أقلام

قراءة في ثلاثة كتب للعلامة الشيخ باقر بوخمسين

إبراهيم بو خمسين

أقامت لجنة إحياء تراث العلامة الشيخ باقر بوخمسين ليلة السبت المنصرم من حفلًا لقراءة ثلاثة كتب لسماحة العلامة الشيخ باقر بوخمسين، وتوقيعها.

قدم الحفل الكاتب إبراهيم بوخمسين، الذي رحب بالحضور مهديًا الكتب للمكتبة العلمية والأدبية، ووعدهم بالمزيد من إصدارات العلامة الشيخ باقر ولا سيما التاريخية منها.

وافتتح الحفل بآيات من الذكر الحكيم جودها القارئ المجيد: محمد عبد المحسن الأمير.

ثم كلمة الافتتاح: لسماحة الشيخ عبدالله بن الشيخ حسن بوخمسين التي رحب فيها بالحضور الكريم باسم لجنة إحياء تراث العلامة الشيخ باقر بوخمسين التي وفقت بحمد الله بإصدار هذه الكتب الثلاثة بعد تحقيقها، وهي: ” أخلاق القرآن ” و” مودة الآل في الأدب العربي” وكتاب ” نظرات في الكتب والصحف”.

وتطرق سماحته إلى بداية محاولة طبع كتاب أخلاق القرآن من بعض المهتمين من الشباب لإخراج بعض مخطوطات الشيخ إلى النور أيام حياته، ولكن المحاولة لم تكلل بالنجاح حيث فقدت المطبوعة الأصل التي كانت مبيضة وكاملة.

هذه المحاولة نجحت في طبع ثلاثين صفحة من المخطوطة على الآلة الكاتبة اليدوية قبل فقدها. وبعد وفاة الشيخ باقر جهد نجله العلامة الشيخ حسن -بعد أن وجد النسخة المخطوطة المسودة من الكتاب- إضافة إلى الأوراق المطبوعة من النسخة الأصل، فلاحت بارقة الأمل فبدأ سماحته بتحقيقها، ولكن لم يمهله القدر ليرى طباعتها. فواصل سماحة الشيخ عبد الله بوخمسين العمل على تتمتها وطبعها في جزأين:

الأول منها “الفضائل” والثاني ” الرذائل”.

طبع هذا الكتاب على نفقة الوجيه المهندس صالح البقشي وفاء منه للعلاقة الأخوية الكبيرة التي تربط والده المرحوم الحاج عبدالهادي البقشي مع الشيخ.

كما تطرق إلى كتاب ” مودة الآل في الأدب العربي” الذي طبع في حياة العلامة الشيخ باقر بوخمسين، وكانت الغاية من طباعته أن يخرج في حلة جميلة خالية من الأخطاء المطبعية، كما أنها كانت ناقصة بعدما قورنت بالنسخة المخطوطة. وبعد أن أضيفت الموضوعات الناقصة ودققت وأضيفت لها الهوامش، كما أضيف لها تقديم من آية الله الدكتور عبدالهادي الفضلي. وحاول سماحة الشيخ حسن طباعة هذا الكتاب، حيث طلب من العلامة الفضلي عمل هذه المقدمة. وتابع سماحة الشيخ عبد الله العمل عليها وتحقيقها حيث طبعت مؤخرًا، وقد ألحق بها دراسة وإطلالة بقلم الأديب عبدالله الرستم.

أما الكتاب الثالث: فهو ” نظرات في الكتب والصحف” وهو عبارة عن مقالات معظمها كان صدى لما تنشره المطابع من كتب ولما تبثه الصحافة من مقالات، وبعض المقالات كان على شكل رسائل إخوانية يغلب عليها الطابع الأدبي وبعضها تعالج قضايا اجتماعية.

وكان سماحته ينشر هذه المقالات في النجف الأشرف فترة دراسته هناك، وقد نشر هذه المقالات في عدة مجلات منها: ” الإيمان، العدل الإسلامي، العرفان اللبنانية، والبيان، الهاتف، والغري”.

رصدت هذه المقالات ما بين الفترة 1360 هـ إلى 1412 هـ أي قبل وفاته بعام. وكان عدد المقالات مجملًا 30 مقالًا.

2- القراءة الأولى: كانت قراءة في كتاب ” أخلاق القرآن لسماحة الشيخ الأديب يحيى الراضي. وكان عنوان الورقة ” الواقعية الأخلاقية عبر كتاب ” أخلاق القرآن للشيخ باقر بوخمسين”. وفيها نقطتين مترابطتين حول الواقعية الأخلاقية: الأولى منها “شبه سيرة أخلاقية، أما الثانية فحول كتاب ” أخلاق القرآن “.

– النقطة الأولى، ومما جاء فيها: التاريخ الثقافي في القرن العشرين هو الأقرب إلينا لأنه لا يزال متصلًا بنا بوضوح الملامسة، رغم ما فيه من مجال متماوج بين الحلم والواقع. منذ منتصف القرن العشرين يلفت نظرنا حضور خليجي فيه شخصيات أحسائية كانت في صميم المشروع الفكري لعدة فضلاء، كان بينهم مربع الأسماء الباقرية: ” السيد باقر الشخص، باقر الصدر، باقر بوخمسين، باقر القرشي”. هذه النخبة لم تتلاقى في الأسماء فقط، وإنما نجد التلاقي في الدراسة والثقافة والصحبة. كان السيد باقر الشخص أستاذ البواقر الثلاثة ” الصدر وبوخمسين والقرشي.

وكان عقد الستينات مرحلة ذروة السجال الثقافي العربي والإسلامي الديني والمدني. سجال بين تأصيل الهوية وبين استيراد التحديث. اقتحم جيل الشيخ باقر بوخمسين بهدوء غمار مشروع خطاب ديني عصري.

بين الدرس والمنتديات والصحافة كانت حيوية الشيخ باقر أثناء هجرته النجفية من 1930 إلى 1956 م وهي مرحلة حافلة بثلاث آفاق: ” فقه الأعلام، وثقافة النهضة، وأدب التحديث” مما شكل منعطفات كبرى علمية وفكرية وأدبية.

من الرائع أن نجد الطاقة الخليجية فعالة قبل أن تثبت لنا التجارب أن أهمية الجالية في الحواضر الإسلامية تقوم على ثلاثة شروط:

1- تكوين الكفاءات العلمية

2- بناء المراكز والمدارس

3- أولوية المشاركة بالمعرفة والرأي على التبعية المتفانية.

النقطة الثانية: “كتاب أخلاق القرآن” تأليف العلامة الشيخ باقر بوخمسين. طبع الكتاب بعد ثلاثين عامًا من وفاة المؤلف وبعد قرابة ثمانين عامًا من تأليفه، حيث تمت كتابته حدود عام 1365 هـ كما أفادت كلمة اللجنة بها إفاده الأديب إبراهيم بوخمسين، إلا أن كتاب أخلاق القرآن لم يتقادم ولم يستنفذ صلاحيته لا بالرؤية ولا بالأسلوب، فما يزال معاصرًا باللفظ والمعنى، وما ذلك إلا لأن المؤلف عالم دين عصري وأديب نهضوي ومثقف حيوي واجتماعي رائد. ومن كانت ميزته هذه لا بد أن نجد في كتابه ميزة الواقعية الأخلاقية المتصلة بالينابيع الصافية من آيات وأحاديث حفظت الرؤية في نهج أقوم وأسلم، ورغم أن الكتاب حافل بالشواهد من نصوص دينية إلا أن تحقيق المرحوم الفاضل الشيخ حسن باقر بوخمسين أضاف إلى الكتاب التزود من شواهد الأحاديث والحِكم على مئات الفقرات.

كما استخرج مصادر شواهد متن الكتاب فزاده متانة وإشراقة.

وجاء في ضمن القراءة: بينما يتناول كتاب ” أخلاق القرآن” موضوع الصدق مثلًا بمنأى عن التعقيد والغرابة كما هو الحال في مختلف عناوين الفضائل والرذائل البالغة 66 مطلبًا.

يفتتح المؤلف الباقر كل موضوع بآية يتلوها حديث، ثم يسند مسائل الموضوع بحديث أو آية، ومن خلال ذلك يستنتج مثل هذه الرؤية. وحول فضيلة الصدق: ” ولولا الصدق لانتزعت الثقة بين الناس بعضهم من بعض وبطلت جامعتهم وتقطعت روابطهم وفسد نظام العالم أجمع ولا يمكن أن يصل الشرف الحقيقي إلا الصادقون”.

فما هو دليل العلامة باقر بوخمسين على فطرية الصدق لا كسبيته؟

هذا هو الجواب” الصدق في الناس فطري، ولو لم يكن فطريًا لما حصل الاطمئنان في أصل الأحوال التي ينقلها الخلف عن السلف. ولما ثبت اعتقاد في آية أو رواية، ولما كان وثوق في أمر من أمور الدنيا بين الناس وذلك باطل قطعًا.

وفي الجزء الثاني من كتاب ” أخلاق القرآن” يتناول الراحل موضوع الكذب من قسم الرذائل بنفس المنهجية الواقعية العقلانية المفيدة بإشارات استدلالية لطيفة، فلا يكاد مؤلفنا يأتي بفكرة على سبيل الدعوى وإنما يصوغها ببرهنة غير مبتذلة ولا مستغربة.

ثم لاحظ هذا الاستدلال في أقصر مقول:

” لا فرق بين السارق والكاذب، لأن الأول يسرق مالك والثاني يسرق عقلك. وإن سرقة أغلى شيء وهبه الخالق لأكبر عقوبة.

إن كتاب ” أخلاق القرآن ليس مجرد تجميع مواعظ وتلخيص مطالب، وإنما هو كتاب على اختصاره حاشد بالمفاهيم الأخلاقي المليئة بالشواهد من آيات وأحاديث.

3- الفقرة الشعرية: مع قصيدة عن تراث سماحة الشيخ باقر بوخمسين للشاعر “ابو أسامة” محمد المسلم:

هـــذا تـُــراثٌ بالـمـفاخِـــرِ زاخـــرُ ….

وبـــذاك تـشهـد للــعـيان مآثرُ

هو صُنعُ شخصٍ لا يملُّ من العطا …

في طولِ عمرٍ بالمحاسنِ زاهـرُ

قــد كان للــعــلــياءِ دومًا عــاشــقًا …

وبــــمثــلِ ذلـــك يَسـتهـيمُ أكابرُ

فـــمـواهبٌ شـتَّى بـِـهِ اجــتــمعــت …

فــلـــهُ من الـملـكاتِ حـظٌّ وافـرُ

هـو بالـعـلــوم الحـوزويَّـةِ عارفٌ ….

هـو كاتبٌ هو باحثٌ هو شاعـرُ

فـيـخُالُ أمُّ الـضـادِ عـشـقُ يــراعِهِ …

لــمَّا يـُرى مــنهُ الـبـيانُ الساحرُ

فـكأنــها تــهــواهُ طوعُ يـمــيـنهِ ….

فـعـــلى حـماها الــحـاكـمُ الآمــرُ

لـمَّا لـهُ بــكــتابـةٍ هــدفٌ ســما …

فـبفـضلِ ربٍّ لــم تـجـفَّ مـحابـرُ

وبـــدا لــهُ لمَّـا تـولَّى للــقــضا ….

رأيٌ ســديــدٌ من خـبـيـرٍ صادرُ

بــتـصـرفٍ حَـسَـنٍ وفـكرٍ نـيِّرٍ ….

هـو في حلولِ المُعضلاتِ يُـبادِرُ

فـلهُ سجلٌّ في القـضاءِ مشرِّفٌ ….

فـــيهِ مــواقــفـُـهُ الحـسان نـوادِرُ

لــينٌ بــقولٍ كان مـشهــورًا بِهِ ….

فـيهِ الخصوم لهم تـَطيب خواطرُ

وبذاك أثبت في القضاءِ جدارةً ….

فـبها فـيشهدُ مَنْ لهُ قـد عاصروا

فـتـراثـُهُ كحـديــقةٍ فــيها يـُـرى ….

أزهى الـورودِ لـها يُــسرُّ الـزائرُ

فغدا لِمنْ يهوى المعارفَ نُزهةً …

فـــيــها يـُــمــتـِّـعـُـهُ جــمالٌ آســرُ

بــسماءِ هَـجــرٍ نـجــمُهُ مـتــألِّقٌ ….

وعــطــاؤهُ كــنخــلِ هـجرٍ وافرُ

إن عُــدَّ أعـلامٌ بـها كان اسـمُـهُ ….

مــن بــيـنــهم فــلــهُ المقامُ الباهرُ

هو نجـلُ مـوسى مَنْ بدا ذا همةٍ ….

كـُبرى وفي فــن الـقــيـادةِ ماهرُ

لهُ سـيــرةٌ قــد أشـرقـت بفـعـاله ….

وبـحكــمةٍ مــنها تُـضاءُ بـصائـرُ

وصفـاتُهُ كانــت تـُرى في نـجلهِ ….

شـَـبـَـهٌ لــهُ فــيــهِ جــليٌّ ظاهــرُ

بـحـــياتـهِ بـمـجـالـسٍ زانـت بـِهِ ….

بــحُضـورِهِ كانــت تـُسرُ نواظِـرُ

دون الـتـكلـيفِ فـيهِ حُسنُ طبائعٍ ….

ومـن الـفـؤادِ لـهُ تـَـرقُ مـشـاعرُ

يــلـقـاك مُـبتـسـمًا بـكلِّ حـفــاوةٍ ….

فـعــلى خُطىً لذوي المكارم سائرُ

في خـُـلـقــه وبـِـعِـلــمهِ مـُــتميِّزٌ ….

ولــسائـلي عــنهُ جــوابي حـاضرُ

وأظُنُ في الأذهانِ قد لمع اسمُهُ ….

هـــو ذلــك الـشـيــخُ الـمكرَّمُ باقرُ

فــلهُ يـــدومُ بسـيـرةٍ كـانــت لـهُ ….

ذكــرٌ بأنـــواعَ الــمـكارمِ عــاطِـرُ

4- القراءة الثانية: قراءة في كتاب ” مودة الآل في الأدب العربي” للأديب عبدالله الرستم.

قدم الرستم قراءة شائقة وممتعة ومهمة شملت جميع نواحي الكتاب، ومما جاء فيها:

يعد كتاب (التشيع في الأدب العربي) للشيخ/ باقر أبو خمسين، من الكتب المهمة التي ينبغي أن ينال عناية كبيرة من حيث الطباعة، مهما كان الفارق الزمني بين تاريخ كتابته والوقت الحاضر، وذلك لأنه يركّز على قضية لا زالت قائمة حتى اليوم، وهي (دعوى أن الشيعة انتحلوا قصائد على ألسنة شعراء لدعم مذهبهم)، وهذه الدعوى امتدادٌ لدعوى سابقة لها، وهي: أن الشيعة ليس لديهم كتب يُعرفون بها.

وكانت ردة الفعل غير متوقعة، بل كانت إيجابية، حيث صُنفت المجلدات لرد دعوى أن الشيعة ليس لديهم كتب يُعرفون بها، مثل: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، تأسيس الكرام لعلوم الإسلام وغيرهما من المؤلفات، ولا يزال أثر هذه الكتب المصنّفة مهمًا حتى اليوم، وما كتاب الشيخ باقر (أثر التشيّع) الذي مضى على كتابته (60) عامًا ببعيد عن ذات الفكرة، فيبقى مصدرًا في بابه لعدة أمور تخللها الكتاب: فنية وعلمية.

جاء الكتاب ردًا على ما كتبه محمد سيد الكيلاني بعنوان (أثر التشيّع في الأدب العربي) الذي جاء خاليًا من الإنصاف وتحرّي الدقة فيما كتبه عن الشيعة وتراثهم الأدبي والشعري، فقد مزج – كيلاني – بين التاريخ والعقيدة، ووقع في تناقضات غريبة عجيبة، لا ينبغي أن تصدر من كاتب ينتقي ما يريد، ويترك الحقيقة المبثوثة في كثير من المصنّفات الأدبية والتاريخية عن الشيعة وتراثهم الشعري والأدبي.

ولذا .. فقد جاء رد الشيخ متجاوزًا الشخصنة في الرد، وقد سما في كتابته بمعالجة الفكرة دون الشخص، مسجلًا بذلك لغة تتجاوز التشنجات المذهبية، وكذلك موزعًا أفكاره فيما يتعلق بهذا الموضوع من مصادر متعددة. وعليه، يبقى الكتاب بهذه اللغة الحضارية حاضرًا بقوة ما دبجته يراعة الشيخ باقر، في رد الشُبَه ودفع الإشكالات عبر توثيق ما ينقله من مصادر معتمدة ومتاحة لمن يروم الحقيقة، وما التناقضات التي وقع فيها السيد كيلاني (ربما) بتأثره مما كتبه علماء الفِرق والمذاهب، كالشهرستاني الذي قام بتحقيقه، فالكيلاني يتهم الشيعة بانتحال القصائد، وفي الوقت ذاته يمدح بعض أعلام الشيعة بأن لهم تأثير في الأدب العربي!!

ويتكئ الشيخ باقر على حصيلة علمية أدبية غزيرة، تتمثل في عنايته واهتمامه بالأدب العربي وتاريخه، وثروة معلوماته التي استقاها بنفسه من عدة علوم كعلم النفس والتاريخ وما كتبه المستشرقون وغيرها. ولذا فإن القارئ لكتاب (أثر التشيع) للشيخ باقر، يجد فيه سلاسة العبارة، وجزالة اللفظ، ودقة اختيار المصطلح، مما يشي أنه يمتحُ من بئرٍ عميقة لا قرار لها، وهذا نتيجة الجهد والعناية التي يبذلها في تثقيف نفسه، ومن يتصفح الكتاب، يجد فيه ثروة معلوماتية مهمة تجاه المادة محل الكتابة، فخذ على سبيل المثال حديثه في وصفه لأبي فراس الحمداني: (تدخل إليه، فتراه يلتفُّ ببردة الأمير وطيلسان العالم الفيلسوف، وقِباء الأديب وعباءة رجل الدين والمِحراب، تحار في تحليل شخصيته ولكن سرعان ما تذهب عنك الحيرة، أو تبقى على ما هي عليه إذا رأيته يساجل العلماء بخطابه، ويصادر الفيلسوف بمحاوراته، ويناقش الأديب بآرائه …الخ).

كذلك تساعدك لغة الشيخ على الشوق في متابعة ما يسطّره يراعه، فما إن تنتهي من قراءة صفحة إلا وتجذبك عباراته إلى صفحة تليها، وما إن تنتهي من قراءة فصلٍ إلا ويجذبك الشوق إلى قراءة الفصل الآخر، كل ذلك بسبب براعته في رصف أفكاره، وعدم استطراده الذي لا يكون إلا بقدر الضرورة، ففي لغته إيجاز غير مخل وتطويل غير مُمِل، وهذا قلّما تجده عند المعنيين بالكتابة.

ولعل من الأمور اللافتة في الكتاب، أن الشيخ بثقافته الكبيرة واطلاع الواسع، امتلك مهارة الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث الشريف وكذلك الشعر، مما يُشعِرَ القارئ بحالة انسجامٍ كبيرة بين الفكرة ونص الاستشهاد، وإليك ما قاله (ص81) بعد أن يصف ما يستفز الشعور من الكلام: (ولكن هنا نقف مختارين – لا مجبورين – فيحار الفكر في أن يجعلها وقفة طويلة، ومعنى ذلك أن يُحاسب التاريخ الأعمى الذي غطّى بصيرته بلفائف العصبية، وشدّ أذنيه بقطن الجهل عن النظر في الحقائق، وعن سماع الحق، أم يجعلها قصيرة فنمرَّ عليه كرامًا قائلين معتبرين بقوله تعالى: (وإذا مرُّوا باللغو مرّوا كرامًا).

وغيرها من الاستشهادات التي وردت في ثنايا الكتاب.

إن المطلع على حجم المعلومات التي وردت في الكتاب، يجد ثمّة ثقافة موسوعية عند الشيخ، فقد تطرّق في الكتاب إلى معالجة التهمة من نواحٍ ثلاث: عقائديًا وتاريخيًا وأدبيًا، إضافة إلى استخدامه لغة الحجاج التابعة للدليل، مبتعدًا عن أسلوب المراوغة التي تحصل في السجالات المذهبية، إنما يعالج الفكرة من هذه النواحي، بلغة مباشرة، مبنية على مصادرها التي تنبئ عن ثقافة موسوعية، ناهيك أن جاء بأسماء شعراء شيعة غير المعروفين على الساحة، مثل: المفجّع البصري، الناشئ الأصغر وغيرهما، فهذان شاعران قلّما يعرفهما ممن ليس له عناية بالأدب والشعر، حيث الشعراء المشهورين هم الشعراء الذين تُتلى قصائدهم على المنابر، كالسيد الحميري ودعبل الخزاعي والكميت الأسدي وأضرابهم، وهذا يشير إلى أن الشيخ استخدم هذه الأسماء لإبرازها بما يتناسب مع طبيعة الموضوع.

كذلك استخدم لغة الإيجاز ورصّ الفكرة، حيث طبيعة الكتب التي تنشأ من ردود فعل إما أنها تضخم الموضوع ويكون أضعاف الفكرة المراد مناقشتها، أو غياب لغة الحوار الحضارية، بينما الشيخ في هذا الكتاب ينطلق من أهمية الفكرة ومعالجتها دون الاسترسال الممل في المبنى، والمخل في المعنى.

وتعد هذه الموسوعة لدى الشيخ، ناتجة عن طبيعة الحياة التي عاشها، عبر متابعاته لما يصدر من كتب في العالم العربي ويصل إلى سوق المكتبات النجفية، بالإضافة إلى مشاركاته بالكتابة في المجلات النجفية وغيرها، ولولا أن الشيخ انشغل بالقضاء طيلة (25) سنة، لكان كغيره من الأعلام الذين لهم مصنّفات كثيرة في مجالات متعددة، ومع ذلك فإن مؤلفاته التي وصلتنا تشير إلى الشيخ باقر يبقى شامخاً بعطائه وإن باعد الزمان بين تاريخ وفاته وطباعة نتاجه.

5- القراءة الثالثة: قراءة في كتاب ” نظرات في الكتب والصحف ” للكاتب الأديب المهندس يوسف الحسن. اقتبسنا منها بعض المقاطع وهي قراءة جديرة بالاهتمام والوقوف عليها:

عالم وأديب، كاتب وشاعر، قاض ومعلم، والد حنون ورفيق أنيس. اجتمعت فيه الأضداد الجميلة التي قلما تجتمع في أحد. عندما تجلس إليه تشعر بمحبة حقيقية له ولا تكاد تمل جلسته، ويعطيك من كل علم بمقدار ما تتمنى معه أن يطول بك المقام معه.

كان مجتهدا عندما كان يدرس، وواضحًا عندما كان يدرّس، حازمًا عندما كان يقضي بين الناس، وعادلًا عندما يحكم. سريع البديهة عندما يتطلب الأمر، ولكنه كان متأنيًا في قراراته. لا يأنف من الاستشارة، لكنه لا يتردد في المواقف التي تتطلب رأيًا سريعًا..

أحب الجميعَ فأحبه الجميع لا لشيء إلا لأنه كان أهلًا لذلك.

حين يتحدث تشعر أنك تستمع إلى رجل من رجال الصف الأول من المتحدثين، وحين يصمت تشعر بأن ما بعد الصمت أمر حكيم.. بابه مفتوح للجميع كما قلبه الذي كان يسع جميع من عرفه. ولذلك فإنه وبعد أكثر من ثلاثين عاما على رحيله لا يزال الناس يتذكرونه فيحبونه ويقرؤون له فيشعرون بأن ما كتب لا يزال جديدًا وغزيرًا ومؤثرًا..

أتحدث إليكم اليوم عن كتاب (نظرات في الكتب والصحف).

وقد صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة إحياء تراث آل أبي خمسين، وهو عبارة عن مقالات متنوعة كتبها العلامة الهجري وقام بتحقيقه ككتاب حفيده سماحة الشيخ عبدالله بن الشيخ حسن بوخمسين، ثم قام بمراجعته وتدقيقه الشاعر حسن الربيح.

أول ما يفاجئ القارئ في هذا الكتاب هو أنه يجمع ما بين عنصري الأصالة والمعاصرة. فبينما يكتب في قضايا تكشف خلفيته الحوزوية وسنوات دراسته وتدريسه في العراق، نجده يتناول قضايا عصرية لا يتناولها في الغالب إلا الشباب، بل إن بعض علماء الدين والدارسين في الحوزات العلمية يأنفون من الاقتراب منها حتى يومنا هذا.

ويتناول الكتاب آراء ونظرات الشيخ حول مجموعة من الكتب والمجلات التي كانت تصدر إبان دراسته وتدريسه في العراق، إضافة إلى مقالات تأبين لبعض العلماء أو الأدباء الذين كانت له علاقة أو زمالة بهم، وبعض المقالات الوجدانية التي تتناول حتى بعض الأمور الشخصية كتغزله في زوجته، أو بعض المقالات النقدية والأدبية، ومعالجة بعض الأمور الدينية والتاريخية.

وقد تأثر العلامة الهجري بالأسلوب الأدبي للأديب الكبير أحمد حسن الزيات وذلك كما وصفه الدكتور العلامة الشيخ عبدالهادي الفضلي وورد ذلك في دراسة لسماحة الشيخ الدكتور محمد جواد الخرس. وهذا الأسلوب يمتاز (بالمهارة في صياغة جمله وألفاظه، مطبوعة بالحلى الجمالية البارعة، التي يلحظها من له أدنى نصيب من التذوق الأدبي) كما قال الشيخ الخرس في كتابه الشيخ باقر بوخمسين وأدب المقالة لدى أحمد حسن الزيات.

وهو بهذا النهج من الجمع بين الأصالة والمعاصرة إنما يوثق العلاقة بين الأدب والعلوم الفقهية.

للكتاب ثلاث مقدمات: الأولى كلمة لجنة إحياء تراث آل أبي خمسين، والثانية لسماحة الشيخ الدكتور محمد جواد الخرس والثالثة لسماحة الشيخ عبدالله بوخمسين.

هذا الكتاب كان مخطوطًا يتكون من إحدى وعشرين مقالة تمت إضافة تسع مقالات إليه من مصادر متنوعة ليكون مجموعها ثلاثون.

ففي مقال له تحت عنوان (طالب العلم والإصلاح الحوزوي) ص 205 يقول: سارت هذه الجامعة (يقصد الجامعة النجفية) مع ركب الزمن منذ تأسيسها.. ولكن من المؤلم أن هذه الجامعة بقيت، وكأن لم يكن شيء، وكأن ركب الزمن هو ذلك الركب، والقائد هو ذاك القائد، وكأنهم لم يعرفوا أن شراع السفينة يجب أن يكون غير ذلك الشراع السابق؛ لأن ربانها قد ذهب مع دورة الفلك الأولى، وكأنهم لم يشعروا بأن جرس الحياة الجديدة قد دق مُعلمًا بأن سير الاتجاه قد تغير، فمن الواجب أن تقوم ببعض الإصلاحات في هذه الجامعة ودروسها، وإلا إذا لم نأخذ بهذا السير الجديد، فقد يفوتنا القطار، ولا نلحق بمسايرة الركب.

وقال أيضًا: وإذا عرفتَ بما يعانيه الطالب الديني في هذه الجامعة من جراء هذا التعقيد في هذه الكتب التي يجب عليه أن يدرسها، ويحل ما فيها من رموز ويحفظ ما فيها من إشارات علمت بأن هناك الذهنية الوقادة والفكرة الثاقبة حيث يجب على الطالب في هذه الجامعة إذا أراد أن يكون أحد أفرادها أن يتخلى عن التفكر في المادة، وعن التفكر في الأشياء التي تحبب له الدنيا وزخارفها.

وفي مقال آخر تحت عنوان (حاجاتنا إلى النوادي الأدبية) تحدث فيه عن النجف ودورها العلمي والأدبي.

كما تحدث في مقال تحت عنوان (العمل الاجتماعي ودعامتاه) حيث ذكر دعامتي المال والوجاهة الضروريين لتحقيق التقدم في المجتمع مفصلا في ذلك.

أما مقال (إليها) فهو مقال ملفت جدًا، فهو مقال قال عنه محقق الكتاب حفيده سماحة الشيخ عبدالله بأنه يقصد به زوجته. هذا المقال مليء بعبارات الغزل والإطراء وتعديد نواحي الجمال والعذوبة في زوجته مما قد لا يذكرها بعض الأدباء في زوجاتهم حتى في أيامنا هذه. فيقول مثلا (إلى التي ألهمتني، فخلقت مني نفسًا تغرد مع البلبل عند الصباح، وتطرب للجدول في هديره، إلى التي لا أعرف الوجود، والسعادة إلا في عينيها) ثم يقول (فما اقتطفت وردة إلا قرأت وجهك فيها وأذكرتني بك، وما تنشقت زهرة إلا لمحت عبقك فيها، وأذكرتني أنفاسك، فمن وردة خديك أتحفيني، وإذا ما غبت عنك فاذكريني). (آه من تلك العينين الكحيلتين أعياهما سهر النعاس! آه من تلك الشفتين اللتين هما مصرع عشاقك، وعبادك!).

هكذا إذن نتعرف باستمرار على جوانب جديدة من حياة سماحة العلامة الشيخ باقر بوخمسين حتى بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على وفاته، ونكتشف أمورًا لم نكن نعرفها من قبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى