أقلام

وسراجًا منيرًا (٣)

السيد فاضل آل درويش

الرحمة المهداة للعالمين

ورد عن أمير المؤمنين (ع) في دعاء الصباح: صلِّ اللهُمّ على الدّليلِ إليك في الليلِ الأليل..).

أية حيرة وتيه يحياه الإنسان أكثر من جهله بنفسه التي بين جنبيه وما تنطوي عليه من تصورات وآمال وغايات وطريقة تفكير ومشاعر وأخلاقيات في التعامل مع الأحداث والأشخاص، ولذا نحن بحاجة ماسة إلى من يعرفنا وينير دربنا بإيضاح الحقائق وخصوصًا أن ظلامات الحياة البهيمية قد ننحدر إليها، نعم عتمة النفس تمثل وضعًا خطيرًا قد يدفعنا نحو مجاهيل ودهاليز نرجع منها بالخيبة والخسران، فلا أشد من ضرر النفس اللاهثة خلف الشهوات المتفلتة ولا تملك ضميرًا واعيًا يكبح جماحها وتهورها في اقتحام مواطن الهلكة، وفي وسط الأمواج المتلاطمة والمنعطفات الخطيرة في الحياة والظلمة المستحكمة نحتاج إلى قبس ينير لنا الدرب ويكشف لنا ما يجنبنا السقوط في الحفر والتعثر بالحجر والمدر المتناثر على جنبات الطريق، وواقع الناس في زمن الجاهلية مثال واضح على تلك الظلمة والتيه الذي يحياه الناس فانحدروا في فكرهم وسلوكياتهم وعلاقاتهم المتهرئة إلى الحضيض، فأشرقت دنياهم بنور محمد (ص) واستضاؤوا بتعاليم الدين الحنيف وقيمه، ورسم لهم المنهج الذي يحفظ لهم كرامتهم في عقولهم وتصرفاتهم، إنه الرحمة الإلهية المهداة للعالمين ليسترشدوا بسيرته الغراء ويتعلمون منه المعارف والتعاليم التربوية، شخصية لا يتهمونه في شيء إذ نشأ بينهم منذ نعومة أظافره وهم لا يساورهم شك في عظمة شخصيته واتصافها بالكمال والفضيلة، كيف وسيرته بينهم توجت بغلبة صفتين مهمتين على اسمه الشريف، وهي: الصادق الأمين، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم بأنه لا يصدر منه الكلام عديم الفائدة فضلًا عن الخنا والبذيء منه، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾{ النجم الآية ٣ – ٤} .

فما وجدوا منه إلا الحكمة في المنطق والحوار وأعلى درجات الورع والعفة والاستقامة في سلوكه، وأما تعامله معهم فقد كان آية في الألق والحسن فما رأوا منه (ص) إلا التواضع والاحترام للصغير قبل الكبير، وهكذا كانت سيرته العطرة فواحة بمعالم النهج الأخلاقي الذي دعا إليه وبلغه في جهد كبير طوال سنة البعثة الشريفة وطبقها على أرض الواقع، بما جعله مهوى النفوس الطيبة والمنصفة والجاذبية إلى شخصيته الحاوية على الشمائل الكريمة، يكفي في بيان حسن تعامله مع الآخرين على اختلاف عناصرهم هو الرفق وكفى بذلك بيانًا، يحمل بين جنباته قلب يفيض بالود وينشر ويبشر بنهج المحبة والتسامح والسلام ووأد الكراهيات، والتوجيه إلى لغة الحوار الهاديء البعيد عن سخونة الانفعالات وشرر الكلمات القاسية والبذيئة، بما ينزع من قلوبهم بذور الشر والعدوانية والتشفي وحب الانتقام والشغف بتوجيه الإساءة للآخرين.

ويداه الندية بالعطاء وبلسمة حاجات المعوزين كانت معلمًا مشرقًا من سيرته العظيمة، وقد تعددت المواقف الدالة على ذلك، ومنها ما ورد عن الإمام الصادق (ع): إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أقبل إلى الجعرانة فقسم فيها الأموال وجعل الناس يسألونه فيعطيهم حتى ألجأوه إلى شجرة فأخذت بردة وخدشت ظهره حتى جلوه عنها وهم يسألونه فقال: أيها الناس ردوا علي بردي والله لو كان عندي شجر تهامة نعمًا لقسمته بينكم ثم ما ألفيتموني جبانًا ولا بخيلًا.

ثم خرج من الجعرانة في ذي القعدة قال: فما رأيت تلك الشجرة إلا خضراء كأنما يرش عليها الماء)( بحار الأنوار ج ١٦ ص ٢٢٦ ).

ذلك هو النبي الخاتم (ص) الذي يتلمس حاجات الناس في جميع أبعاد حياتهم ولا يقتصر الأمر على المعارف الشرعية والقرآنية والعقائدية، بل يولي اهتمامًا بحاجات الناس المادية ومساعدتهم على توفير مستلزمات الحياة الكريمة بالقدر الممكن، وهذا نابع من نفسه الطاهرة التي لم تتعلق يومًا من الأيام بشيء من زخارف الدنيا والافتتان بها، بل هو (ص) صاحب الأحاسيس الوجدانية المرهفة التي تحركه بهمة واقتدار في ميدان التكافل الاجتماعي والتخفيف عن المعوزين من وطأة الحاجة والفقر، ويعبر عن نفسه المعصومة من الزلل بأنه لو امتلك من الأموال الضخمة ما يوازي خراج شجر منطقة تهامة لما ضن (بخل) بشيء منها على المحتاجين ولبذلها لهم بنفس سمحة دون أن يوفر لنفسه شيئًا منها، فما أعظم هذا النبي الكريم (ص)

الذي تمثل كل كلمة وموقف من سيرته دروسًا وعبرًا !!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى