أقلام

العبق الفواح من سيرة الإمام المجتبى (ع)(٤) 

السيد فاضل آل درويش 

ضبط النفس درس حسني:

روي أنّ شاميًّا رآه راكبًا، فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه السلام عليه وتبسّم، وقال: “أيّها الشيخ، أظنّك غريبًا، ولعلّك شبَّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنياك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرَّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعًا رحبًا، وجاهًا عريضًا، ومالًا كبيرًا”، فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم)(بحار الأنوار ج٤٣ ص ٣٤٤).

المواقف هي الفيصل والمعيار في الحكم على الشخصيات وتصنيفهم وتمييزهم في درجات الفضل أو الانحدار الأخلاقي، ومن أراد أن يعلي شأنه ومكانته ويتعرف على قيمته الحقيقية فليضعها تحت مجهر التصرفات الصادرة منه، ولذا المنهج الأخلاقي يهذب النفوس ويضبط إيقاعها تحت سيطرة العقل الواعي وكبح جماحها لئلا ينفلت خلف الأهواء والشهوات المتفلتة، والشخصيات الكبيرة بلغت قمة المجد وهرم الرقي والتألق من خلال مواقف أثبتت معادنهم الأصيلة وتأصل القيم الإنسانية النبيلة في نفوسهم، وأثبتوا صدقهم ومصداقيتهم بتطبيق دعواهم لمكارم الأخلاق وعالم الفضيلة على أرض الواقع وجسدوها لباسًا يتدثرون به، ولابد لنا من وضعها مفردًا في منهجنا الأخلاقي فلا تغيب عنه في صفحاته ونقدمها بعد تسليط أدوات المعرفة والبحث عليها لاستنتاج الدروس والعبر، فالقدوة الحسنة أيسر وأقصر الطرق لتربية أولادنا بما ينزه نفوسهم من الآفات والرذائل.

ومن تلك المواقف الكبرى الدالة على سمو النفس وتعاليها على ألم الإساءة والقوة في الامتناع عن الانجرار إلى دائرة الاستفزاز هو تلقي الإهانة والكلمة البذيئة وجرح المشاعر، فينبري أصحاب النفوس الكبيرة نحو معالجة الموقف بأفضل الحلول بعيدًا عن مقابلة الإساءة بمثلها وتوتير الأوضاع وخلق المشاكل والفتن، إنه خلق كظم الغيظ وضبط النفس الذي ينبيء عن قدرة فائقة عند الفرد على المحافظة على مشاعره من الاستفزاز وخطاه من التهور والأفعال غير محسوبة العواقب، وعندهم قدرة على امتصاص الألم أثر تلك الإساءة فيتجاوزونها ويمرون عليها مرور الكرام كأن شيئا لم يحدث، ولا يقتصر الأمر على تعاليهم على جرح وألم الإهانة بل يسمون على ذلك أكثر وأكثر، إذ أنهم لا تترك الإساءة في نفوسهم مشاعر سلبية ونفرة من المسيء فقط، بل يحملون له في القلب دعوة بتغيير حاله وصلاحها والتوفيق لنزع بذور الأحقاد والعدوان من نفسه، وهذه الدعوة يطبقونها بشكل عملي من خلال تسامحهم وصفحهم عنه لعل هذا الموقف النبيل يحمل معه رياح الوعي والبصيرة والتغير نحو الأفضل، حيث يشاهد هذا المسيء بنفسه أشخاصًا ليسوا من سنخه في الإساءة، بل هم أصحاب نفوس طيبة عندهم رقي أخلاقي يترفعون معه ويتنزهون عن تبادل الإساءات ومقابلتها بمثلها، فهم يعون ماذا يعني الدخول في الاحتكاكات المؤدية إلى خصومات وكراهيات مستحكمة، وأما أصحاب العقول الضعيفة التي لا تعي ولا تتصور الحجم العائل من الخسائر التي يمنون بها بسبب الدخول في المشاحنات بسبب إساءة لهم، وينحون إلى الاتجاه الخاطيء من خلال التفكير برد الأفعال المعينة بشكل أكبر، ويضمرون السوء ويحملون الضغينة لمن أساء لهم ولا يمكنهم تجاوز هذه العقبة مستقبلا ، و أصحاب النفوس الكبيرة لا يختلفون عن غيرهم في استفزاز مشاعرهم وانفعالهم بسبب المواقف المسيئة، ولكنهم يمتلكون قدرًا كبيرًا من ضبط نفوسهم والتحكم في ردات أفعالهم وتصرفاتهم وكلماتهم، ويعرفون تماما معنى الرد المتهور المشتمل على السب أو توجيه الكلمات الجارحة وما ستؤول له الأمور في النهاية من خسائر.

القدرة على امتصاص الغضب والتوتر ملكة لا تتكون ولا تكتسب بسهولة بل تحتاج إلى معرفة بأهميتها وعواقب التهور، وإلى تمرين مستمر ومتواصل في المواقف المختلفة والامتناع عن رد الإساءة، وقد يقع الفرد في الخطأ مرة وأكثر ولكن المهم أن يحاسب نقسه ويلتفت لما وقع فيه، وسيأتي الوقت الذي تتغلب فيه حكمته وحلمه على أهواء نفسه المتصورة للانتصار الوهمي بردات الأفعال التهورية.

من أهم مسارب وخطوات الشيطان الرجيم التي ينتظرها على أحر من الجمر هي خلق الصدامات والفتن والانفعالات غير محسوبة العواقب بين أفراد المجتمع، فمجرد صدور الإساءة من شخص غير مهذب أو في لحظة طيش وتسرع ليست هي بالمشكلة؛ لأن الاختلاف والتمايز بين الشخصيات والمواقف إيجابًا وسلبًا أمر طبيعي، فهناك من يتحكم فيه عقله الواعي وبالتالي تكون أفعاله محسوبة بدقة، وفي المقابل هناك من يسير خلف أهوائه ويستجيب لأدنى استفزاز، ولكن المشكلة تكمن في تنازلنا عن تربيتنا وأخلاقنا الرفيعة وننحط إلى المستوى الجنوني المدمر بسبب استفزاز وإساءة الآخر!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى