أقلام

خلق الروح النقدية عند الإنسان

صالح المرهون

المنهج القائم على النقد، منهج لايموت، بل يتطور ويتفاعل مع الآخر. ويخطئ كثير من الناس عندما يعتقدون أن نقد الشيئ بداية لسقوطه، بل سقوطه عندما يكون بعيدًا وقابعًا في برج لا يتمكن أحد من الناس أن يصل إليه، وعلى العكس تمامًا أن الشيئ الخاضع لعوامل النقد يكون في الغالب متكاملًا، لأن النقد يكشف الخطأ، ومن الخطأ يتعلم الإنسان تصحيح أخطائه، وهذا منهج واضح وبين، فعندما نشأت العلوم، خاصة العلوم المتقدمة منها مثل الرياضيات،والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، نشأت بداخلها حركات نقدية ذاتية لبنائها العلمي، واختبار الأفكار والمبادئ أو الأسس التي يقوم عليها البناء العلمي وبيان مدى الارتباط بينها وبين قضايا العلم ونظرياته المشتقة منها، وهذا أسلوب لم نعهده من قبل في مجال العلوم أن تقوم هذه العلوم بتقديم المشكلات التي تواجهها والموضوعات التي تثيرها، إلى الفلسفة التي كانت وما تزال وظيفتها الرئيسة بل الجوهرية نقد المعرفة المتكونة في انسياق علمي بتحليل البناء العلمي للوقوف على حقيقة الأساس الذي يقوم عليها وطبيعتها وقيمتها، لذلك قالوا: إن الحركة النقديةفي المنهج العلمي للعلوم كان منطلقها من مباحث الفلسفة ونظرياتها، لأن الفلسفة قائمة في الأساس على حركة نقدية علمية، وتسمى (فلسفة العلوم)، والتي هي الآن ملتقى الباحثين من كلا الجانبين

(الفلسفي، والعلمي) فهو مجال طيب للتعاون المثمر من أجل إثراء الحضارة الإنسانية وإثراء مجالات البحث العلمي والفلسفي، والحق أن الفلسفة منذ تاريخها وإلى عهد قريب كانت تضم المعارف كلها تحت جناحها، وكان التأمل منصبًا على العمليات العقلية التي تستخدمها الفلسفة في دراسة هذا الموضوع أو ذاك، هو طريق استنباط الشروط اللازمة للفكر الصحيح، وكانت واحدة من خدماتها تقديم المساعدة في عملية منهجية مقنته وحكيمة في نقد الأشياء، ومن هنا قالوا: إن للفلسفة جانبين أحدهما سلبي،

والآخر إيجابي، والسلبي منها هو المعنى دائمًا يهدم الآراء المخالفة وتوجيه النقد لها وإظهار معانيها وبيان مواطن الخلل فيها تأسيسًا على أدلة وحجج منطقية، وهذا الجانب السلبي دائمًا يسبق الجانب الإيجابي الذي يكون فيه العقل الفيلسوف مذهبه ويبني آراءه،

ولذلك كانت الفلسفة خير معلم للمناهج النقدية، والطرق التي بها إظهار عيوب الرأي وبيان تهافت المذهب، وقد يظهر من الفكر الفلسفي الإسلامي مصنعات كاملة قائمة بذاتها وهي كثيرة تنصب على نقد المذاهب الفلسفية وتقرأ في ذلك مثلًا عناوين كتب مثل تهافت الفلاسفة، وتهافت التهافت، والرد على مذهب كذا أو فرقة كذا أو فلان بعينه، أو نظرية علمية و… إلخ.

ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن الفلسفة قدمت للإنسان عونًا في وضع منهجية نقدية شبيهة بمنهج المذهب المثالي،الذي يرد الوجود كله إلى الفكر،ويرى أن الأشياء الطبيعية لا يمكن أن يكون لها وجود بمعزل عن ذهن بعينها. ويقوم المذهب المثالي في المعرفة النقدية، على أساس إذا أردنا أن نعرف الواقع أكثر، ونفهم طبيعة أوضح، ونتبصر حقيقة أعمق، فلن يكون ذلك بالبحث في العلوم الفيزيائية، بما فيها من أهتمام بالمادة والحركة والقوة، وإنما يكون بالاتجاه نحو الفكر والعقل، والالتزام بكل القيم الروحية لدى الجنس البشري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى