل الإنسان في دهليزٍ كبيرٍ مظلم). كانت ردة فعل الكنيسة فظيعة جدًّا فاحرقت البعض وعاقبت آخرين لأنهم تبنوا نظريات تخالف العقيدة الكنيسة بمركزية الأرض. لقد مثل هذا طعنة قاسية في قدسية الكنيسة وثقة المجتمع الغربي فيها خاصة بعد أن أكمل الرواد العلماء هذه النظريات مثل إسحق نيوتن الذي أسس علم الفزياء وإليه ينسب علم التفاضل والتكامل فوضع قوانين الحركة الميكانيكية وقانون الجذب العام والكثير من الإنجازات العلمية الرائعة.
من جانب آخر، كان تعاون الكنيسة مع الإقطاع والطبقات الغنية لكسب المال والاحتيال على الآخرين ببيع صكوك الغفران عبر سنين طويلة عاملًا مهمًا في نزع الثقة من الكنيسة وعدم الرضوخ لها. استمر هذا الصراع ضدّ الكنيسة حتى ثار مارتن لوثر (1483 – 1546) على الكنيسة الكاثوليكية، وأسس البروتستانتية، فأعترض على صكوك الغفران وترجم الإنجيل من اللاتينية إلى الألمانية وسمح للقساوسة بالزواج ومرت أوروبا في صراعات طائفية رهيبة بين الكاثوليكية والبروتستانتية كان منها حرب الثلاثين عامًا بين (1618 – 1648) والتي انخفض بسببها عدد سكان ألمانيا بنسبة 30% وقتل نصف عدد سكان بعض المناطق وثلثي سكان مناطق آخرى. بدأت هذه الحروب طائفية ثم تحولت إلى حروب آخرى أكلت الأخضر واليابس ثم أنتهت تقريبًا بصلح وستفاليا عام (1648). هكذا أنتهت هذه الحروب بقبول البروتستانتية في بعض مناطق أوروبا ومنها انتقلت مع المهاجرين إلى شمال أمريكا. جاءت هذه الحركة الإصلاحية متزامنة مع الكثير من الإبداعات العلمية حيث انطلق علماء الطبيعة والفلك في الرصد والملاحظة والتجربة فحققوا الإنجازات العلمية العظيمة.

الحداثة الغربية:
عدة عوامل مهدت للحداثة الغربية منها:
نجاح العلماء في إثبات مركزية الشمس رغم عناد الكنيسة وتعسفها حيث كانت تتبنى مركزية الأرض، مما يعني خطأ الكنيسة آنذاك. لقد تسبب هذا في الدعوة إلى ضرورة فصل الدين عن العلوم الطبيعية،
نجاح الثورة الاصلاحية البروتستانتية ضد الكنيسة الكاثوليكية، مما أعطى الفرد حرية أكثر في قراءة الإنجيل وفهمه بلغته المحلية ونزع القداسة عن صكوك الغفران وعن تصرفات الكنيسة المتعاونة مع الاقطاعيين،
بروز الكثير من المنظرين والمصلحين من أمثال جون لوك وجاك روسو وغيرهم الذين دعوا إلى تبني الحرية وأنظمة العقد الاجتماعي وسن القوانين الوضعية.

هكذا تبلورت رؤية الحداثة الغربية بأن الإنسان محور الكون، فهو كائن حرّ عقلائي يملك كل وسائل التفكير الضرورية لفهم الطبيعة والحياة المادية التي يمكن تجربتها و ملاحظة نتائجها وقياس كمياتها واستنتاج نظرياتها بدقة. وبذلك أصبح المنهج التجريبي وما يتبعه من منطق رياضي وقوانين عقلية هي المصادر الرئيسية للفكر البشري فغاب الدين والوحي وما وراء المادة. أي أن الحداثة الغربية رأت ما يلي:
مادية الكون (لايؤثر في الطبيعة سوى المادة التي يمكن إجراء التجارب عليها)، هذا لايعني انكار الخالق بل يعني قصر العلاقة مع الخالق لمن يشاء في الكنيسة دون أن يتدخل هذا الاعتقاد في فهم العلوم أو وضع حدود لتطورها أو تنظيم حياة المجتمع الغربي،
عقلائية الإنسان (العقل قادر على فهم الحياة وتدبير شؤونها، فلا حاجة الى الدين).

المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية:
تطورت العلوم الطبيعية من خلال تكرار التجارب في المختبرات على السوائل والمعادن وغيرها وعبر رصد حركات الأجرام السماوية باستخدام التلسكوبات. ثم تم معالجة هذه النتائج بقوانين رياضية وبناء على بديهيات عقلية لاستنتاج قوانين ونظريات كلية.

يتكون المنهج التجريبي من أربع مراحل:
1. الملاحظة والتجربة مع التكرار والدقة في المراصد والمختبرات
2. افتراض علاقة أو معادلة تحقق نتائج التجربة وتثبتها علميًّا.
3. إثبات الفرضية عبر تطبيقها في ظروف أخرى أو مواد أخرى لتصبح قانونًا أو نظرية
4. تطبيق النظرية في الحياة العملية

تتميز نتائج المنهج التجريبي بأنها:

• موضوعية مستقلة قابلة للتكرار و لا تعتمد على صاحب التجربة
• كمية يمكن قياس نتائجها والتأكد من دقتها وتفسيرها.
• الوصول الى شبه يقين بنتائج التجارب والقوانين والنظريات
• عالمية التطبيق فلا تختص بجغرافيا أو تاريخ معين
• حتمية النتيجة عند توافر الأسباب المؤدية لها.
الثورة الصناعية:
بدأت في أوروبا صناعة النسيج والسفن وانتقلت بعدها الصناعة إلى كل جوانب الحياة الأخرى. احتاجت الصناعة إلى اليد العاملة، فسافر الكثير من أبناء و بنات الأرياف الأوربية إلى المدن الصناعية للالتحاق بالمصانع، فسكنوا بمفردهم بعيدًا عن أجواء أسرهم ومجتمعاتهم الأصلية. وصاحب هذا الأجواء اختلاط بين ثقافات مختلفة وشعور بالوحدة والغربة مع وفرة للمال والمتع المادية. نتيجة هذه الظروف ضعفت العلاقات العائلية وغابت الرقابة الاجتماعية فاضطربت المعايير الأخلاقية وانتشر الشعور بالاغتراب، وبرزت ظاهرة الإنتحار والكثير من الظواهر الاجتماعية الجديدة. وقد صاحب هذه الثورة الصناعية بعض الأحداث الكبرى التي مرت على بريطانيا والثورة الفرنسية التي نادت بشعارات الحرية والمساواة والعقد الاجتماعي.

ولادة علم الإجتماع:
في أجواء الثورة الصناعية وما صاحبها من ظواهر اجتماعية، برزت الحاجة الماسة لفهم المجتمع ودراسة ظواهره ومحاولة معالجتها ووضع حلول لها. لقد انبهر أوغست كونت (1798 – 1857 ) بإبداعات إسحق نيوتن في علم الفيزياء والحركة التي أستطاعت أن تدرس حركة الأجرام السماوية، فاعتقد أن باستطاعته تأسيس علم يعنى بدراسة حركة المجتمع والوصول إلى قوانين اجتماعية ثابتة ودقيقة ليتنبأ بظواهره بصورة دقيقة، حتى أنه أطلق على هذا العلم الجديد اسم فيزياء المجتمع، ثم عاد بعد مدة ليغيّر هذا الاسم إلى علم الاجتماع Sociology

الفلسفة الوضعية: رأى كونت كغيره من علماء عصره الذين عايشوا انتصار العلوم الطبيعية على آراء الكنيسة، أن البشرية تطورت فكريًّا عبر الزمن حتى وصلت في طورها الثالث والأخير إلى تبني المنهج التجريبي والذي أثبت نجاحه في العلوم الطبيعية بديلًا عن الخرافات والغيبيات، وبناء عليه فالعقل هو الوسيلة التي يجب استخدامها في المنهج التجريبي لفهم العلوم الإنسانية والاجتماعية.

أبجديات علم الإجتماع:
المجتمع هو مجموع الأفراد الذين يعيشون في مكان وزمان معين وتربطهم علاقات تبادلية أو غيرها، حيث يقوم الأفراد كل حسب مكانته بأداء أدوار لتلبية الحاجات الضرورية لحياته وحياة بقية أفراد المجتمع. وتبرز هنا مقولتان مهمتان في علم الاجتماع وهما المكانة والدور:

المكانة: هي الموقع أو الوظيفة التي يقوم بها الفرد في حياته الاجتماعية والتي تكون متعددة غالبًا (فلنفترض مثلًا: أنه أب لأسرة وموظف في شركة وعضو في نادي رياضي).
الدور: المسؤوليات والأعباء التي يقوم بها في كل مكانة أو وظيفة يقوم بها، (فهو في افتراضنا السابق: يقوم بمسؤوليات الأب في الأسرة، ويقوم بأداء خدمات الموظف في الشركة، ويقوم أيضًا بنشاطه الرياضي واجتماعاته مع زملائه في النادي كعضو في نادي رياضي).
لذلك كلما كان هذا الفرد كفؤًا في أداء أدواره المناطة به، كلما استفادت الأسرة منه كأب، واستفادت منه الشركة كموظف واستفاد منه النادي كلاعب. والعكس صحيح، حين يتقاعس عن أداء أدواره أو يكون غير كفؤ، تبرز مظاهر الضعف والوهن في الأسرة والشركة والنادي.

مثال من علم الاجتماع (نظرية البنائية الوظيفية):
البنائية الوظيفية نظرية كلاسيكية تنظر إلى المجتمع الكبير وليس إلى الفرد فتدرس البنى الاجتماعية مثل الأسرة والدين والظواهر الكبرى التي يشترك فيها الكثير من الأفراد كالبطالة والطلاق والانتحار. أسسها أوغست كونت وطوّرها إيميل دوركهايم وبعده ميرتون ثم بارسونز وغيرهم. وسميت بالبنائية الوظيفية لأنها ترى أن المجتمع يتكون من مجموعة بنى (أي أنظمة او انساق) وسميت وظيفية لأن كل بنية فيه تقوم بوظيفة معينة فتتكامل هذه البنى ويتحقق الاستقرار في المجتمع.

فكما يتكون جسم الإنسان من عدة أجهزة مثل الهضمي والتنفسي والعصبي، يقوم كل منها بواجبه لخدمة الجسد، كذلك المجتمع يتكون من أفراد يجتمعون في أنظمة أو أنساق تقوم بخدمة المجتمع (ملاحظة: كلمة نسق جاءت من التنسيق والتعاون لتحقيق هدف معين).

مثال: يوجد في المجتمع أنساق أي أنظمة أسرية وصحية وتعليمية واقتصادية وغيرهم. فالأسرة مثلا هي أول خلية اجتماعية وذات طبيعة اخلاقية وقد تكون نووية تتكون من الأب والأم والأطفال فقط وقد تكون ممتدة فتشمل الأجداد والجدات والأعمام والأحوال.

يوجد في كل نسق أو نظام مجموعة من أفراد المجتمع لكل منهم مكانته ودوره المناط به ضمن برامج ومستوى أداء يتفق عليه الجميع، ولكل نظام مدخلات ومخرجات. يتأثر ويتفاعل كل نظام بالأنظمة الأخرى، فمثلا النظام التعليمي يتأثر بالنظام الأسري الذي يزوده بالمدخلات (وهي الأطفال الصغار الملتحقين بالمدرسة)، ومخرجات النظام التعليمي هم (الخريجون من مهندسين وأطباء وأساتذة ومحاسبين وغيرهم) يلتحقون بالشركات والمؤسسات كمدخلات للنظام الإقتصادي وهكذا. فإذا تغير أو اختل أي نظام تتأثر الأنظمة الأخرى. فمثلًا إذا تميز النظام الأسري وربّى أطفالا مبدعين، وإذا تميز النظام التعليمي فأسس بنية تعليمية رائعة، تميز الخريجون الذين سيعملون في المؤسسات والشركات وبذلك يتميز وينتج النظام الإقتصادي فيتحسن وضع الأسر المالي والمعيشي ونتيجة ذلك يبدعون أكثر في تربية وتعليم أطفالهم وهكذا تستمر الدورة الاجتماعية.

أسباب الإنحراف في المجتمع:

درس روبرت كنغ ميرتون (1910-2003) أسباب الانحراف في المجتمعات، مستخدمًا نظرية البنائية الوظيفية، فرأى أنّ المجتمع وليس الأفراد هو من يحدّد:
• الأهداف الثقافية العامة: فمثلًا المجتمعات العلمية قد ترى الحصول على الجوائز التقديرية أو الإبداع العلمي هدفًا ساميًا بينما ترى مجتمعات آخرى تحقيق الغنى والثروة هدفها الأسمى، وقد ترى مجتمعات آخرى الخدمة الاجتماعية هدفًا ساميًا.
• الوسائل المشروعة: يحددها المجتمع لتحقيق الاهداف الثقافية العامة، فمثلا قد يؤسس مجتمع معين الجامعات ومعاهد البحوث للتفوق العلمي، بينما يسمح مجتمع آخر بالعمل وتأسيس الشركات ولا يسمح بالسرقة،

أما أسباب الانحراف فهي ما يلي:
عدم انسجام الأهداف المطلوب تحقيقها مع الوسائل المشروعة، أي أنه إذا كانت المعايير والوسائل لا توصل إلى النتائج المطلوبة فإن هذا سيؤدي إلى انحرافات، وقد لا يوفر المجتمع الوسائل المطلوبة بينما يضغط نفسيا لتحقيق الأهداف.
خلق الناس مختلفين في طاقاتهم وقدراتهم، لذا حتى عندما تنسجم الأهداف والوسائل، فان بعض الأفراد يستطيع تحقيق الاهداف عن طريق الوسائل المشروعة، أما البعض الآخر قد لا يستطيع تحقيقها فيلجأ إلى وسائل منحرفة غير مشروعة.

الانحراف في المجتمع الأمريكي:
يرى ميرتون أنّ القيم الثقافية في المجتمع الأمريكي تشجّع على تحقيق الأهداف المادية كالغنى والثروة وتدفع لها بقوة، ونتيجة طغيان الأهداف المادية وجاذبيتها، والطموحات المادية المرتفعة جدا وعدم قدرة بعض الأفراد على تحقيقها عبر الوسائل المشروعة، لذا قد يلجأ البعض منهم للانحراف واستخدام الوسائل غير المشروعة كالجنس والمخدرات والغش المالي كما فعل برنارد مادوف في فضيحته المالية في سوق الوول ستريت التي أعلن عنها في ديسمبر 2008، والمثال الآخر هو ما تسببت به البنوك الأمريكية وضغوطها على موظفيها لتعظيم الأرباح حيث تم التساهل في القروض والرهونات العقارية حتى انتهت بكارثة الرهن العقاري في عام 2008 التي كادت أن تعصف بالاقتصاد العالمي.

كيف يسير المجتمع ذاتيٍّا دون محرك خارجي:
يوضّح تالكوت بارسونز (1902-1979) : أنّ الإنسان حر عقلائي يختار فعله من ضمن الخيارات المتاحة له، ونتيجة التنشئة الاجتماعية التي تربّى فيها، فإنّ فعله هذا يأتي متناسقًا مع القيم والمعايير الاجتماعية التي توافق عليها المجتمع «الضمير الجمعي». وحيث أنّ الفرد لا يعيش في فراغ بل في بيئة اجتماعية، لذلك يؤدي فعله إلى تفاعل وردود فعل من الآخرين في المجتمع فيتفاوضون حتى يتفقون على فعل معين يرتضيه الجميع. هذا التوافق بين الفاعلين يضمن تناسق المجتمع مما يجعل المجتمع يتحرك ويتجدد ذاتيًّا دون الحاجة إلى محرك خارجي.

خذ مثلًا فردًا يعمل في شركة ويستلم راتبًا محددًا مقابل عمله الذي يؤديه. الشركة تفرض عليه قيما ومعاييرًا ضرورية وهي الزامية لجميع الموظفين، هذه القيم والمعايير تنظم النواحي المادية النفعية وتلبي الحاجات النفسية لدى جميع العاملين في الشركة مثل المحبة والتعاون واحترام الزملاء. غاية الفرد العامل من الالتزام بالقيم التي فرضتها الشركة هو الوصول إلى الإشباع المادي أي الحصول على مرتبه المالي والإشباع المعنوي اي تقدير زملائه. إنّ حصول هذا الإشباع يجعل الفرد يكرر الافعال فيؤدي دوره في الشركة كاملًا. وبالمثل، يؤدي كل فرد من العاملين دوره في الشركة كاملًا مما يجعل عمل الشركة وسيرها ذاتيا.
نقد البنائية الوظيفية:
هذه النظرية تعتبر الفرد أداة صغيرة في آلة المجتمع الكبير، وعلى الفرد أن يتقن دوره ويؤديه، وإن لم يفعل، فسيطحنه المجتمع. فهي لا تعطي الانسان كامل القدرة والتأثير، كعقلاني خلاق يستطيع التفكير والتغيير بالطريقة المناسبة، فسلوك الفرد يحكمه ضمير الجماعة وأي فرد يشذ بأفكاره يتعرض إلى ضغط معنوي للرجوع الى القيم المجتمعية.
كما أن هذه النظرية محافظة، تؤيّد الاستقرار، حيث يتوافق الجميع على المصلحة المشتركة وتطبيق القانون وعدم الإخلال به. لذا فهي تهتم بمصلحة المجتمع وليس بمصلحة الافراد ولا بالعرقيات المختلفة.
كما أنه عندما تدرس هذه النظرية أي ظاهرة اجتماعية مثل الطلاق أو الجريمة، لا تدرس الفرد بل تدرس البناء الاجتماعي كالأسرة والمدرسة، ولذلك تهتم كثيرًا بالتعليم والتربية لتضمن تنشئة مستقرة غير متمردة.

الخاتمة:

لقد تبنت الحداثة الغربية ما يلي:
محورية الإنسان وعقلانيته وقدرته على فهم العلوم الطبيعية والاجتماعية بعيدًا عن الدين لأنها رأت في الدين تقييدًا لحرية الإنسان وحرمانًا له من عقلانيته. وقد أسست بناء على ذلك العديد من النظريات ومنها نظرية البنائية الوظيفية التي تم نقاشها في هذه الورقة. ولكن النتيجة جاءت نقيض ما تراه الحداثة، فقد تبين أن البنائية الوظيفية جعلت الفرد أداة صغيرة في آلة المجتمع الكبير، وعلى الفرد أن يتقن دوره ويؤديه، وإن لم يفعل، فسيطحنه المجتمع. لذا لا يملك الإنسان القدرة والتأثير، كعقلاني خلاق يستطيع التفكير والتغيير بالطريقة المناسبة بل هو شيء من أشياء المجتمع تحكمه قوانين المجتمع وميوله كالموضة والظواهر الأخرى. وكمثال على سلب هذه العقلانية والحرية الفردية، ننظر إلى علاقة الموظف بالشركة التي يعمل فيها، والتي قد تضطر نتيجة عواصف السوق وانخفاض أسعار أسهمها الى تسريحه مع الآلاف من زملائه لخفض التكاليف. هكذا يحكم السوق على الشركة فتحكم الشركة على الفرد نتيجة هذا البناء الذي تبنته الرأسمالية بسوقها الحر ونظريتها البنائية الوظيفية.

تبنت الحداثة المنهج التجريبي كأساس لفهم العلوم الاجتماعية بعد أن انبهرت بنجاح المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية وبناء على المادية البحتة التي لاترى أثرًا لماوراء المادة في نفس الانسان وحياته. لكن العلوم الإنسانية كالدين واللغة والتاريخ والاقتصاد والأدب والفن تتعامل مع الحس الإنساني والجوانب الغير مادية كما تتعامل مع جوانب الانسان المادية. فالظواهر الإنسانية ليست خارجية مستقلة عن الإنسان، بل هي تعتمد على دوافعه النفسية الداخلية، فكل فعل إنساني لا يمكن قياسه كميًّا وإنما يمكن فهمه ووصفه في محاولة الوصول إلى نظرية دقيقة. هذا المنهج الذاتي قد يفتقد الموضوعية، لأن الباحث يحتاج إلى إعمال ذهنه للوصول إلى فهم ذاتي للظاهرة واستنتاج أسبابها.

أرجو أن تكون هذه الورقة قد أعطت الإجابة على السؤال الذي بدأنا به، وهو لماذا لم تنتج الحداثة الغربية نظرية اجتماعية محكمة تدرس تطورات المجتمع وظواهره وتتنبأ بمستقبله بدقة كما تفعل قوانين نيوتن للحركة الميكانيكية في عالم الطبيعة؟ لذا من الواضح، أنّ الضرورة قائمة والحاجة ماسة للوصول إلى فهم أكثر للإنسان بجانبيه المادي والروحي وبمنهج أكثر تفسيرًا لظواهره الاجتماعية حتى نصل إلى نظرية اجتماعية نتمكن بها من فهم المجتمع بصورة أكثر دقة وأعظم أثرًا، والحمد لله ربّ العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى