أقلام

الحل هو الله(الجزء الثاني)

 

علي محمد عساكر

تركزت فكرة الجزء الأول من هذا الموضوع حول بيان طبع من أطباع الإنسان هو (الطغيان)، وبيان منشأ بروز هذا الطبع في شخصيته، وظهوره في أقواله وسلوكه العملي على حد سواء، وهو انغماسه الكامل في عالم الماديات، واعتماده على الأسباب الطبيعية، وغروه بما لديه من علم مادي، واعتقاده أن ذلك من شأنه أن يحقق له القوة الكاملة، ويمنحه القدرة المطلقة، ليجعله مستطيعاً على كل شيء وحده، مما يجعله يطغى ويتجبر ويشعر بالاستغناء حتى عن الله عز وجل.

ثم ختمنا بالتأكيد على أن الإنسان ضعيف وعاجز، وأن فيروس كورونا حطم ذلك الطغيان والجبروت الذي يعيشه، وأثبت له ضعفه وعجزه بما لا مزيد عليه، مما يترتب عليه عجزه عن تقديم أي حل لخلاص البشرية من معاناتها، سواء من كورونا أو غيره، وأن الحل لكل مشاكلنا هو الله سبحانه وتعالى.

وسيكون حديثنا في هذا الجزء عن (الأسباب الطبيعية) التي خدعت الإنسان إلى أن أوصلته إلى حد (التجبر والطغيان) حتى على الله عز وجل، وجعلته يعتقد أن بإمكانه أن يقوم بكل شيء فقط استنادا إلى هذه الأسباب، ودون الحاجة إلى ذلك المدد الغيبي من الله عز وجل.
وأظن أن حديثنا هذا مهم جدا، لأنه يبين لنا الفوارق الجوهرية بين الإلهيين والماديين في نظرتهم لهذه الأسباب، ومدى اعتمادهم عليها، كما أنه يمهد لنا طريق الوصول إلى معرفة كيف يكون الحل هو الله.
وسيكون حديثنا هذا في عدة محاور، هي على النحو التالي:

*مفهوم السببية:

قبل أن ننطلق في حديثنا عن الأسباب الطبيعية، لابد أن نتعرف أولا على هذه الأسباب، ما هي؟ أو ما الذي نقصده بها؟
ومفهوم السببية هو (قانون العلية) نفسه، الذي يتم التعرض له، والحديث عنه، في المباحث الكلامية والفلسفية، ويتلخص معنى (الأسباب الطبيعية) فيما يلي:
مصطلح (العلة والمعلول) من المصطلحات الفلسفية والكلامية على السواء، ويُعد أهم الركائز التي يتكئ عليها الإلهيون في إثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى، فقانون العلية هو أصل أدلة وجود الله سبحانه وتعالى، وكل الأدلة الأخرى منبثقة عنه، ومتفرعة عليه.
وهذا يعني أن لقانون العلية أهمية كبرى في إثبات أهم الحقائق، وهي حقيقة وجود واجب الوجود، بل وفي إثبات كل حقيقة أخرى، سواء كانت علمية، أو فلسفية، أو كلامية، أو عقلية.
فلا يمكن إثبات أي حقيقة إلا من خلال قانون العلية.
والآن نأتي إلى شرح هذا المصطلح وبيان أقسامه:

العلة: هي القوة الفاعلة والمؤثرة في غيرها.

المعلول: هو الأثر المترتب على تلك العلة والناتج عنها.
العلية: هي العلاقة الموجودة بين العلة والمعلول، أو الرابطة بين الفاعل والأثر النتاج عن فعله، فمثلا: غليان الماء سببه تعرض الماء إلى الحرارة، فالحرارة علة، والغليان معلول، والرابطة بين الحرارة والغليان تسمى العلية، وهكذا.
ولابد أن نشير إلى أن مفهوم العلية مفهوم انتزاعي، بمعنى أن العقل ينتزعه من خلال ملاحظته للظواهر الحسية، والروابط أو العلاقات الموجودة بينها، كما هو الحال -مثلا- في ملاحظته للرابطة بين الحرارة والغليان، أو انكماش الحديد بالبرودة، وتمدده بالحرارة.

والشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر أوضح هذا المعنى في ص (61 ــ 62) من كتابه (فلسفتنا) تحت عنوان (نظرية الانتزاع) فقال: (…تتلخص هذه النظرية في تقسيم التصورات الذهنية إلى قسمين: تصورات أولية، وتصورات ثانوية.

فالتصورات الأولية: هي الأساس التصوري للذهن البشري، وتتولد هذه التصورات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة، فنحن نتصور الحرارة لأننا أدركناها باللمس، ونتصور اللون لأننا أدركناه بالبصر، ونتصور الحلاوة لأننا أدركناها بالتذوق، وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسنا، فإن الإحساس بكل واحد منها هو السبب في تصوره، ووجود فكرة عنه في الذهن البشري.

وتتشكل من هذه المعاني القاعدة الأولية للتصور، وينشئ الذهن -بناء على هذه القاعدة-التصورات الثانوية، فيبدأ بذلك دور الابتكار والإنشاء، وهو الذي تصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع) فيولد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأولية، وهذه المعاني الجديدة خارجة عن نطاق الحس، وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدمها الحس إلى الذهن والفكر.

وهذه النظرية تتسق مع البرهان والتجربة، ويمكنها أن تفسر جميع المفردات التصورية تفسيراً متماسكاً.
فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلة والمعلول، والجوهر والعرض، والوجود والوحدة، في الذهن البشري، إنها جميعاً مفاهيم انتزاعية، يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة، فنحن نحس -مثلا- بغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته مائة، وقد يتكرر إحساسنا بهاتين الظاهرتين “ظاهرتي الغليان والحرارة” آلاف المرات، ولا نحس بعلية الحرارة للغليان مطلقا، وإنما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلية من الظاهرتين اللتين يقدمهما الحس إلى مجال التصور).

ونكتفي بتعريف هذا القانون، ونعرض عن الحديث عن أقسامه، وسائر ما يتعلق به، إذ الهدف الأساس أن نعرف ما نعنيه (بالأسباب الطبيعية) قبل الحديث عنها، وقد عرفنا أنها العلاقة أو الرابطة بين الفعل والأثر المترتب عليه، فالزلازل -مثلا- تحدث نتيجة لما هو في جوف الأرض من حرارة هائلة، وحمم بركانية متفجرة، فالحرارة التي في جوف الأرض هي (علة فاعلة) والزلزال هو (المعلول) الناتج عن تلك العلة، والرابطة بين تلك النار وبين الزلازل هي العلية، أي (السبب الطبيعي) لحدوث الزلزال، وهكذا الحال في سائر الأسباب.

*كون الحل هو الله، فهذا لا يلغي الأسباب الطبيعية:

أهم نقطة يجب الالتفات إليها، هي أننا حين نقول: (الحل هو الله) فنحن هنا نتكلم من منطلق ديني، ولهذا أصبح من المهم جداً أن نوضح أننا بهذا القول لا نعني أن الدين يلغي الأسباب الطبيعية، أو يدعي عدم تأثيرها، وينكر أنها علة في الحوادث، و يربط كل شيء بالغيب فقط، وعالم ما وراء الطبيعية، وينسبه إلى الله مباشرة.
فهذا مفهوم خاطئ جداً، ومن ينسبه إلى الدين، فهو إما أن يكون جاهلاً بالفكر الديني فيما يتعلق بهذه المسألة، أو أنه متعصب ضد الدين، وغير أمين في نقله لفكره، ويحاول أن يشوه صورته عن طريق نقل هذه الأفكار المغلوطة عنه، وترويجها.
فإن ما يؤكده الدين في نصوصه كلها، هو أن هذا الكون العظيم قائم على نظام الأسباب والمسببات، وكل ما يحدث فيه من أحداث إنما هو نتاج تلك الأسباب الطبيعة التي تسوده وتحكمه، فالماء يتبخر إذا أشرقت عليه الشمس، والليل والنهار يتعاقبان إثر حركة الأرض، والرياح تلقح الأشجار، والزلازل تحدث نتيجة الحمم البركانية التي في جوف الأرض، وما من حدث يحدث في هذا الكون -مهما كان صغيرا- إلا وله سببه الطبيعي، ويستحيل للمعلول أن يوجد من غير علة، تكون هي السبب في وجوده، وكما يقول الإمام الصادق عليه السلام: (أبى الله أن تجري الأشياء إلا بأسبابها، فجعل لكل شيء سببا، وجعل لكل سبب شرحا) .
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة توضح هذا المعنى، وتؤكده بما لا مزيد عليه، منها قوله سبحانه وتعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} ، فالآية تنص على أن الرياح تقوم بوظيفة تلقيح الأشجار، وهي السبب في ذلك.
ويقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} ، والرواسي هي الجبال التي بثقلها ورسوخها تحافظ على ثبات الأرض، أي هي السبب الطبيعي في ثبات الأرض، لئلا تميد بأهلها.
وكذا قوله عز وجل: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} ، وقوله تبارك اسمه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} ، والباء في قوله {بِهِ} في الآيتين (باء السببية) أي أن الماء هو السبب المباشر في إحياء الأرض، وإخراج الثمرات والزرع منها.
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، إضافة إلى ما في الأحاديث الشريفة، وكذلك ما يؤكده كبار علماء الدين في مباحثهم الكلامية من قيام هذا الكون على نظام الأسباب والمسببات.
ولهذا لابد من التوضيح والتأكيد على أننا حين نقول ونؤكد -سواء في مقالنا هذا أو غيره- على أن (الحل هو الله) فإننا لا نقصد بقولنا هذا إنكار الأسباب الطبيعية، وتأثيرها في حوادث الحياة.

*موقف الماديين من الأسباب الطبيعية، وما يرتبونه عليها:
يتفق الإلهيون مع الماديين في القول بوجود الأسباب الطبيعية، وأنها مؤثرة في كل أحداث الحياة، كما شرحناه قبل قليل تحت عنوان (كون الحل هو الله فهذا لا ينفي الأسباب الطبيعية)،
ويوجد فارق كبير ومهم جداً بين الماديين والإلهيين فيما يتعلق بموضوع الأسباب وتأثيرها في الحياة، وما يرتبه كل فريق منهم على تلك الأسباب من آثار ونتائج.
فالماديون (المنكرون لوجود الله تعالى) قطعاً إنكارهم لوجوده عز وجل، يؤدي بهم إلى إنكار أن يكون له أي دور في صنع هذه الأسباب ووضعها، أو أن تكون منتهية إليه بأي شكل من الأشكال، إذ كيف ينسبونها إليه، أو يقولون بعدم استقلالها عنه، وهم ينكرون وجوده من الأصل؟!
ولذا هم يرون أن كل ما يحدث في هذا الكون، هو نتيجة تلك الأسباب الطبيعية، وتأثيرها المستقل فيه، كما يرون أن الاعتقاد بوجود الله إنما هو نتيجة الجهل بهذه الأسباب، وعليه فهم ينادون بإلغاء الدين والإيمان بالله من الحياة، واستبدال ذلك بالعلم الذي كشف لنا عن هذه العلل والأسباب، وأثبت أن كل ما يحدث في الحياة له سببه الطبيعي، الذي يجب أن ننسب الحدث إليه، بدل القول بوجود إله فاعل ومؤثر في الكون والحياة!
وتوضيحا لهذه الفكرة، لا بأس أن أشير إلى أن هناك عدة نظريات في (نشأة الدين، وكيفية ظهوره في حياة الإنسان) من بينها نظرية تعرف باسم: (نظرية الجهل) وملخصها هو أن جهل الإنسان البدائي القديم بأسباب الحوادث الطبيعية، كتعاقب الليل والنهار، وشروق الشمس وغروبها، ووقوع الكسوف والخسوف، وحدوث الزلازل والبراكين، وعدم معرفته بعللها الطبيعية، دفعه إلى اختلاق (فكرة الألوهية) لينسب هذه الحوادث كلها إلى ذلك الإله، ويجعله علة مباشرة في حدوثها.
وفي هذا المعنى يقول بعض علماء الاجتماع: (إن العلم -وإن وقف على جملة من علل الحوادث- إلا أنه لا زالت هناك حوادث لم تقع في إطار هذا العلم، ولا زالت تعاني من الإبهام والغموض، وهذا هو الذي سبب نشوء العقيدة الدينية).
ويقول “ول ديورنت”: (تعاونت عدة عوامل على خلق العقيدة الدينية، منها الدهشة لما تسببه الحوادث التي تأتي مصادفة، أو الأحداث التي ليس في مقدور الإنسان فهمها).
فهو -هنا- يشير إلى عاملين يعتبرهما السبب في ظهور الدين ونشأته:
الأول: الدهشة أو الخوف من الحوادث الطبيعية، مما دفع الإنسان إلى اختلاق فكرة الإله ليركن إليه بحثا عن الأمن والطمأنينة، وهذا هو الذي تذهب إليه، وتؤكد عليه، النظرية التي تعزو ظهور الدين إلى عامل نفسي هو (الخوف)، التي تم الاصطلاح على تسميتها (نظرية الخوف).
الثاني: جهل الإنسان بعلل الحوادث وكيفية حدوثها، مما دفعه إلى ابتكار فكرة الألوهية ليجعل (الإله) مصدراً لتلك الحوادث، وسببا مباشرا لها، من غير أن تكون هناك أسباب طبيعية لحدوثها، وهذا ما تحاول (نظرية الجهل) تأكيده وإثباته.
ولهذا فهم يرون أن هناك تضاداً بين (العلم) الذي ينسب تلك الحوادث إلى أسبابها الطبيعية، وبين (الدين) الذي ينسبها إلى ذلك الإله، ويفرّعون على ذلك بأنه إذا كان الإنسان البدائي القديم اخترع (فكرة الألوهية) لجهله بعلل الحوادث الطبيعية، فعلى إنسان العلم والمعرفة أن يكفر بذلك الإله الآن، ويؤمن (بالعلم) الذي أوصله إلى معرفة أسباب حدوث هذه الحوادث، وأثبت له أنها كلها طبيعية، وليست غيبية.
وفي هذا المعنى يقول (هكسلي): (إذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين طبيعية، فلا ينبغي أن ننسبها إلى أسباب فوق الطبيعة).
وقال آخر: (إذا كان قوس قزح مظهرا لانكسار أشعة الشمس على المطر، فماذا يدعونا إلى القول بأنها آية الله في السماء).
وهكذا -كما يقول البروفيسور جوليان هكسلي – كما نقلنا قوله في الجزء الأول:
(أصبحت التطورات العلمية التي حدثت في القرن الماضي انفجاراً معرفياً في وجه جميع الأساطير الإنسانية من الإله والدين) (وأثبت العلم أن الدين كان أقسى وأسوء خدعة في التاريخ).
وكما يرى صادق العظم من أن نيوتن (أثبت أنه لا وجود لإله يحكم النجوم، وأكد “لابلاس” بفكرته الشهيرة أن النظام الفلكي لا يحتاج إلى أسطورة لاهوتية، وقام بهذا الدور العالمان العظيمان “دارون” و “باستير” في ميدان البيولوجيا، وقد ذهب كل من علم النفس المتطور والمعلومات التاريخية الثمينة التي حصلناها في هذا القرن بمكانة الإله الذي كان مفروضاً أنه هو من يدير شؤون الحياة الإنسانية والتاريخ).
وقد وسعوا الدائرة في ادعاء التناقض بين الدين والعلم، سواء في تعليل الحوادث وبيان أسبابها، أو في غير ذلك من مختلف القضايا التي -كما في زعمهم- دائما يكون العلم والدين فيها على طرفي نقيض، وتكون الغلبة للعلم، إلى أن يضطر الدين إلى التنازل من مواقعه التقليدية، والانسحاب من مراكزه التي يشغلها، لتصل إلى حد ادعاء العداوة الدينية للعلم، ووجود الموقوف الديني السلبي من جميع القضايا العلمية بمختلف أنواعها بدون استثناء، كما شرحناه في بحث لنا بعنوان (الدين بين مطرقة العلم وسندان التطور)
هذا هو ملخص هذه النظرية، والنتيجة التي يريد أصحابها الوصول إليها من ورائها، فالدين الإسلامي في نظر الماديين: (يحوي آراء ومعتقدات تشكل جزءً لا يتجزأ منه عن نشوء الكون، وتركيبته، وطبيعته، عن تاريخ الإنسان، وأصله، وحياته خلال العصور، وليس من الضروري أن نشدد بأن هذه الآراء والمعتقدات تتعارض تعارضاً واضحاً وصارخاً مع معلوماتنا العلمية عن هذه المواضيع بالذات، لكن أن يتناقض الدين مع العلم في اعتقاد معين حول موضوع محدد، ليس أمرا مهما للغاية، إن الخلاف والنزاع بينهما يجريان إلى أعمق من ذلك بكثير، عندما يمسّان المنهج الذي يجب اعتماده في الوصول إلى قناعاتنا ومعارفنا في هذه المواضيع المذكورة، والطريق التي يجب أن نسلكها للتيقن من صدق أو كذب هذه القناعات، إن الإسلام والعلم في الأمر على طرفي نقيض…).
أما ما يقوله علماء الإسلام والمؤلفون عن التوافق بين الدين الإسلامي والعلم الحديث، فإنه لا يمثل من الحقيقة شيئاً، وما هو إلا كلام إنشائي عام، لا قيمة له، ولا يعوّل عليه، وقد كُتب (بصيغة تقريرية خطابية صارمة، تتلاعب بألفاظ معيّنة، مثل “الحق”
و”العلم” وكأن مجرّد إثبات النص الخطابي يكفي -بحد ذاته- للتأكيد على صدق الاستنتاج وسلامته).
وما كان الدين والعلم -في زعمهم- على طرفي نقيض، إلا لأن الدين -كما يتصورون أو يصورون- ينسب كل الحوادث إلى قوة غيبية لا نعلم عنها شيئاً كوننا لم ندركها بحواسنا، ويجعلها علة لكل شيء في هذه الحياة، في حين أن العلوم الطبيعية استطاعت أن تكتشف علل تلك الحوادث وكيفية حدوثها، لتسقط على أثر هذه الاكتشافات العظيمة أكذوبة وجود ذلك الإله المزعوم بحسب زعمهم.
هذا ملخص رأي الماديين وموقفهم من العلم والدين، وقد رأينا أنه موقف سلبي جداً، يمثل الرفض الكامل للدين، والاعتقاد بالإله، ويدعو إلى استبدال الدين بالعلم، والعلم فقط، بدعوى أن العلم أسقط خرافة الدين والإيمان، وبدعوى أنه يكفي لحل جميع مشاكل الإنسان.

*خلاف الإلهيين مع الماديين فيما يرتبونه على الأسباب الطبيعية من نتائج:

يتفق الإلهيون مع الماديين في القول بوجود الأسباب الطبيعية، وأنها مؤثرة في كل أحداث الحياة، تحت عنوان (كون الحل هو الله، فهذا لا يلغي الأسباب الطبيعية)
ولكنهم يختلفون معهم في التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع، أو فيما يرتبونه على ذلك من نتائج، ومن بين موارد الاختلاف ما يلي:
أولا: إنهم يرون أن ما يدعيه الماديون عليهم، وما ينسبونه إليهم، من أن جهلهم بعلل الحوادث الطبيعية دفعهم إلى اختلاق (فكرة الألوهية) غير صحيح، وما هو إلا نتاج الجهل، أو الافتراء والتعصب.
فالإلهيون لم ينطلقوا في اعتقادهم الديني من الجهل، بل من العلم، بمعنى أنهم حين رأوا هذا الكون، واكتشفوا النظام العظيم المودع فيه، تساءلوا عن كيفية وجوده، وعن سرّ ما يسوده من نظام دقيق، وأخذوا يبحثون عن ذلك، إلى أن اهتدوا إلى أن لهذا الكون صانعا صنعه، وأودع هذا النظام فيه، وذلك استنادا إلى (قانون العلية) الذي ينص على أنه لابد لكل موجود من موجد، ولكل حادث من محدث، وبما أن الكون حادث وليس قديما كما أثبت ذلك العلم الحديث، فعليه لابد أن يكون له محدث أحدثه وأوجده.
أي هناك رابطة عقلية بين وجود الكون ووجود المكون، هي التي أدت إلى الاعتقاد الديني بوجود ذلك الإله، المعبّر عنه في الفكر الديني بلفظ الجلالة: (الله)
ثانيا: إنهم يعتبرون أن من أكبر الأخطاء التي وقع فيها الماديون، أنهم اتخذوا من اكتشاف العلم المادي لبعض علل وأسباب بعض الحوادث، دليلاً على عدم وجود الله تعالى.
وهذا -كما قلنا- استنتاج خاطئ جداً، وذلك لأن أقصى ما يمكن للعلم أن يتوصل إليه هو اكتشاف هذه العلل والأسباب، وكيفية تأثيرها في هذا الكون، من خلال الربط بين الحادثة وسببها، أما كيف وجد هذا الكون، ومن الذي أودع فيه هذا النظام، وجعل الرابطة بين الحادثة وأسبابها، فهذا ما لا تستطيع العلوم المادية الإجابة عليه، لخروجه عن اختصاصها.
وليس هذا فقط، بل إن اكتشاف هذا النظام من خلال العلوم المادية، يوصلنا إلى حقيقتين عقليتين، مهمتين جدا.
الأولى: ضرورة وجود خالق ومنظم لهذا الكون، للاستحالة العقلية أن يكون هذا الكون ونظامه قد وجدا من دون أن يكون لذلك موجد ومنظم.
الثانية: عظمة هذا الموجد ومدى سعة قدرته وحكمته، بدليل مدى عظمة هذا الكون، ودقة النظام الذي يسوده، إذ يستحيل أن تكون هذه العظمة وهذه الدقة إلا من عظيم مقتدر.
وهذا يعني أن الماديين عكسوا القضية تماما، حين اتخذوا من وجود ذلك النظام السائد دليلاً على عدم وجود المنظم!!
ثالثا: استناداً إلى ما جاء في النقطة الثانية، فإن الإلهيين يعتقدون أن هذه الأسباب من صنع الله ووضعه سبحانه وتعالى، فكما أنه عز وجل هو الخالق لهذا الكون وموجده، أيضا هو الذي وضع هذه القوانين والنظم التي تسوده وتحكمه.
وبشيء من التأمل فيما سبق أن نقلناه من آيات مباركات يتضح لنا هذا المعنى كل الوضوح، فهي تؤكد أن الله هو الذي أرسل الرياح وجعلها لواقح، وهو الذي جعل الجبال رواسي، لتكون سببا في ثبات الأرض لئلا تميد بأهلها، وهو الذي أنزل الماء من السماء وأخرج به الزرع والثمر، وكل هذا يعني أن الله تعالى هو الذي وضع هذه الأسباب، وجعلها قوانين سائدة على هذا الكون ونظامه.
رابعا: كما أن هذه الأسباب الطبيعية من صنع الله ووضعه، وهو الذي جعل فيها ما فيها من خصوصيات وتأثير، وإلا لما أمكن أن يكون لها من تلك الخصوصيات وذلك التأثير أي شيء، كذلك هي ليست مستقلة في خصوصياتها وتأثيرها عنه سبحانه وتعالى، بل هي منتهية في تأثيرها إليه سبحانه وتعالى، تعمل بأمره، وتخضع لإرادته، وتمتثل لمشيئته، فما هي إلا جندي من جنوده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} .
خامسا: كما أن الله جعل هذه العلل والأسباب المادية الطبيعية حاكمة في هذا الكون ونظامه، كذلك جعل (أسبابا غيبية) مؤثرة فيه كل التأثير، بل هي فوق الأسباب الطبيعية في التأثير، فقد تنقطع الأسباب الطبيعية بالإنسان، وحينها لن يجد له ملجأ إلا تلك الأسباب الغيبية، التي تعني التدخل المباشر من الله، ليكون سبحانه (هو الحل الذي لا حل سواه)
أما هل من الممكن فعلا أن تنقطع الأسباب الطبيعية بالإنسان، فلا يكون له ملجأ ولا حل سوى الله عز وجل، فهو ما ستفصل القول فيه، في الجزء القادم إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى