أقلام

(فنار) على سارية الوقت

عرض موجز عن كتاب (فنار) الصادر عن دار مدارك للكاتب خالد بن إبراهيم الجريوي

جاسم عساكر

عرض موجز عن كتاب (فنار) الصادر عن دار مدارك
للكاتب خالد بن إبراهيم الجريوي

مع آخر آخر رشفة من أذان الفجر انتهيت من قراءة كتاب (فنار) للكاتب خالد بن إبراهيم الجريوي، وربما أتى ذلك كي يتزامن هطول الطهارة على قلبي من معانيه السامية مع هطول الطهارة على سطح المنازل المجاورة من المئذنة القريبة، حيث الشعور بالارتياح والطمأنينة التي يبعثها في النفس لا يختلف تماما عما يخلفه صوت الأذان في الحارات الصغيرة من وداعة وسكون وارتياح، وكأن هذا العالم أصبح واحة خضراء غارقة في البهاء وفي النور.
خرجت من هذا الكتاب وكأن زهور الفضيلة تتفتق فوق أصابعي كلما قلبت صفحة منتقلا إلى أخرى، إلى أن تمت البساتين على امتداد راحتي وفاحت زهور المبادئ لتتسلل إلى أنفاسي، فهو لا يكاد يترك سطرا دون أن يشبعه بنسيم إنساني مفعم داعيا فيه إلى الحب والألفة ونبذ العصبيات، متكئا في ذلك على إرث عظيم من الحكمة والتجربة الحياتية التي صقلته فعاد أصفى من مرايا الماء وأدفأ من أعماق الينابيع.
يستهل أول عناوينه بعد الإهداء والتوطئة التي جاءت كعصارة العنقود من ابنته الأستاذة نوف بنت خالد الجريوي، التي تتبعت مجرى النهر في حياته بشكل أدق كونها الأكثر قربا والتصاقا ومعرفة به، لتختزل رصيدًا كبيرًا من ذلك العمر عبر سطور موجزة ضافية.
أقول يستهل أول عناوينه بعد الإهداء والتوطئة بمن كان عليه أرقّ من الغصن على البرعم، وهو والده (حفظه الله وشفاه) متأدبًا في حضرة مرضه ليضفي على صفة ذلك المرض معنى آخر لا حدّة فيه ولا قسوة، ليطلق على ذلك المرض مسمى (نعمة الزهايمر) ومع الوجع الذي يكابده الابن تجاه أبيه فإنه يتدفق إنسانية وبرًا ومراعاة تجعل منه بارًا وفيًا لا ينسى فضلًا أو ينكر معروفًا.
وهكذا هو في سلسلة من عناوين هذا الفنار يطلق اسمًا يضفي معنى أجمل على كل مشهد من مشاهد الحياة، فكما حدق ببصيرة واعية حيال (الزهايمر) وجعل منه نعمة لا مرضًا عبر تأويل إنساني عميق لا يتسع الوقت لذكره، فها هو يسبغ صفة أخرى على الزحام.. وكأنه يقول ليس كل الزحام يدعو إلى أن نأنف أو نتأفف، وذلك عبر مقاله الرائع (الزحام الحميد) الذي يتحدث عنه بلغته العالية عن (زحام النعم).
ليتنقل بعد ذلك إلى مواضيع شتى يضفي عليها مدلولات أخرى كالسابق غير مدلولاتها المألوفة وذلك عبر فلسفة تخصه ورؤية تعنيه كالحديث عن (طلسم الحب) و (طلسم الوجود) و(أفخم النعم) و(فردوس الأيام) الذي يدعو من خلاله إلى الاحتفاء المباح بالفرح في هذه الدنيا، ومحاولة قلب المعادلة وتحسين سمعة الأيام بعد أن سرت بين الأجيال عبارات سيئة حولها من قبيل (الأيام غدارة، الأيام دوارة) وهكذا دواليك، إلى الكثير الكثير من العناوين التي لا يمكن أن تخرج منها إلا وقد تبللت روحك بمعنى راقٍ ومعين رقراق.
أستطيع أن أقول بحق.. نحن أمام (فنار) قد نصبته أيدي المؤلف على سارية عالية لإرشاد سفن الأرواح التائهة في بحار الحياة والتائقة إلى أن ترسو على شاطئ أمان، وأننا حين نمثُل أمام مؤلفه فإننا نمثُل أمام ديوان إنساني متكامل من المثُل والآداب، قد كتب نفسه ضوءا بخط يده في سطور هذا الديوان مما جعله في حالة سفر دائم على سكة الحب، بما يحمله من قلب مرهف وإحساس عال تجاه الأشياء، وأما أنت أيها القارئ فلا تحتاج إلى مفاتيح سرية كي تكتشفه من فرط ما هو شفاف وبهي ومدهش، وكأنه يسعى لتحسين مشاريع السلوك الآدمي لدى الإنسان قبل السعي لتطوير مشاريعه الاقتصادية.. حيث الصدق والإيثار ورقة القلب والتواضع وسخاء اليد والقلب واللسان كلها مقومات جعلت حضور شخصيته أقوى وقعا وأعمق أثرا في نفوس من عرفوه.
وأخيرًا عزيزي القارئ:
إذا أردت أن تتوسع، فلتقرأ أعماله الإنسانية الكبرى والمجسدة على أرض الواقع، قبل أن تقرأ كتبه، لتستجلي الحقيقة صافية ناصعة كالماء الزلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى