أقلام

يا حسن البلاء

السيد فاضل آل درويش

قبل الحديث عن وصف البلاء بالحسن أو غيره من النعوت، لا بد من تحديد مفهوم البلاء ودفع التوهمات عن هذا المفهوم، فالبعض يقصر موضوع البلاء بما يسوء الإنسان من ضيق وآلام كالفقر واعتلال الصحة والأزمات المتنوعة، والحقيقة أن مجمل حياة الإنسان في كل آناتها ومحطاتها مجموعة من البلاءات والاختبارات المظهرة لحقيقة مكنوناته وصفاته الشخصية، وبذلك يشمل الابتلاء حالة الغنى والثروة أو الحركان والفقر فكلاهما محطة تؤول بالمرء نحو الإنفاق أو البخل والتذمر أو الصبر، فمن أعطي المال هو في حالة ابتلاء تمامًا كالمحتاج الذي لا يجد قوته ولا يحصل مستلزمات الحياة الكريمة، فذلك المقتدر ماليًا يقف عند هذه المحطة الاختبارية ليرى أثر هذه النعمة على نفسيته وتصرفاته، فهناك من يتفهم حقيقة هذا البلاء وأنه مستخلف على هذا المال فينفق منه على نفسه وعياله، ولا ينسى بعد ذلك الإنفاق على المحتاجين ومد يد العطاء لأوجه الخير، بينما الفقير يقع على الضفة الأخرى في ساحة البلاء فيقع بين خطي القنوط والتذمر أو الصبر والقناعة، وهكذا في كل حالاتنا الابتلائية نقع بين الحد الإيجابي الموافق للأسس الدينية والعقلائية المتناسبة مع تكامل الإنسان وشق طريق تحقيق الذات والإنجاز، والحد السلبي المشير إلى حالة الضياع والوقوع رهينة الضعف والتعاجز والانقياد للأهواء والشهوات المتفلتة.

والنقطة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هو مرجعية النظرة السلبية والمستاءة من ألوان البلاء الموجع والمؤلم التي مردها النظرة المثالية الزائدة والحالمة بحياة خالية من أي ألم في جميع محطاتها ومواقعها، فيداعب خيالنا تصورات لحياة ملؤها الراحة والابتسامة والسعادة وتحقيق الأمنيات دون وجود أية عراقيل أو إخفاقات، وهذا المسار يخالف أهم مباديء وسنن الله تعالى في عباده و القائمة في كل جزئياتها على البلاء والاختبار على أرض الواقع، ومزيج الألم والاسستئناس هو من الألوان اللازمة للحياة الدنيوية فاصطبغت سيرة كل إنسان فيها – دون استثناء – بألوان البلاء والافتتان والاختبار على المستوى الفكري والسلوكي، ولذا نحن في طريق فهم مفاتيح الحياة بحاجة إلى استدارة نحو تحديد معالم وأبعاد الحياة قبل أن ننطلق في دروبها لئلا يصيبنا التيهان والخسران، فالحياة كالقاطرة تسير بنا فترة من الزمن لينزل في محطاتها أناس ويركب آخرون وهكذا دواليك، ففكرة الخلود والالتصاق بمتاعها الزائل وطلب الدعة والراحة المستمرة أوهام لتنقشع من عقولنا، ويحل بدلًا عنها الثقة بالله عز و جل و تنمية قدراتنا والتمسك بخط التكامل والازدهار في جميع أبعاد شخصياتنا بما يحقق لنا المكانة اللائقة، وأما اللهث خلف سراب المظاهر المادية وكأننا منعمون ومخلدون سيقطع أنفاسنا ونعود خائبين، فالسعادة الحقيقية هي الظفر بالتوازن الفكري والنفسي والانضباط الأخلاقي؛ لينطلق بعدها الفرد محلقًا في فضاء القيم المحققة لكرامته وعزته، فنحن في كل أحوالنا نحظى باللطف والمدد الإلهي ومهما كانت أحوالنا فهي مراحل اختبار تنصهر فيه نفوسنا؛ ليتجلى منها الاقتدار والحكمة وضبط النفس والنظر في عواقب الأمور و التحرك في ميادين الحياة مهما كانت تلك الصعوبات والظروف التي نواجهها .

ومن هنا تتجلى النظرة الصائبة والإيجابية لما نواجهه من متاعب ومصاعب فنرى الوجه المشرق منها، فهي محطات تبرز فيها قوتنا وإثبات وجودنا وتماسكنا والتحلي بالنفس الطويل، وأما على مستوى العلاقة بالله تعالى فذلك البلاء فرصة ونفحة إلهية لانكشاف تقصيرنا وما لحقنا من آثام، فنهرع بعد مكاشفة النفس إلى تقوية الصلة بالله عز وجل والتذلل بين يديه، وكذلك على مستوى واقعنا الاجتماعي فتلك الابتلاءات تجعلنا نتلمس آلام ومتاعب الآخرين وما يواجهونه من طروف قاسية، فتتشكل في نفوسنا مظلة التكاتف الاجتماعي والمشاركة الوجدانية مع من حولنا.

ورد في دعاء الجوشن الكبير: يا بديع السماء، يا حسن البلاء)(بحار الأنوار ج ٩١ ص ٣٩٢).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى