أقلام

لا عاصم اليوم

كنت أظن أن من ينتمى لعائلة متنفذة أو قبيلة قوية الشوكة أو مجموعة شلة من الإقطاعيين أو يملك مأوى في دولة أوربية أو يملك رصيد مالي ضخم بالعملات الصعبة والذهب والأسهم أو يحمل جواز سفر دولة قوية، كنت أظن أنه في ملاذ آمن من تهديدات قطاع الطرق والقراصنة

والإرهاب، ومحصن من مصادرة حرية التعبير
وله كامل حرية التنقل إذا ما حلت تلك الأمور في مكان ما على أهل الأرض. كما ظن البعض من سكان دول العالم الأول أن وجودهم في أماكن بعيدة عن منابع الأوبئة يعصمهم من الوقوع فيها، وكان لسينما هوليوود والأفلام الترويجية التجارية المؤدلجة دور كبير في بناء هكذا تخيل في رأس الملايين من البشر. إلا إن ما يمر به اليوم سكان الأرض بسبب جائحة الكورونا جعل الإنسان، حيثما كان ذلك الإنسان في دائرة خطر الإصابة بالوباء والرحيل للعالم الآخر. اي أن لسان الحال هو (لا عاصم اليوم من أمر الله) وكان حجم الصدمة كنس وهدم كثير من الأوهام والبروبجندا التي كان يعتقد البعض بأنها حقائق مصيرية
وكونية كحقيقة شروق الشمس من المشرق. العولمة واكتساح العولمة لصغار المزارعين والتجار والصناع أضحت مشلولة. أنه بالفعل طوفان دون ماء.

عندما كنت أتأمل في كتاب الله المبين لكلمة “لا عاصم ” ، سبحان الله استحضرت في مخيلتي أحداث قصة نبي الله نوح (ع) أثناء حدوث الطوفان العظيم الذي غطى كوكبنا آنذاك
ومحادثته الخاطفة مع ابنه، جملة ( قالَ سَآوِي إِلى‏ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) سورة هود، آية 43، صفحة 226 . وصف بديع وموجز في الآية الكريمة يعطي الشمولية للطوفان الذي ضرب كل الناس آنذاك على امتداد وجه الأرض. عندما كنت في مقتبل شبابي، كانت لدي تساؤلات قديمة جدا ومن ضمنها: لماذا الله العلي القدير وثق تلك الأحداث التاريخية وجعلها قرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار ويتعبد بتلاوتها. في الحقيقة استشعرت جزء من الجواب لذلك التساؤل، ومنها العبرة
والعظة التي تحملها الآية الكريمة (لا عاصم اليوم) بشكل كبير ومزلزل وملموس.
والدروس التاريخية مليئة بالدروس لذلك وجب تدوينها، ولاسيما مع تدحرج كرة وباء كورونا عبر العالم والمحيطات،
وما تناقلته وكالات الأنباء العالمية من توقف شبه التام لحركة النقل الجوي والمصانع وتحول مدن عظمى إلى مدن أشباح. استرسلت واستنطقت تأملا من الآية بأن رمزية الجبل في جملة (سَآوِي إِلى‏ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) هي مجموعة الضمانات التي يعتقد فيها الإنسان المعاصر للنجاة من المهالك المادية، ومن ضمن تلك الموانع للهلاك في لغة العصر التامين الطبي والانتماء لوطن ما والأموال الطائلة وكثرة العدد والقوة الجسدية. وهنا لمست أن هناك أحداث مفصلية تحدث الفروق في تاريخ الإنسان تستحق التدوين برمزية احترافية بلاغية والقرآن هو ذلك الكتاب المبين. لم نكن أنا وأنت موجودين في عهد نبي الله نوح حيث الطوفان العظيم، إلا أن حدث طوفان الجائحة لفيروس كورونا تستوجب من بني البشر استقراء الحدث
وإعادة القراءة له في عالم الواقع لإعادة تقييم كامل أنماط الحياة والتطلع لمستقبل افضل وعلاقة أطيب مع الخالق المصور والمحيط البشري
والبيئي.

لعل تصريح وزير الصحة الياباني، يوم ١٦ أبريل ٢٠٢٠، عن توقعه ببلوغ عدد ضحايا فيروس كوفيد-١٩ قد يفوق الأربعمائة ألف ضحية من سكان اليابان، أثار الرعب في نفوس مواطنيه، حتى أنهم تدافعوا بشكل ملفت وغير معهود عنهم وينم تدافعهم على أماكن بيع الكمامات الصحية عن الصراع من أجل البقاء. وتصريحات وزراء الصحة لمعظم دول العالم في كل بلد تشير إلى تزايد أعداد الضحايا لهذا الوباء من جهة، وعلى غياب أفق الحلول المختبرية الفاعلة للأدوية حتى الساعة من جهة ثانية. التجلد والمواظبة في تفعيل كل الاحترازات، والالتزام ب المحافظة على مسافات الابتعاد الاجتماعي لتقليل التعرض للخطر هي الأدوات المتاحة والأكثر فعالية فنرجوا الالتزام بها. ولعل ما يخفف وطأة جفاف الابتعاد الاجتماعي social distancing هو المراعاة الأخلاقية
والأدبية والتعاضدية والنفسية والروحية لكل منا تجاه الإنسان الآخر. والحرص على عدم انتهاز الفرصة لانقضاض التاجر على جيوب المتسوقين برفع الأسعار، والحرص على الشفافية، والمساعدة على تعيين أهل التعفف لإيصال المؤن والسلال الغذائية لمن هم أهل استحقاق لها وفي أمس الحاجة إليها، والدفع إلى تبني مبادرات عملية تخفف آثار هذه الجائحة على النفوس، والحرص على عدم الانزلاق في مهاترات التراشقات بالكلام غير المجدي.
قد يكون هذا البلاء الحالي صورة مصغرة لما قد تتطور إليه الأحداث.
ورمزية هذا الحدث تستنهض في نفس كل شريف من ابناء الإنسانية للتقدم على إنجاز ما يمكنه القيام به لخلق عالم أفضل، ويجعل كل منا عمله وإنجازاته،
ومبادراته هي اللسان الناطق عنه أمام الله
وكل أبناء البشر.
تذكّر أن (لاَ تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ) كما ورد على لسان الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى