أقلام

دراسة: هل تطورنا لنرى الحقيقة كما هي بالفعل؟

ترجمة: عدنان أحمد الحاجي

هل تطورنا لنرى الحقيقة كما هي بالفعل؟ لا..كما يقول عالم النفس المعرفي دونالد هوفمان

يفترض عالم النفس المعرفي دونالد هوفمان أننا تطورنا لنمارس  وهماً جماعياً، وليس حقيقة موضوعية.

النظرية التي وضعها دونالد هوفمان تقول أن الشعور بالحقيقة يضر باللياقة التطورية (اللياقة التطورية هي احتمالية بقاء نسل فرد له سمة خاصة).

فرضيته تدعو إلى التخلي عن موضوعية الزمكان واستبدالها بنظرية رياضية للوعي.

إذا كان هذا صحيحًا، فقد تساعدنا هذه النظرية في التقدم في الأسئلة المستعصية على الحل  كمسألة العقل والجسم والتعارض بين النسبية العامة والميكانيكا الكمومية.

ما هي الحقيقة وكيف نعرف ذلك؟ بالنسبة للكثيرين، فإن الإجابة بسيطة: ما تراه وما تسمعه وتحس به وتلمسه وتتذوقه هو الحقيقة لا شيء غير ذلك .

بشرتك تحس بالحرارة في أحد أيام الصيف بسبب وجود الشمس. تلك التفاحة الذي تذوقتها للتو والتي تركت عصيراً على أصابعك، يجب أن تكون موجودةً. حواسنا تخبرنا  أن الحقيقة موجودة، ونحن نستخدم المنطق لملء الفراغات، أي أننا نعرف أن الشمس لا تختفي عن الوجود في الليل حتى لو لم نتمكن من رؤيتها.

لكن عالم النفس الإدراكي دونالد هوفمان يقول بآننا نسيء فهم علاقتنا بالحقيقة  الموضوعية في الواقع، يجادل بأن التطور قد أخفانا تحت حقيقة افتراضية إدراكية لمصلحتنا. 

فكرة أننا لا نستطيع أن نتصور حقيقة موضوعية في مجملها ليست فكرة جديدة. نحن نعلم أن كل شخص يأتي مجهزاً بتحيزات معرفية وآليات دفاع عن الأنا. حواسنا يمكن أن تُخدع بالسراب والسحرة. والشخص، الذي يرى بطة غيره يرى أرنباً، خدعة البطة والآرنب وفحوى هذه الخدعة هو أن يرى شخصان الشيء نفسه شيئين مختلفين.

لكن فرضية هوفمان، التي كتب عنها في عدد مجلة نيو ساينتست، تأخذ هذه الفرضية خطوة إلى الأمام. يجادل هوفمان بأن تصوراتنا لا تحتوي على أدنى مقاربة للحقيقة؛ ولكن، تطورت لتزودنا بوهم جماعي لتحسين لياقتنا / قوتنا fitness.

الشعور بوصلة (واجهة) دينية افتراضية 

يقول دونالد هوفمان Donald Hoffman بأننا ندرك أن الحقيقة هي واجهة بينية من أيقونات تخفي٬تفاعلات أكثر تعقيدًا إلى حد كبير. وقد شبه هذا بكيف تمثل أيقونات سطح المكتب البرامج الكومبيوترية.

باستخدام نظرية اللعبة التطورية  evolutionary game، ابتكر هوفمان ومعاونوه محاكاة حاسوبية لمراقبة كيف تقارن  “استراتيجيات الحقيقة”، (التي ترى الحقيقة الموضوعية كما هي) بـ “استراتيجيات المردود /العائد pay-off strategie” (التي تركز على قيمة البقاء على قيد الحياة). عمليات المحاكاة وضعت كائنات حية في بيئة فيها مورد ضروري للبقاء ولكن فقط بنسب معتدلة لتعريف مبدأ الإعتدال . 

خذ في الإعتبار الماء الكثير منه يُغرِق الكائن الحي، والقليل جداً، يجعله يموت من العطش. بين هاذين الطرفين، هذا الكائن الحي يطفيء عطشه، ويعيش ليتكاثر في يوم آخر.

الكائنات الحية  ذات إستراتيجية الحقيقة Truth-strategy التي ترى مستوى الماء على مقياس الألوان – من الأحمر على المستوى المنخفض إلى الأخضر على  المستوى العالي – ترى حقيقة مستوى الماء. ومع ذلك، فإنها لا تعرف ما إذا كان مستوى الماء مرتفعًا بما يكفي ليقتلها. وعلى العكس من ذلك، فإن الكائنات الحية ذات استراتيجيات المردود، ترى ببساطة اللون الأحمر عندما تقتلها مستويات الماء وترى اللون الأخضر عندما لا يكون مستوى الماء غير قاتل لها. أنها مجهزة بشكل أفضل للبقاء على قيد الحياة.

يقول هوفمان: “التطور يختار بلا رحمة لغير صالح استراتيجيات الحقيقة وإنما لصالح إستراتيجيات المردود pay-off strategies”إن الكائن الحي الذي يرى الحقيقة الموضوعية يكون دائمًا أقل لياقة من الكائن الذي يتسم بنفس التعقيد والذي يرى مردودات اللياقة/القوة fitness. إن رؤية الحقيقة الموضوعية ستجعلك منقرضاً”، ونظراً لأن البشر لا ينقرضون، فإن المحاكاة تشير إلى أننا نرى مقاربة الحقيقة truth approximation  التي تُظهر لنا ما نحتاج إلى رؤيته، لا إلى ما هي الأشياء على حقيقتها.

يشبه هوفمان هذا التقريب بـ واجهة سطح مكتب الحاسب الآلي interface. عندما يقوم الروائي بتشغيل جهاز الكمبيوتر ، فإنه يرى أيقونة على سطح مكتب الكمبيوتر التي تمثل روايته. إنها مستطيل الشكل أخضر، على سطح الشاشة، لكن المستند/ وثيقة document الرواية لا يحتوي على أي من تلك الصفات بطبيعتها. إنها سلسلة عدد ثنائي معقدة متكونة من الواحد والصفر  تتجسد كبرنامج يعمل كتيار كهربائي عبر لوحة الإلكترونية.

إذا كان على كتاب الروايات  أن يتلاعبوا بالثنائي binary  (واحد وصفر) لكتابة رواية، أو كان على جماعة الصيادين والجامعيين أن يتصوروا الفيزياء حتي يرموا رماحهم ، فمن المحتمل أن  كلا الجماعتين قد انقرضتا منذ زمن طويل.

يقول هوفمان: “بنفس الأسلوب، نستحدث تفاحة [ في أذهاننا] عندما ننظر إليها، ونمحوها [من أذهاننا ] عندما نشيح بوجهنا عنها. يوجد هناك شيء ما عندما لا ننظر إليه، لكنه ليس التفاحة، وربما لا يشبه التفاحة”. “إن تصور الإنسان للتفاحة عبارة عن هيكلية بيانات تشير إلى شيء صالح للأكل (مردود اللياقة/ القوة) وكيف نأكلها. نحن ننشئ هياكل البيانات هذه بنظرة واحدة ، ونمحوها بطرفة عين. الأشياء المادية ، بل المكان والزمان اللذان توجد فيهما هذه الأشياء المادية، هما طريقة التطور في تقديم ردود اللياقة /القوة  fitness pay-offs في شكل مضغوط وقابل للاستخدام. “

وعي على طول الخط:

 عند هذه النقطة،  من المرجح أن تتساءل، “حسناً، إذاً ما هي الحقيقة؟ لو أن كلبي هوهيكل بيانات يشير إلى مخلوق ذي فرو يستمتع بجلب الأشياء و يكره الإستحمام، إذن ماذا يكمن تحت هذا التمثيل؟” 

بالنسبة لهوفمان الجواب هو الوعي. 

عندما يضع علماء الأعصاب والفلاسفة نظريات الوعي، فإنهم عادة ينظرون إلى الدماغ. لو أن هوفمان على حق، فإنهم لا يستطيعون فهم الوعي بالتمام من خلال نشاط الدماغ، لأنهم ينظرون إلى أيقونة من عضو مادي موجود في الحيز والزمن. ولا ينظرون الى الحقيقة. 

هوفمان يريد أن يبدأ بالنظرية الرياضية للوعي كخط أساس – النظر إلى الوعي خارج المادة  والزمكان الذي قد لا يتواجد فيه. تدعو نظرية هوفمان لمزيد من التفاعلات المحتملة والانهائية من الأقوياء الواعين  conscious agents ، من التفاعلات السهلة إلى المعقدة. في هذه الصياغة قد يكون الوعي موجوداً حتى في خارج العالم العضوي، على طول الخط وصولاً الى الإلكترونات و البروتونات.

“أنا أنكر أن هناك شيئاً من هذا القبيل في الحقيقة الموضوعية كما لا يوجد مكان للإلكترون (استعارة مجازية حيث من المعروف أن الإكترون ليس له مكان ثابت حول الذرة ) . أقول أن إطار الحيز والزمن والمادة والدوران حول محور spin  بذاته هو الإطار الخاطئ. فمن الخطأ اللغوي وصف الحقيقة”، كما قال هوفمان للصحفي روبرت رايت في مقابلة معه. “أقول لنذهب بلا تحفظ: أنه الوعي، وفقط الوعي ، حتى النهاية.” هوفمان دعا هذا الرأي “مذهب واقعية الوعي .” لو ثبتت صحته، قد يحقق تقدماً في حل هذه المشاكل المستعصية كمسألة العقل والجسم، وهي طبيعة عالم الكم الغريبة، والمرغوب فيها أكثر “نظرية كل شيء.” “الحقيقة قد لا تبدو هي نفسها مرة أخرى”، كما كتب هوفمان.

هل المحاكاة أُختبرت والعلم أُعتمد؟ 

فرضية هوفمان رائعة، وإذا كنت تحتاج  الى موضوع لمناقشة جانبية غير منظمة مع مجموعة ما ، فسيكون أداؤك أكثر سوءًا . ولكن قبل أي يصاب أي شخص بالانهيار الوجودي، فمن الجدير بالذكر أن الفرضية هي كذلك. فرضية ما تم الإشادة بها قبل أن تقلب الفرضية رأساً على عقب حيث يجسد الدماغ الوعي، والذامْون لهذه الفرضية يدعون إلى التحدي .

واحد من قبيل هذا النقد يجادل أنه بينما نحن قد لا ننظر إلى الحقيقة كما هي، لا يعني أن مفهومنا غير دقيق بشكل معقول. هوفمان يزعم أننا نرى أيقونة تمثل ثعباناً، وليست ثعباناً. ولكن إذاً لماذا الثعابين غير السامة  تطور ألواناً [لها ] لـ مماثلة الثعابين السامة منها [حتى تكون شبيهة لها] ؟ فلو لم تكن هناك حقيقة موضوعية لتُقلد، إذاً لماذا يدل التقليد على أنه تكيفٌ مفيدٌ، و لماذا واجهات interfaces الأنواع / الأجناس المتعددة تنخدع بهذه الحيل؟ مخاوف أخرى هي مسألة الدجاجة والبيضة، كما أشار رأيت  في المناقشة. تجادل الأرثوذكسية الحالية أن الكون موجود لمليارات السنوات قبل انبثاق الحياة على الأرض. وهذا يعني أن أول الكائنات الحية الدقيقة بدأت مساراتها التطورية بإستجابتها إلى وجود بيئة مسبقة وغير عضوية، وفاقدة للوعي .  

لو كانت جدلية  هوفمان صحيحة والوعي أولي، إذن  لماذا تتطور الحياة ووهم الحقيقة؟ لماذا بعض هذه الرموز غير الحقيقية تكون ضارة للوعي في نهاية المطاف ؟ شبكة الوعي، كما يفترض أحدهم، استمرت في الوجود بلا حياة على مدى  مليارات السنوات.

هذا هو السبب في أن مايكل شيرمر ربط حجة هوفمان بشيء يشبه “إله الفراغات/ الفجوات”. 

وكتب: “لا أحد ينكر أن الوعي يمثل مشكلة صعبة. ولكن قبل أن نجسد الوعي بشكل مادي  إلى مستوى قوة مستقلة قادرة على خلق حقيقته الخاصة ، دعنا نعطي الفرضيات الموجودة لدينا عن كيف تُنشأ الأدمغةُ العقولَ مزيداً من الوقت. لأننا نعرف حقيقة أن الوعي القابل للقياس يموت عندما يموت الدماغ، إلى أن يثبت العكس، يجب أن تكون الفرضية الافتراضية هي أن الأدمغة هي المسببة للوعي. أنا موجود، إذاً أنا أفكر”.  

ثم هناك مسألة ما إذا كانت فرضية هوفمان هي مهزومة ذاتياً. لو كانت تصوراتنا للحقيقة هي مجرد واجهات خاصة بالأنواع مركبة على الحقيقة [من المترجم: من قبيل الأيقونة على سطح مكتب كمبيوتر المرتبطة ببرنامج ما ]  ، كيف نعرف أن الوعي ليس مجرد أيقونة آخرى من هذا القبيل؟ ربما تكون “أنا ” للممارسة اليومية فانتازيا مفيدة تم تكييفها للاستفادة منها في بقاء وتكاثر الجين وليس جزءًا من نظام تشغيل الحقيقة operating system of reality.

لا يعني أي من هذا أن هوفمان وآخرين لا يمكنهم مواجهة هذه التحديات بمزيد من البحث. سوف نرى. إن المسألة هي القول بأن هناك متسعاً كبيراً لاستكشاف بعض الأفكار الرائعة. كما من شأن  هوفمان أن يوافق مع ذلك:

“هذه النظرية جعلت الحياة أكثر إثارة للاهتمام ،” كما  قال هوفمان لرايت. “هناك الكثير ينبغي أن يستكشف ، والكثير الذي لا أعرفه ، والأشياء التي أعتقد  أن علي أن أتخلى عنها. وهذا يجعل الحياة أكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى