أقلام

التأثير النوراني

السيد فاضل آل درويش

ورد عن محمّد بن إسماعيل العلوي قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف عندما حُبس أبو محمّد فقالوا له: ضيّق عليه، قال: وكّلت به رجلين من شرّ مَن قدرت عليه عليّ بن بارمش واقتامش، فقد صارا من العبادة والصّلاح إلى أمر عظيم يضعان خدّيهما له، ثمّ أمر بإحضارهما فقال: ويحكما ما شأنكما في شأن هذا الرجل؟
فقالا: ما تقول في رجل يقوم اللّيل كلّه ويصوم النّهار ولا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا)(الإرشاد للشيخ المفيد ج ٢ ص ٣٣٠).
لقد كانت شخصية الإمام الحسن العسكري (ع) تحمل كل معاني السمو والرفعة، والانجذاب المؤثر لتلك القيم الجميلة المكونة للتكامل الإنساني والرقي المتألق في فضاء الفضيلة وطهارة النفس من العيوب والموبقات المسقطة في الهاوية والانحطاط، وهذا ما جعله شخصية لا نظير له في زمانه، لما يمتلكه من فهم رباني ونفس مطمئنة هادئة في وسط التيارات الفكرية و السلوكية الجارفة، وكانت له لمساته الآخذة بمجامع القلوب إلى طريق الهدى وصلاح النفس واستقامتها بعد اعوجاجها، في وقت قد حكم على المنحرف عن التدين والمتلبس بالمعاصي بأنه آيس من رحمة الله تعالى ولا أمل بحدوث تغير إيجابي يعيده إلى سكة الصواب والرشد، ولكن الإمام العسكري (ع) فتح باب الأمل وأحدث استدارة تامة نحو الخشية من الله تعالى، ممن انغمس في الشهوات وتجرأ على حرمات الله تعالى وأظلم قلبه سوادًا فلا تنفع معه كل الأصوات المنادية بالإصلاح كما يزعمون، فالإمام قلب كل الموازين وأعاد بناء الشخصيات بعد أن نقى تلك النفوس من سموم الإدمان على الذنوب والاعتكاف على دائرتها، وهذا يعطينا درسا حول التعامل مع المبتلى بالخطايا وعدم النظر له بنظرة اشمئزاز واستصغار، إذ أنه يزرع في قلوبنا بذور الإعجاب بالنفس وانتفاخ الذات ونبتلى بفقدان لذة العبادة وحلاوتها، بخلاف ما يحدثه من ردة فعل عكسية في نفس المذنب وإحاطة هالة اليأس به والقنوط من رحمة الله تعالى، مما يدفعه بقوة نحو الإيغال في بؤرة المنكرات والفواحش حيث فقد الأمل برحمة الله تعالى.
إننا أمام مدرسة تحمل أعلى درجات التقوى والقرب من الله تعالى والعمل بأوامره، ونهجهم (ع) إيصال الرسالة الإلهية وتبليغ التشريعات بأسلوب الحكمة والمحبة والتواضع، وهذا سر الجاذبية والمقبولية لكلامهم والمحبوبية لسيرتهم والتبدل من سوء الحال إلى حسن الحال والتوبة والإقلاع عن المعاصي والمخالفات، والتوجه إلى الله تعالى بعد تنظيف القلب من شوائب الشهوات والأهواء، وهذا ما نشير له بهذا الخبر الوارد في سيرة الإمام العسكري (ع) التبليغية حيث استطاع الإمام (ع) بما يمتلكه من صفات حميدة وشخصية تهز وجدان من ينظر إليه أو يستمع كلامه، لما كانت له من هيبة ناتجة عن انقطاعه لله عز وجل وعمله بما أمر، وهذا التأثير النوراني للإمام نتج عنه هداية اثنين من أشرار خلق الله تعالى لا يرجى منهم الخير و الصلاح بين الناس، لما كان يعانيه ويقاسيه من حولهم من أذاهم وعدوانهم وكأنهما طمست وجوههما عن نور الهداية، ولكن المشيئة الإلهية قيضت لهما طريقا إلى التراجع عن الخطايا والانحراف الأخلاقي باتصالهما بالإمام العسكري (ع)، وإن كان غرض من أبقاه (ع) رهين الحبس أن يزيد من آلام الإمام (ع) وأذيته، من خلال أمر هذين الشخصين الشريرين أن يؤذياه بالبذيء والمستقبح من الكلام، وهذه المهمة كانت سهلة جدًا بالنسبة لهما، ولكن نور الإمام وسمت هداه و تقواه قد تسلل إلى قلبيهما وأحدث أمرا كبيرا وهو هدايتهما وإرشادهما إلى الفضيلة وطهارة النفس ونزاهتها عن الرذائل والمعايب، وقد تحقق على يدي الإمام (ع) رحلة التغيير نحو الحق والحقيقة بالنسبة لهما، واللحاق بركب السعداء وإن تأخرت هدايتهم لفترة من الزمن، وهذا ما يفتح لنا باب الأمل بالله تعالى دائما والتزام مد أيادي المساندة للمبتلين بالذنوب والآفات الأخلاقية، فهداية الآخرين ونهيهم عن المنكر يلحقنا بمسير الأنبياء العظام والأولياء الصالحين، والذين نذروا أعمارهم وبذلوا جل أوقاتهم وجهودهم في سبيل إيصال نور المعرفة لعقول الناس.
و بالتأكيد فإن موقف الإمام العسكري (ع) مع الرجلين يتجلى فيه مقامه الرفيع، النابع من صدق علاقته بالله تعالى والعمل على هداية الآخرين حتى في أحلك الظروف وأصعبها، وهذا ما يلقي على عاتقنا مهمة جسيمة وهي إلقاء نظرة الرأفة بمن انحرف عن خط العدى والفضيلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى