أقلام

المقلاع الملتهب

السيد فاضل آل درويش

وهم إثبات الوجود وتحقيق المكانة الاجتماعية العالية تتعدد مجالاته وطرقه الملتوية، ويستخدم صاحبه في سبيل ذلك كل الوسائل المتاحة أمامه فيشهر كل أسلحته ليصيب الآخرين في مقتل، فيأمل من ذلك وقوعهم ضحايا لجبروته وتعاليه فيخنعون له دون التفكير بمواجهته أو رد كلماته الجارحة، فلسانه الحاد الذي يتفوه بأقذع الكلمات وأقساها يتخذه سلاحًا يشهره في وجوه الناس من حوله، ظنًا منه بأن ذلك يشكل له هالة أمان وسلامة من تجاوز الآخرين عليه أو رد أية سلاطة لسان تصدر منه، وإذا ما نظرنا بعين التفكير المتمعن إلى نفسية صاحب اللسان الطويل فسنجده شخصية جوفاء من داخله تخالف تمامًا ما يتظاهر به من القوة والاستطالة على شخصية الغير، فافتقاده لمصادر القوة الحقيقية كالعقل الواعي والأخلاق الحميدة التي تشكل نسيج الاحترام المتبادل، تجعله يقع فريسة لأوهام تعشعش في عقله بأن الآخرين إذا ما تعامل معهم بالطيب والتقدير والحديث معهم بكل أريحية، سيكون ذلك سببًا في تجاوزهم عليه وتوجيه حراب الغمز واللمز والتطاول عليه باستهزاء وغيره، وخير وسيلة للدفاع في زعمه هي الهجوم على الآخرين بحراب الكلمة النارية يقذفها في وجه من يقابله ويحدثه، حتى يحدث حالة من الهلع والفزع في قلوب الغير فيهابونه ويتحاشون الحديث معه اتقاء من شرر النار الصادر من لسانه السليط.

ومما يساهم في تغول وتفرعن صاحب اللسان السليط هو ما يلقاه من تحاشي الناس الحديث والتعامل معه، بل ويقومون بالتودد له والتبسم في وجهه لعلهم يتقون بذلك أية رصاصة كلامية يطلقها في وجوههم، وحتى إن وجدوا الخطأ في كلامه أو الحديث بسوء عن أحد فلا يردون عليه لئلا يقعوا في شباك لسانه المتطاول، والمذخر في أي لحظة ليطلق عليهم كلمات قبيحة وسيئة تؤلمهم وتجرح مشاعرهم وتصيبهم بالانكسار النفسي.

ويتذرع بعضهم ويجد تبريرًا لحدته في التحدث والتعامل بأنه لا يحب النفاق والمداهنة والتلون الاجتماعي وإخفاء حقيقة مشاعره وإخفاء الكلمة الصادقة عن لسانه، بأنه صاحب قلب صاف ولسان يفصح عن الحقيقة فما يضمره في قلبه ومشاعره وفكره يخرجه بكل وضوح على لسانه دون أية مؤاربة أو التواء كلامي يعمي الحقائق ويخفيها، فما يقع في قلبه يبرزه بكل وضوح على لسانه وهذا عين الصواب والعقلانية في تشييد العلاقات الاجتماعية والحوارات الكلامية، وهذه الفكرة وإن كانت صائبة ولا خلاف عليها ولكن قوننتها وتأطيرها في اتجاه تبرير حدته غير صحيح، فقول الحقيقة والصدق في الحديث والتعامل شيء وسلاطة اللسان والتجاوز على شخصيات الآخرين وقذفهم بمقلاع السلاطة شيء آخر، فالكلمة الطيبة ومبدأ احترام شخصيات الآخرين وأفكارهم – وإن كانت مخالفة لما نعتقده – هو ما يرسي العلاقات على قاعدة قوية ومتماسكة ويحفظ استقرارها، ومن منا يتقبل التجاوز على شخصيته ولو بكلمة مؤلمة حتى يقال بأن هذا المسار مقبول ومسموح التعامل به مع الآخرين؟!

دون شك أن هذا الشخص سيكون منطقة ملغومة يتحاشى الآخرون الحديث معه لئلا ينفجر في وجه أحدهم، فتسلسل الإهانات واستمرار صدورها منه سيخلق أجواء متوترة، فلا يمكن لأحد منا التنازل عن مبدأ الكرامة والحفاظ على شخصيته من أي تجاوز، وعلينا البحث عن العوامل المؤدية إلى تنشئة شاب أو فتاة على سلاطة اللسان، فالبيئة قد تكون سببًا في حدته ورفع صوته حيث وجد في أسرته من يتعامل بذلك، وهو بذلك ينجو من أي عقاب على أخطائه بهذا التصرف، وكذلك الأساليب الاستفزازية وغمز قناة الغير يدفعه نحو مقابلة الاستفزاز بلسان حاد يدافع عنه، ومما يدفعه نحو هذا التعامل بشكل مستمر هو ما يجده من نتائج مطابقة لما يتوقعه من تجنب الغير لمجرد الحديث معه، ولعل تلك الحدة اللسانية تكون ردة فعل لما يجده الشخص من تهميش وتجاهل اجتماعي لوجوده فلا يسمع له كلمة ولا يشاركونه جلساتهم، فيجد في تلك السلاطة سببًا لتخوفهم من تجاهله وسعيهم لإرضائه، وبالتأكيد فإن سلاطة اللسان سلاح ذو حدين كما يستخدمه هذا الشخص يستخدمه الآخرون ويشهرونه في وجه الغير، وهذا ما يخلق أجواء قلقة ومضطربة لا تحتمل وتحول المشهد إلى صخب وصراخ، وتجنب التعامل الانفعالي الشديد و رفع الصوت – لأي سبب كان – وكذلك فرض معاملة الاحترام للجميع سيسهم في تجنب هذا السلاح القاتل والمدمر لكل ما هو جميل في علاقاتنا.

ورد عن الإمام الصادق (ع): إن أبغض خلق الله عبد اتقى الناس لسانه)(وسائل الشيعة ج ١٦ ص ٣١).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى