أقلام

همسة للحوزة العلمية الاحسائية

تعد مواقع التواصل الاجتماعي، من أحدث منتجات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وأكثرها شعبية، ورغم أن هذه المواقع أنشئت في الأساس للتواصل الاجتماعي بين الأفراد، إلا أن استخدامها امتد ليشمل الأنشطة السياسية، والثقافية، والتربوية والرياضية والدينية أيضاً.

لقد أصبح يطلق على مواقع التواصل هذه اسم الإعلام الاجتماعي الجديد، ومن سمات هذا الإعلام الدينامية، والتطور والانتشار، فتحول في فترة وجيزة من أداة تواصلية نصية مكتوبة، إلى أداة تواصلية سمعية وبصرية، وأصبحت لها قوة وقدرة غير محدودة على التأثير في ثقافة الأفراد خاصة الشباب، وسلوكياتهم، وأفكارهم وتصرفاتهم. فكل مبادئ وقناعات هؤلاء سواء عبر التخيل أو التحدث أو التحليل الدقيق أو تبني تجارب وخبرات الآخرين، أصبحت داخل هذه المواقع قابلة للتعديل والتغيير من طرف المؤثرين، حيث أصبح مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي اليوم لا يكتفون بالعيش في المجتمع، بل يقومون أيضا بإنتاج أشكال جديدة للمجتمعات، بغية مواصلة العيش، وعبر قيامهم بتحويل طرق عيشهم، يُحَّولون في الوقت عينه طرق تفكيرهم وتصرفهم وبالتالي ثقافتهم.

إننا نعيش في هذا العصر ثورةً تقنية ومعرفية هائلة، فجهاز بحجم الكفّ يضع العالم المترامي الأطراف، الحيّ والنابض، والمتدفِّق بالحركة والتغيّر، كلّه بين أيدينا، وفي أيّة لحظة من لحظات الليل أو النهار، فهو الصحيفة، والفضائية، والمكتبة، والبريد، والمستشار، والمعلم…، هذا الجهاز عبر التطبيقات التي يحملها – ومنها وسائل التواصل الاجتماعي – نقلنا من محيط المكتبة الخاصة إلى فضاء المكتبة العالمية التي تضع بين أيدينا أُمهات المصادر والمراجع والمؤلفات، وتتيح لنا القراءة المجانية في كتب كنّا نسمع بعناوينها ونقرأ شيئاً مختصراً في التعريف بمضامينها ويعزّ علينا شراؤها أو اقتناؤها أو حتى استعارتها.

لقد وضعت شبكة التواصل الاجتماعي كتباً وعلوماً وآداباً كثيرة من رفوفها المُتربة على مكتبات عريقة إلى مستطيلات صغيرة تضع اسم الكتاب أو المؤلِّف داخلها ليحضر بين يديك خلال ثوانٍ معدودات، ولذلك كلّما تيسّرت مهمة التبادل المعلوماتي وروعيت الدقة والصدق في النقل، أضفنا إلى عقولنا عقولاً أخرى، واهتمامات أخرى، وطرقاً للتفكير أخرى، مما يجعل التعليم متاحاً بدرجة أكبر وفضاءات أوسع من الاختناق في صفوف محدودة ومواعيد دوام ثابتة ونظام تعليمي رتيب، فوسائل التواصل الاجتماعي اليوم تتميز بانعدام المحدودية؛ وليس لها حدود زمانية ولا مكانية ولا نوعية أو جنسية؛ ولذا فهي تتخطى كل الحواجز.

إن شَباب اليوم أكثر التصاقا بأدوات ووسائل الاتصال الحديثة، لذا بات لزاماً على عالم الدين أن يكون في طليعة مستخدمي وسائل وأدوات التواصل الاجتماعي الحديثة لمسايرة الشباب، لما لها من قوة التأثير على متابعيها؛ فقد اصبح لدينا تجمعات اجتماعية تشكلت من أماكن متفرقة في أنحاء العالم يتقاربون ويتواصلون فيما بينهم عبر شاشات الكمبيوتر والبريد الإلكتروني، يتبادلون المعارف فيما بينهم، ويكونون صداقات، ويجمع بين هؤلاء الأفراد اهتمام مشترك ويحدث بينهم ما يحدث في عالم الواقع من تفاعلات ولكن ليس عن قرب، لذا اطلق على هذه التجمعات اسم المجتمع الافتراضي.

لهذا أخذ شباب اليوم يتوجه أكثر فأكثر نحو خيار المجتمعات الافتراضية وما تتيحه عوالمها الافتراضية من حرية أكثر في القول والفعل، بما في ذلك الشأن الديني اعتقادا وممارسة أيضا، حيث لم تعد القناعات الدينية مرتبطة بعملية برمجة مجتمعية أو فردية تضمن إمكان إعادة إنتاج السلوك والوعي الديني التقليدي، وإنما حصيلة تفاعل وترابط أوسع وأشمل لمجتمع قُدِّر له أن يوضع على الخط، وأن يتخلى عن أمكنته الطبيعية التقليدية ليتواجد في أمكنة سائلة وافتراضية، بثقافة جديدة وذات جديدة، وعادات وتقاليد جديدة، وسلوكيات ووعي ديني جديد مع تمثل للذات بثقة أكبر.

كان الساعون لنشر الوعي والثقافة الدينية يستهلكون الكثير من الوقت كي يصلوا إلى شخص أو شخصين، أو عشرة أو عشرين، أو قرية أو قريتين، أمّا اليوم وبفضل هذا الفضاء المفتوح على الناس كلّ الناس، وعلى الأمكنة جميع الأمكنة، بات بإمكان عالم الدين أن يوصل صوته ورسائله إلى الملايين، بل أضحى بإمكانه أن يحادثهم ويحادثوه، ويناقشهم ويناقشوه، ويسألونه ويجيبهم حتى كأنّهم في جلسة واحدة ومكان واحد، وليس في أماكن متفرقة وأزمنة مختلفة.

لذا لا ينبغي لعالم الدين بحال من الأحوال أن ينفصل عن هذا التقدم الحادث في التقنيات الحديثة بل لابد من الاستفادة منها؛ لأن التقوقع داخل مسجد أو حسينية أو مركز او حوزة يهدر الكثير من الوقت والجهد الذي يمكن توفيره لنشر الهداية والفضيلة في المجتمعات المختلفة.

فعالم الدين مطالَب أن يطوِّر ذاته وأن يطور من وسائله التبليغية والتعليمية، بما يتناسب مع الشريعة الغراء، التي لم تحدد لنا نمطاً معيناً نسير عليه لا يمكن أن نتجاوزه وأن نبتكر فيه، بل تركت لنا مساحة كبيرة للابتكار ووضعت لنا قاعدة ثابتة في السير على منهج الدين، بدون إفراط ولا تفريط، يقول سبحانه وتعالى{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}١، وقد استخدم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله كل وسيلة متاحة في عصره في التبليغ والدعوة إلى الله عز وجل، فكان صلى الله عليه وآله يقصد الناس في مجتمعاتهم وأسواقهم، كما يصفه أمير المؤمنين عليه السلام: طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ…٢. لهذا فإن وسائل التبليغ الإسلامي تقبل التطوير والابتكار بما لا يتنافى مع الشريعة الغراء.

إننا إذا أردنا تطويع كل الوسائل التكنولوجية في عملية التبليغ ونشر الوعي والثقافة الدينية في المجتمع، ينبغي أن نوحد الجهود في تأسيس جهد وعمل جماعي مؤسسي، ولا نكتفي بالجهود الفردية التي يقوم بها بعض طلاب العلم حفظهم الله تعالى – وهم يشكرون على هذا الجهد وهذه الغيرة على الدين- التي قد تفتقر في الكثير منها إلى المهارات اللازمة، والتقنيات المتطورة، وهذا لا يعني تجاهل هذه الجهود، بل يعني رصدها وتقييمها ومعرفة عناصر القوة ونقاط الضعف فيها، خصوصاً ونحن أمام تجربة فردية ناجحة لسماحة الشيخ عيسى الحباره – الذي نعيش ذكر اربعين رحيله – رحمه الله، والذي لامسنا مدى نجاحها من خلال ما حظي به من تشييع وحضور لافت في مجلس الفاتحة.

لذا ينبغي على أصحاب القرار في الحوزة العلمية الاحسائية ان يهتموا بهذا الجانب من خلال:
– إعداد كادر من ذوي الكفاءة العلمية لتغطية الحاجة الملحة في العملية التبليغية والتثقيفية، والتي لمسنا ضرورتها واهميتها فيما نعيشه من ظروف استثنائية بسبب جائحة الكورونا.
– تقديم الدورات التخصصية والفنية لهم فيما يخدمهم في العملية التبليغية، وتذليل الصعوبات التي يواجهونها في ذلك.
– تقديم الدعم المادي والمعنوي والاستقرار المعيشي لهم، لتفريغهم لهذه المهمة العظيمة.

إننا وبحكم انتمائنا إلى مجتمعات إسلامية، فإن أكثر ما يتم الاعتماد عليه لتنشئة وإعداد الشباب هو المقوم الديني بالدرجة الأولى، إذ يوفر الدين في هذه الحالة إمكانية بناء هوية دينية خاصة تتراوح بين الاعتدال في المظهر الخارجي والممارسات اليومية، وهذا يتطلب من المؤسسة الدينية ممثلة في الحوزة تهيئة الأجواء المناسبة لهؤلاء الشباب والاستفادة من التطور العلمي والتكنولوجي لإيصال علوم أهل البيت عليهم السلام، وقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: رحم الله عبد أحيا أمرنا فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا٣.

لذا لابد من التخطيط والعمل واستشراف المستقبل، والاستفادة من الطاقات العلمية الموجودة في صفوف طلاب العلم في منطقتنا، فلا يجدي السبات في زمن المتغيرات.

الهوامش:
(١) سورة النحل: ١٢٥.
(٢) نهج البلاغة: ١ : ٢٠٧، خطبة رقم: ١٠٨.
(٣) بحار الأنوار: ٢ : ٣٠ ح١٣.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى