أقلام

لقد كان حوزة في رجل

الشيخ عبدالجليل البن سعد

لقد انتقلت الى قم في شتاء عام( ١٤٠٩-١٩٨٩) وكان أول اهتماماتي ضبط نبضات الشوق بقلبي فكان عليّ أن أرحب بكل فرصة لقاء بالعلماء والأساتذة، ومن عظيم التوفيق أن كانت إقامتي بمدرسة “القرآن والعترة” التي تقع على مصب طريق معظم المدارس وقاعات المساجد والحسينيات المفتوحة للتدريس، وهذا ما جعلني على موعد صباحي مستمر مع الكثير من السادة الأعلام والمشايخ الكرام من أساتذة البحوث والسطوح العليا حين ييممون مقاعدهم وصفوف طلابهم ليميروهم علما وحكمة، وعلى بعد خمسين مترا ـ بالتقريب والتقديرـ من مقرنا يقع منتدى جبل عامل وفي غرفة أرضية مواجهة للبوابة يجلس السيد عادل العلوي للتدريس وطلابه قد ملؤا جوانب الغرفة من حوله، وأعترف بأن قلبي لم يكن أمامه إلا كقطعة معدن أمام قوة مغناطيسية رهيبة ومن أول نظرة، ومع صعود الأيام والأعوام ظهر لي أنها جاذبية إيمانية استطاعت أن تؤثر على عامة طلاب العلم ومن مختلف الجاليات فالكل يرتاح إلى طلعته المتهلّلة والاستماع إلى عذوبة حديثه!

البنوة العلمية:

ربما تحولت حياة بعض العلماء إلى الآخرة ولم يتركوا وراءهم أبناء بحجم طاقتهم العلمية والفكرية، وربما أغمض بعضهم عينه ولكن ـ ولحسن التوفيق ـ تراه قد أخرج عوالج صدره وآماليه العلمية والرسالية قبل أن تفيض روحه فسلّمها بيد خلف مبارك له، وهذا مشهد قد لا يتكرر في تاريخ العلماء إلا على فترات طويلة شروى ما حصل مع العلامة وابنه فخر المحققين والشهيد الثاني ونجله الحسن ، وفي ذات مرة كنت أتحدث بحديث مشابه مع العَلَم الراحل السيد محمد رضا التنكابني”قدس الله في الملأ الأعلى ذكره” وكان يؤكد على أن من أصعب الأماني لدى العلماء أن يوفقوا في أولاد بحجمهم أو يفوقونهم، وكأنه يخاطب بها ولده الذي كان جالسا معنا وقد تعمم للتو!

وفي عداد هؤلاء الأعلام السيد علي العلوي “”أكرم الله مثواه” فقد كان عالما بارعا، و خطيبا مفوها، وذا ذهنية معارفية موسوعية هذا ما أستوحيه من كلام سيد هذه المقالة، ومن كتاب له جاء في طبعة قديمة كنت احتفظ بها في مكتبتي بقم فالكتاب وبالرغم من كونه ذا ثيمة عقائدية لكن صفحاته تكشف لك عن اضطلاع هذا السيد في مختلف العلوم، و عن مدى مطالعته واهتمامه بالصحف التي زادته بصيرة في عصره، وقد توفي دون أن يمتد به العمر أو يطول لكنه قد استأمن ابنا بارا على أمنيته العلمية وهو السيد عادل العلوي الذي قد جبر ما فات وحقق الرغبات بكتاباته اللذيذة وعلى ذات الخط..

اقتل الاعتذار بالابتدار:

لقد فسرت لي سيرة العادل العلوي كلمات وصفات علمائية كانت تلفظ كثيرا ولا يفهم سرها إلا قليلا!! فطالما سمعنا: ” فلان متفاني في خدمة الدين” “فلان لا يجارى في الهمة والعزيمة” “فلان يغامر في الشرف المروم”… كل هذه النعوت كانت توهمني بأن تلك هي جبلتهم الذاتية فليس لمن لم ينل هذه السعادة أن يتطاولها!

إلا أن عشرتي البسيطة لهذا السيد الكريم نطقت بسر هذه النفوس، وهي أنهم إذا خيروا انفسهم بين الاعتذار أو الورطة اختاروا الورطة، وكأنهم استلهموها من أبي نؤاس:”وداوني بالتي كانت هي الداء”!!

١ في عام من الأعوام طلب السيد العلوي من إدارة المدرسة الحجتية العريقة أن يفرغوا له غرفة تقع فتحتها على باحة المدرسة الواسعة، وقد حملني الشوق إليه يوما فوقفت على الباب الزجاجي فاستأذنته للدخول على طريقة النظرة والابتسامة دون أن أتكلم، وبعد بضعة ثواني من تبادل النظر ابتسم وأومئ اليّ بالدخول، دلفت إلى داخل الغرفة لأراه جالسا خلف منضدته في قميصه الأبيض حاسر الرأس مشمرا عن ساعديه وقد سلط قلمه على الورق!

سرعان ما أفصح لي سماحته عن سر تواجده وقال إن مثولي هنا لا يعني أنني مكلف بالتأليف أو الدراسة من قبل جهة أو مؤسسة علمية، كل ما يعنيه استقلالي بهذه الغرفة هو أن البيت أصبح صغيرا ومزدحما بالأولاد ونفسي لا تقبل الاعتذار عن الانشغال بالعلم فاتخذت هذه الغرفة لأجعل منها صومعة العلم والبحث والدراسة!

٢ وفي أول السنين من علاقتي به راعني وأنا أتلفت في سرداب بيته الصغير مساحة محجوزة ربما بستارة ولا تتجاوز (2.5X2.5)وقد ضاقت بمكتب صغير عليه حاسوب ألقي أمامها أضابير من الأوراق التي توحي بمنشورات، وقد وضح سماحته الأمر بأنه قد شرع مع بعض أصدقائه أو ربما طلابه مشروع مجلة وليس لهم ملفى أو مكان..

ليست هذه الحكاية وسابقتها إلا من طفرات الخواطر التي تجلّي لك قدر عزيمة هذا العالم المخلص وأنه من حيث يمارس رياضة المبادرة والإسراع للخير أصبحت حياته محصنة من فايروس الاعتذار والتنكب القاتل لهمم كثير من أهل العلم!!

ظواهر مثالية في إنسان:

قليلة هي الشخصيات العلمية التي تجبرك على تأمل كل ظاهرة من ظواهرها الشخصية فأولئك هم الذين تزيدك حركاتهم وعاداتهم إلهاما وفكرا، بدءا من مشيتهم الوقورة في الشوارع العامة، وتوازن نبرتهم في الحديث، والتزامهم بالمواعيد وما إلى ذلك من نهاية وغاية، وليس هذا العالم الجليل إلا واحدا منهم، فالبداية معه كانت هي التأمل والنهاية هي التأثر اللا واعي ببعض فنونه في تنظيم أفكاره وسلوكياته، سأروي بعضها:

في لحظة من لحظات توقفنا للحديث وعلى قارعة طريق محلتنا التي تعرف ب”دوري شهر” سألته وأنا أنظر إلى دفتر في يده: سيدي في كل مرة ألتقيك أراك ممسكا بدفتر لا بكتاب، وإني لأطمع في أن أعرف ما تعنيه بسلوكك هذا؟
فأجابني: طبعا يا عبد الجليل أنا أتخذ لكل سنة دفترا يمثل مفكرتي الشخصية فاصطحبه معي أين ما أذهب، وأسجل فيه ما يقفز على ذهني من أفكار قبل أن تتبخر، وربما أضمّنه مواقف ومفاجآت حلوة أو مرة تصادفني هنا أو هناك..

ولعلّي أفلحت ـ والحمد لله ـ في اتباع هذا السيد في خطوته الجميلة منذ ذلك الحين لأنها وقعت مني موقع الإعجاب!

في تدريسه لكتب الفقه الاستدلالي والتي يمر معها الأستاذ ـ وفي معظم الأيام ـ بالآية والرواية، كان لا يكتفي بكتابة الرواية على حاشية الكتاب أو في ورقة خارجية نحو ما يصنع عموم الأساتذة لكنه يدخل المدرس متأبطا خيرا فاذا شرع في الدرس ومر بالرواية اخرج كتاب الوسائل وفتحه وقرأ الرواية لأنه يعتقد بأن على الطالب أن يعتاد المراجعة المباشرة لهذا السفر ويرى أن اصطحاب كتاب الحديث وفتحه يزيد في روحانية الدرس..
دعي في إحدى المناسبات للمشاركة بمحاضرة في احتفالية دينية بالحسينية المهدية لطلبة جاليتنا بقم المقدسة، ولما حضر رأى ان الحضور نصفه من عامة الناس عراقيون وخوزستانيون عرب ونصفه ـ تقديرا ـ من طلبة العلوم الدينية فاستأذن بأن يخصص أول ربع ساعة لعامة الناس وبقية الوقت للعلماء وطلبة العلوم فتكلم بكلمة سهلة الهضم طيبة المساغ لدى ذوي الفطرة ثم استأنف وفي ذات اللحظة بكلمة عميقة مفعمة بالمصطلحات الكلامية والفلسفية كبراهين على مقام المعصوم عليه السلام.
لم ينخرط في التبليغ بالسجية العامة كما يفعل بعض أهل العلم، بل كان يعترف بأن تلك مسؤولية صعبة، طريق النجاح فيها روحيات، وفنيات، واشتراطات كبيرة ؛ لذلك كتب فيها كتابا مفصلا تذكرة لنفسه وتنبيها لغيره من ابناء الحاضرة العلمية.
صراط الخلق العظيم:

إن الأخلاق التي تهوي على أسماع الناس من المنبر كالسحابة تمطر لبعض الوقت وإذا جف بللها نسيت وأما الأخلاق التي تمشي بين الناس فهي كالنبع الصافي الذي يجري على الدوام بين أيديهم ونصب أحداقهم.. وإني لأشهد بالعديد من المواقف المدللة على أن فقيدنا العظيم هو فارس من فرسان ساحة الأخلاق.

بالرغم من كثرة ترددي عليه فيمن يتردد من طلاب العلم المريدين له وعلى أن الجلسات التي تجمعنا به طويلة ولكن:

١ لم يخرق سمعي منه أي نبرة ادعاء في النفس، فهو يتحدث عن مشاريعه وجهوده ما نجز منها وما يروم إنجازه لكن بطريقة روحانية فذة لا تلمس معها إلا هضم النفس و الاتهام لها بالتقصير وبهذا يكون قد لقن جلاسه من طلبة العلم درسين في ساعة واحدة درسا عمليا وهو الحديث عن الجد والعمل ودرسا روحيا يتوقون فيه شر أنفسهم!

٢ لم أره مرة قد تعرض للآخرين بالتقييم لاسيما إذا لم يكن العيب فكريا يستدعي النصيحة الدينية وفي بعض الحالات يثار بمحضره حديث يظهر معه الشخص المعني لكنه لا يبدي تفاعلا.

٣ يدير علاقاته بتقنية روحية عجيبة فمهما درست على يده فإن مشاعر الأخوة والصداقة لا تختفي مع الأستاذية فتراه يحدثك عن أموره وهمومه ويهتم بمرافقتك و يبسط الحديث و يأتي بالطرائف التي تشيع المسرة في المجلس والجلاس كإنسان مساو لك في الحصيلة و الفضيلة!

٤ عرفته ـ فيما عرفته به ـ أنه عميق الشعور بأساتذته، فقد دعوته أيام الحج نيابة عن إدارة قافلة السراج ليشرفنا بمحاضرة ملكوتية وكان عليّ أن أقدمه إلى ضيوف بيت الله عزوجل فذكرت فيما ذكرت سيرته مع أستاذه الشهاب المرعشي ففاجأ الجميع ببكائه لذكر أستاذه ورفع النظارة وهو يكفكف دموعه!!

٥ يعيش هموم أحبائه العلمية والعملية ممن هم طلبته أو بمنزلتهم ويسعى إليها بنفسه الشريفه، وفي هذا الامر يمكنني أن استرجع بعض المواقف الجميلة:-

تحدثت إليه عن رغبتي في الحصول على صورة من النسخة الخطية لرسالة النية التي كتبها الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي لأحد تلامذته وهي متوفرة في مكتبة الشهاب المرعشي وعادة لا يمكن الحصول على هذا الطلب إلا بصفة رسمية فبادر بنفسه مستفيدا من نفوذه في مكتبة أستاذه وأحضر لي نسخة مصورة بعد أيام قلائل!
لم تكن مكتبة السيد الكلبيكاني بأحسن حال ولا أقل تعقيدا من أختها المرعشية، فلما علم أنني أبحث عن صورة من رسالة الشيخ حبيب الله الرشتي حول الأعلمية وهي غير مطبوعة تلطف وطلب من القائمين هناك أن يستخرجوا لي نسخة وفعلا قد تم ذلك!
حبّذنا له مكانا في المسجد الحرام لنلتقيه فيه، فكان قوله إذا أردتني ستجدني كل ليلة خلف المستجار فهذا مكاني وليس في وسعي تبديله فسألته لماذا؟ فأجاب أنه قد عود المؤمنين أن يجده حيث هناك كل من يحمل له في صدره سؤالا أو يطلب منه استفادة علمية أو غير ذلك من شؤون الأخوة في الدين.

الولاء الصميمي:

إن أحب الولاء إلى الله وأرضاه في ميزان العقل ما لم يكن تقليدا صرفا، ولا مخلوطا بمزيج العلم والتقليد، بل هو ما يحصل بالاستدلال والنظر، ويظهر في عالم التجسد بالرفق والحكمة، ويمكن لسيرة سيد الأفاضل”رحمه الله” أن تخط لنا شواهد ودلائل ناصعة لاحت ووَضَحَتْ لي أيام كنت على مقربة منه وقبل اختتام هجرتي القمية.

١ يفتتح سماحته مجلسه في الإجازة الإسبوعية عصرا لقراءة مجلس التعزية الخاصة بمصائب العترة الماجدة “صلوات الله عليهم”.

٢ كان يعتقد أن الخوض في المسائل العقدية من قِبل الذين لا يتمتعون بالنضج العلمي مكلف للغاية، لأنه يتسبب عادة في ردود فعل الجهال مما يضطرنا لمعالجة خللين عقديين، خلل الإفراط وخلل التفريط، سمعت منه ذلك حينما حضر مجلسه بعض العراقيين وتحدثوا له عن ظهور جماعة صاروا يذكرون فاطمة الزهراء في السجود كردة فعل من بعض التصريحات التي صدرت آنذاك !

٣ في ذات سنة وعلى أبواب محرم الحرام قرر خطيب الحسينية النجفية وبشكل مفاجئ نقل قراءته إلى إحدى دول الخليج، مما أربك الوضع، فأراد سماحته أن يتعاون مع المؤمنين القائمين على المأتم ويتلافون الفراغ فتصدى هو للمحاضرة على أن يعقبه خطيب “روز خون” ويتلو المصيبة.

٤ شُرعت أبواب الانترنت مع العام ١٩٩٩م أو قبله بأشهر، وللأسف فقد كانت افتتاحية الثقافة العربية والاسلامية هي المناظرات الحادة بين الشيعة والسنة، فاجتمع في مدرسة السيد الكلبيكاني سماحته مع كل من سماحة السيد محمد رضا الجلالي والشيخ علي الكوراني للنظر في الأمر والخروج بتوصيات تهم الشباب المناظر.

طرائف العمر:

لا تخلو حياة العلماء من طرائف معبرة وعابرة تَعْبُرُ بهم جادة النباهة والفطنة فيتعلمون من وقائع الأيام، فإذا بالموقف الطريف ينقلب إلى درس منيفٍ تامِ الفائدة..

١. مما حدثني به يقول حينما تم لي البلوغ عممني والدي، وأمرني أن أصعد المنبر بالكاظمية لأعظ الناس، وكنت إذا أردت أن أمثل لعمل قبيح أقول ياجماعة لو أن أحدكم فعل كذا.. ولو أن رجلا منكم عصى ولو أن ولو أن … فذهبوا لوالدي وقالوا له إن سيدنا الصغير يجلدنا بقوة !!! يقول فنبهني والدي على ضرورة أن ألبّس المثال الشخص البعيد..

ضحك السيد وهو يرويها ثم ذكر ما ترتب على ذلك من فطنة ودروس تخص هذا الطريق.

٢ شاركنا سماحته بأربع محاضرات في إحدى البرامج الثقافية الصيفية التي أقامها بعض الإخوة ـ وكان لي شرف التعاون معهم ـ في حدود عام ١٩٩٨ م أو العام الذي بعده، وفي الايام الختامية من البرامج دخلنا غرفة الإذاعة الخاصة بالبرامج؛ لأجري معه مقابلة وكان كثير الملاطفة وحينما جلسنا وأشار المصور ببدء التسجيل أخذني الضحك فضحك معي، ولما استأنفنا التسجيل نظر إليّ وكأنه يقول لي هيا تمالك إن استطعت فضحكت أخرى ثم تغلبت على الموقف وما كدت..

فحصول هذا مني وبقية فريق الإخراج يرفع الشك عن أريحيته ورحابة صدره لا سيما أنه كان يشعر بما لاقيناه من متاعب وعقبات تلقيناها بالصبر العميق؛ لإنجاح برامج ثقافي بواقع أربع دورات علمية وثقافية على مدى شهر كامل فكان يدرك أن هذا الضحك ليس فارغا بل علامة على نشوة الانتصار والوصول إلى الغاية والنهاية فتقبله وساعد عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى