أقلام

الثقافة العربية والتراث: رؤية منهجية

محمد محفوظ

أصبحت مسألة التراث والموروث الثقافي، موضة كل المنتديات واللقاء ات الفكرية والكتابات الثقافية فكثيرة جداً الكتب والمطبوعات التي تصدر والندوات واللقاء ات التي تعقد في مختلف أنحاء العالم لتدارس هذه المسألة والقضية، وتسعى هذه الكتابات والندوات إلى تحديد نوعية العلاقة التي يجب أن تربط الأمة بماضيها وموروثها الثقافي.

بالطبع فإن هذا التوجه نحو الماضي والتراث بشكل عام يستجيب لذلك الإحساس الذي تستشعره الأمة العربية والإسلامية في حاضرها، وهو ضرورة العودة إلى تاريخها وأصالتها والاستمداد منه لتكوين الوجود الثقافي والحضاري بعيداً عن الاستنساخ الحرفي لحضارة الغرب ونمط عيشه وحياته.

ولاشك أن توجه الأمم والشعوب نحو تاريخها وموروثها الثقافي تشرطه دوافع الحاضر ومتطلباته وتؤثر فيه إلى حد بعيد. والذي يراجع التاريخ يكتشف أن الشعوب تزداد انشغالاً بتاريخها وماضيها حين يكون حاضرها مأزوماً ويعيش القهقرى، فكيف يمكن إغفال حالة التزامن في ظهور ابن خلدون وكتابه العبر، وسقوط الأندلس وتداعياته، وكيف يمكن إغفال علاقة التزامن بين ظهور تاريخ الطبري وفتنة القرامطة.

إن الأزمات الكبرى التي تطال حاضر الإنسان دائماً تدفع به إلى استعادة تاريخه والانشداد إلى ماضيه المجيد، ولذا ليس من الصدف والعبثية أن يطغى على الخطاب العربي بعد حرب 1967م انشغال عميق بدراسة التراث وإعادة قراءته، والواقع أن عودة الأمم إلى تاريخها حين تأزم حاضرها هو نوع من الإدراك الطبيعي والإيجابي الذي تتمتع به الأمة، حيث غبية تلك الأمة التي تحاول تبديل حاضرها المأزوم من دون استعادة ماضيها وموروثها الثقافي والعقدي.

وغبية تلك الأمة التي تستغني عن تجاربها التاريخية وتنطلق من الصفر، فلا يبتدئ من الصفر إلا الصفر نفسه!

ولكن هذا التوجه إلى التراث ومتعلقاته الذي نشهده حالياً في حياتنا الثقافية والفكرية العربية والإسلامية، لازال محتاجاً إلى كثير تقويم ودراسة، فلا يخلو من سلبيات متعددة، وأول هذه السلبيات وأخطرها، أن أغلب الدراسات والقراءات المتواجدة حالياً تنطلق من مفاهيم ومنهجيات غربية، فتكون إمكانية الرؤية والإبصار تتحكم فيها مناهج الغرب وتطوراته، والمنهج بطبيعة الحال ليس أداة صامتة سالبة، وإنما هو وساطة تنهض بمسؤولية خطيرة، وهي نقل الموضوع إلى الذات، ولذا فالوساطة المنهجية الغربية حين تتصادم بتراثنا وتاريخنا لا تنقل إلينا منه إلا ما يتوافق مع مسلماتها العقدية والفلسفية، وهكذا لا تعجب حين تنقل إلينا الوساطة المنهجية مكونات هامشية من تاريخنا، وتغفل أو تتجاوز المكونات الحقيقية لتاريخنا وماضينا.

ولقد كان من الأهداف الأساسية التي سعى لها قادة الغرب باستمرار هو خلق نخبة فكرية تنتمي جغرافيا إلى العالم العربي والإسلامي، وفكرياً وثقافياً إلى الغرب حتى يكون حلقة الوصل وجسر الربط بين الطرفين.

وقد أشار إلى هذه المسألة (موريس بريس) في بداية هذا القرن بقوله: “كيف نستطيع أن نشكل لأنفسنا نخبة فكرية نقدر على العمل معها تتألف من شرقيين لن يكونوا قد اقتلعوا من جذورهم، شرقيين يستمرون في الارتقاء تبعاً لمعاييرهم الخاصة وتظل تخترقهم تقاليد العائلة ويشكلون – هكذا – رباطاً بيننا وبين جماهير السكان الأصليين؟ كيف نخلق علاقات بهدف تمهيد الطريق لثقافات ومعاهدات ستكون في الشكل المرغوب فيها لمستقبلنا السياسي (في الشرق) هذه الأشياء جميعها في النهاية ذات مدار واحد هو تنمية ذوق استمراء لدى هذه الشعوب الغربية للبقاء على اتصال بذكائنا رغم أن هذا الذوق قد ينبع في الواقع من حسهم الخاص بمصيرهم القومي”.

وتحاول هذه المنهجية في قراءة التراث والفكر العربي والإسلامي، من استعارة جميع النظم المعرفية الغربية وتطبيقها على المثال العربي والإسلامي (تاريخاً وحاضراً).

وحتى تتضح الرؤية في هذا الإطار، نضرب نموذجاً بأحد أقطاب هذه المنهجية في قراءة التراث والفكر العربي والإسلامي، وهو (محمد أركون) جزائري قدم إلى فرنسا قبل الاستقلال، وواصل تعلمه بجامعات باريس حيث حصل على شهادة التبريز في اللغة العربية والأدب العربي سنة (1955). درس في ثانويات سترازبورغ ثم في كلية الآداب بنفس المدينة في الفترة ما بين (56 – 1969م) وحصل على لقب أستاذ كرسي بها عام 1972م.

كانت تلك الفترة تشهد مخاضاً كبيراً وتحولاً عميقاً في جميع الأبنية السياسية والاجتماعية والذهنية والشعورية في فرنسا والغرب عموماً، وقد واكب أركون تلك التحولات وتأثر بها حتما أيما تأثر، كان منذ بدايته كباحث، في رعاية مستشرقين وأساتذة غربيين أعلام مثل: ر. برينشغط وشارك بيلا وكلود كاهين، الخ. أحاطوه باهتمام خاص، ومكنوه من مواقع علمية وتعليمية مهمة في أكبر الجامعات الفرنسية (في وقت حرج جداً في حياته) على حد تعبيره.

ويحاول أركون في قراءته للتراث والفكر العربي والإسلامي، من إقامة رؤية نقدية لتلك العناصر اعتماداً على المناهج الغربية في ميادين العلوم الإنسانية، إذ انه ينقد المناهج القديمة في الدراسات التراثية والإسلامية المرتكزة أساساً إلى المنهج الفيلولوجي معتبراً إياها قاصرة على فهم الظاهرة العربية والإسلامية في عمق إنتاجها التاريخي ويقترح عوضاً عنها طريقة ما سماه بالمنهج المتعدد (مصطلح سبق أن استعمله قبله جورج غورفيتش) حيث يتداخل التفسير الاجتماعي مع البحث التاريخي والتحليل الإلسني، ولكن شدة تداخل وتعقد هذا المنهج وخاصة جدته – حتى على مستوى العلوم الإنسانية بالغرب نفسه – جعلته كثير التشويش ومفتقداً إلى الوضوح النظري الكافي.

فهو أحياناً يلتجئ إلى المنهج الاستيطاني كما مثله أحسن تمثيل (لويس ماسينيون)، أو الاعتماد على علم النفس التاريخي، وأحياناً أخرى ينادي بتطبيق الدراسة الموضاعاتية والاجتماعية، ولا يستبعد قيمة استخدام تيولوجيا التاريخ، كما يشيد تماماً بنتائج الانتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية ومع مرور الزمن، بدأ منهجه يترسخ بالتدريج ليصبح قائماً على مثلث علم الاجتماع – علم الأناسة – الألسنيات المعاصرة مع الاستفادة القصوى من كل إسهامات العلوم الإنسانية.

والجدير بالذكر أن علم الاناسة (انتروبولوجيا) بدأ يحتل مكانة مهمة وقيمة متزايدة يوماً بعد يوم في منهجية أركون في قراءته للتراث والفكر العربي والإسلامي. وتطور – مع تطور العلم نفسه في الغرب – ليصبح الإسلاميات التطبيقية لروجيه باستر.

فاركون يتحدث عن التراث العربي والإسلامي، انطلاقاً من فرضيات مسبقة ومسلمات ثقافية أيدلوجية استعارها من الغرب، وأن التزامه المعرفي أو الابستمولوجي هو نفسه التزام المستشرقين والكتّاب الغربيين عموماً، والأنكى من ذلك أن المدرسة الغربية عموماً التي ينتمي إليها أركون، قد استخدمت المنهج الفللوجي (الاستشراق الكلاسيكي) وهو منهج مرتبط بالفلسفة الوضعية للتاريخ، وتعتبر المرحلة الذهنية التي ازدهرت فيها الدراسات الفللوجية في أنحاء أوروبا هي المرحلة الممتدة من عام (1860 – 1920م) وهو عبارة عن تحقيق المخطوطات وطباعتها، وقراءة النصوص قراءة لغوية تقليدية، تكتفي بملاحقة التأثيرات التي تتركها النصوص السابقة على النصوص اللاحقة، وبما أن القرآن قد جاء بعد التوراة والأناجيل من حيث التسلسل الزمني فإن أرباب المدرسة الفللوجية (اللغوية) يستمتعون كل الاستمتاع في البحث عن تأثيرات الكتب الدينية السابقة فيه.. سواء من حيث الكلمات أو الموضوعات، إن مرحلة التفكيك الابستمولوجي والتحليل التاريخي العريض التي يدعيها أركون، ما هي في حقيقة الأمر إلا إسقاط القوالب المنهجية الغربية على المثال العربي والإسلامي (التاريخي والمعاصر)، فهو يحاول تجاوز أخطاء الحركة الاستشراقية الكلاسيكية، من أجل تثبيت منهج لحركة استشراقية حديثة، ويمكننا القول أن أركون اعتبر المنهج الفللوجي الذي بلوره المستشرقون في دراسة الفكر العربي والإسلامي كترسانة فكرية، ومخزون علمي اعتمد عليه واستثمره في سبيل الوصول إلى نتائج لا تتعدى الفهم الاستشراقي للعرب والمسلمين، بل تؤكده وتضيف عليه أمثلة تطبيقية فهو لم يؤسس قاعدة ايستمولوجية (معرفية) جديدة كما يزعم في كتابه (العلمنة والدين)، وإنما استعار القاعدة المعرفية الأوروبية والفرنسية خصوصاً وطبقها على العالم العربي والإسلامي، فالمنهجية التي سار عليها (ميشيل فوكو) في( الكلمات والأشياء) (1966) وأركيولوجيا المعرفة (1969) والضجة التي أحدثها فوكو في أوروبا ضد المنهجية التقليدية (الديكارتيه) هي ذاتها المنهجية التي استخدمها أركون في كتبه ودراساته، ولكن مع حذف الأمثلة المرتبطة بالعالم الأوروبي وخصوصياته العقدية والتاريخية وإضافة أمثلة من التاريخ العربي والإسلامي، حتى ينسجم هذا والواقع الذي يتبوأه أركون كأستاذ للفكر الإسلامي في جامعة السور بون (باريس الثالثة).. ولذلك فهو يتبنى في دراسته للتراث العربي والإسلامي منهج (لوسيان فيفر) الذي بلوره في كتابه الموسم بـ(مشكلة اللايمان في القرن السادس عشر) أو (تاريخ الإلحاد في القرن السادس عشر)، لذا فهو يتمنى ترجمة هذا الكتاب إلى العربية قائلاً: “ليت كتابه يترجم إلى لغتنا فنعرف كيف نطرح مشاكلنا بطريقة فعلاً تاريخية مقنعة”.

لذلك نجد أركون مهووساً بدراسة الأسطورة والخيال والوعي الأسطوري واللاوعي أو ما يسمى ب(علم النفس التاريخي) وهذا يندرج ضمن المنهج الذي رسمه (فيفر وطبقه على أوروبا وتبناه أركون ويحاول تطبيقه على التراث العربي والإسلامي.

وجماع القول: إن هذه المنهجية في قراءة التراث العربي والإسلامي تشكل عملية استشراق من الداخل لإثبات ما أثبته المستشرقون من الخارج فهي منهجية تدعو إلى تجاوز كل الخصوصيات الثقافية والدينية والحضارية، من أجل الارتماء في أحضان جهابذة الفكر الغربي، والتغذي من أفكارهم ومسلماتهم العقدية والأيدلوجية.

ومن الخطأ الافتراض انه من أجل العصرنة لابد من الاغتراب ومقايضة تاريخنا وثقافتنا بالاندماج في الآخر الحضاري، ويكفينا دليلاً على ذلك، انه لم يرو لنا التاريخ، أن أمة من الأمم استطاعت أن تتقدم وتتطور، أو تدخل عالم المعاصرة بدون الاعتماد على تاريخها وقيمها وأصالتها.. فالحضارة الغربية الحديثة، لم تحقق كل انجازاتها ومكاسبها وتطورها العلمي والتقني، إلا بالاعتماد على قيمها وإرثها التاريخي.

والأصالة هنا، لا تعني العودة (بالمعنى الزمني)، وإنما تعني الأخذ بنمط حضاري يمدنا بالمنهجية السليمة والمعرفة الواعية الموصلة إلى التطلعات الحضارية للأمة العربية والإسلامية.

فالتراث والماضي في نظرنا، ليس الهروب من الحاضر ومسئولياته وتحدياته، كما يزعم البعض. وإنما هو أوعية لتحقيق الوجود، لأن التراث والتاريخ هو الذي يمتشق صهوة الحاضر وعدته، وأن المجموعة البشرية التي تنفصل عن تاريخها وتراثها فإنها تقوم بعملية بتر قسري لشعورها النفسي والثقافي والاجتماعي، وسيفضي هذا البتر إلى الاستلاب والذوبان في الآخر الحضاري.

لهذا فإننا ينبغي أن نقرأ التراث بمنهجية ذاتية، فالذي يستمد منهجاً جاهزاً من الغرب، ليقرأ التراث والفكر العربي والإسلامي، يتضاد مع مبدأ خصوصية المجتمعات والأمم، فلكل مجتمع أو شعب سياقه الخاص في التطور والتقدم، ولابد حين قراءة التراث العربي والإسلامي، أن نقف للإنصات إلى خصوصية إيقاعه التطوري وخصوصية مكوناته الثقافية والايدولوجية، ولذا فلكل تراث وحضارة، ولكل أمة مداخلها المنهجية الخاصة بها، والتي من خلالها تتحقق إمكانية النفاذ والدخول إلى فضائه وفهم قضاياه، والمناهج الغربية المستعملة في تقويم الموروث الثقافي، لا تصلح لدراسة تراثنا العربي والإسلامي، لذلك فإن الحاجة ماسة لدراسة تراثنا بمنهج ينسجم وخصوصياتنا المجتمعية والحضارية، حيث أن شرط القراءة السليمة للتراث العربي والإسلامي، هو الانطلاق من أصالتنا وخصوصياتنا الذاتية، لأن الأمة التي لا تستقل في قراءة تراثها وفكرها، لن تستقل في قراءة حاضرها وبالتأكيد أيضاً لن تستقل في بناء مستقبلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى