أقلام

التويثير قلب هجر النّابض (قطيفية الهوى)

علي محمد الحاجي

ربما هكذا قد يستغل أحدهم النّصوص الأدبيّة أو التاريخيّة ليموضع التويثير في جانب من مدينة القطيف، ويقول: انظروا أحدهم قال التويثير قطيفية!.

وما أسهل أن تنطلق من نتيجة قد حدّدتها مسبقاً ثم تجمع ما يؤيّد هذه النتيجة وتتغافل عن الكثير ممّا يُعارضها ويخالفها، ولابأس أن تلوي عنق الحقائق المثبتة، فالنتيجة مقرّرة مسبقاً (ما هكذا يا هيجل يُؤتى العلمُ ).

لكن لماذا التويثير هي عنوان هذا المقال؟ لأنّ التويثير -وهي قرية في شرق الأحساء بالكاد تُعرف- تستطيع لوحدها وبقرحائها العريقة أن تنقض كتاباً مترامي الأطراف يدّعي أن هجراً في غير موضعها التاريخي المعروف.

فقد ذكر “ياقوت الحموي” في معجم البلدان: القرحاء من قرى بني محارب بالبحرين، وكذا ذكرت في عدة مصادر أخرى كـ”ابن الفقيه” في كتابه البلدان حيث ذكرها بجوار الرميلة، وأماكن أخرى كقرى بني محارب، وهو محارب بن عمروا بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس.

ولا تزال القرحاء تمثّل الجزء التاريخي من التويثير وهي متكئة على الكتف الشّمالي الشّرقي من جبل الشّبعان، ومواجهة لجبل ابوحصيص الذي بُني حوله حصن الصّفا، كما رآه الباحث عبدالخالق الجنبي.

لذا وبهذا الوضوح حدّدت المعاجم والمؤرخون والكثير من النّصوص الأدبيّة أن الأحساء هي مدينة بني عبد القيس الرئيسيّة بمسمّياتها التاريخيّة (هجر، وجواثا، والقرحاء، والرميلة)، والعديد من مسمّيات القرى والمدن التي تزاحمت وتوزّعت عبر التاريخ في هذه الأمكنة وبين النخيل والتمر والأنهر الجارية.

غير أن قصر تواجد بني عبد القيس في مدينة واحدة من شرق الجزيرة العربية لهو أمرٌ يدعو إلى الذّهول من مستوى القصور لدى الكاتب، والضّعف والتهافت في هذا البحث؛ فبني عبد القيس إحدى أكبر قبائل العرب وقد استوطنت كامل مناطق شرق الجزيرة العربيّة من حدود البصرة شمالاً إلى عمان جنوباً، وهذا أمر اتفق عليه المؤرّخون والباحثون، ولا يوجد أيّ مبرّر علمي أو مورد تاريخي للتردّد أو التشكيك فيه.

وبالعودة إلى قرحاء التويثير المتكئة على سفح جبل الشّبعان، والذي قال فيه “عدي بن زيد” بيته المشهور:
تزود من الشّبعان خلفك نظرةً … فإنّ بلاد الجوع حيث تميمّ.

يعاودنا الذّهول مجدّداً كيف امتلك أحدهم الجرأة بوصف الأحساء ببلاد الجوع حين نسبها إلى تميم، وهي أكبر واحة نخيل في العالم والتي لم تكتفي من نتاجها الغذائي فقط، بل كانت رافداً مهمّاً للغذاء يعمّ المنطقة المحيطة بها من كلّ الجوانب.

لقد كان “نهر محلم” الشّهير يمرّ بوسط التويثير وقرحائها، وكذلك في تويثير الأحساء العين الشّهيرة والتي يُعتقد أنها المعنيّة بقول الأعشى: ونحن غداة العين يوم فطيمة … منعنا بني شيبان شرب محلم.

ولا تزال (العين) أسم لأحد أحياء التويثير وهو مجاور للقرحاء.

وآثار بني شيبان لا تزال موجودة بهذه المنطقة، وأوضحها منتزه الشّيباني المعروف، والذي لا يخطئه أحد.

والشّبعان ذكر في كلّ المعاجم بأنّه (جبل في البحرين يُتبرّد بكهافه)، ونؤكد هنا على ما سبق وأشرنا إليه من خطورة تغيير مسمّيات المعالم الأثريّة والتاريخيّة كجبل الشّبعان، لما فيه من تشتيت للتاريخ وأحداثه المدوّنة في أمهات الكتب وضياع للمعالم والآثار .

وعلى من يصف الأحساء ببلاد الجوع حين ينسبها لبني تميم أن تكون له القدرة السّحريّة في التحكّم بجيولوجيا الجزيرة العربيّة، ليمحوا منها الحوض العربي الذي يملؤه الدّرع العربي منذ آلاف السّنين، ليتفجّر تحت الأحساء بعشرات عيون المياه العذبة كـ(الخدود، والحقل، والجوهريّة، والحارة، وأم سبعة، التي تجري منها أنهر عذبة من غرب إلى شرق الأحساء)، واحة بني عبد القيس الغنّاء، وأينما وجد الماء وجدت الزّراعة وأينما وجدت الزّراعة وجدت الحضارة وتكوّنت الآثار والمعالم التاريخيّة، التي تخلّفها الكيانات البشريّة العابرة لهذه الحضارات القائمة حول الزّراعة والموارد المائيّة.

ولعلّه يشتبه على الباحث بعض المسمّيات حيث مسمّى الأحساء متكرّر في عدة أماكن وليس بمشتقاته المختلفة كـ(الحسا، والحسي، والحسو) فقط، بل بلفظة الأحساء نفسها حيث توجد أحساء أُخرى في جزيرة العرب ذكرها حمد الجاسر في كتابه المعجم الجغرافي للبلاد العربيّة السعوديّة في فصل أسماء المدن والقرى والهجر والمياه، حيث ذكر (في صفحة رقم ١٧٨ من الجزء الأول): الأحساء (من مياه قبيلة شهران بمنطقة بيشة في أمارة بلاد عسير). ومثل هذا الاشتباه يحدث بلا شك لدى الكاتب أو الباحث.

ومن اللطيف هنا توضيح أن اطلاق مسمّى بلاد البحرين على شرق الجزيرة العربيّة جاء نتيجة لوجود بحيرة الأصفر العذبة، التي يصب فيها “نهر محلم” وهي من الكِبر بحيث كانت تغمر كامل مدينة العمران بفيضانها في الشّتاء قبل أن تنقلها شركة “فيلبس هولزمان” الألمانيّة التي بنت نظام الرّي الحديث بالأحساء إلى موضعها الحالي، وتتصل بحيرة الأصفر بالبحر شرقاً من غزارة الأمطار وفيضان الأنهر التي تصب فيها، كما يروي الآباء والأجداد، فهي بحرٌ من المياه، والخليج العربي البحر الرئيسي (ولا يستوي البحران)، وقطيفنا العزيزة ساحليّة على نفس البحر المتصل بجزيرة أوال -البحرين حالياً- فمن أين يكون للخط إذا عزلنا عنها الأحساء مسمّى البحرين؟!

ختاماً يجدر التوضيح: أن هذه المقالة ليست رداً على أحد ما بقدر ما هي توضيح لأحبائنا الذين صدموا من جرأة الطرح في نسبة هجر العريقة إلى غير موضعها التاريخي، وكانوا يتلهّفون لتلقي معلومة رصينة تخرجهم من حالة الذّهول هذه، وتؤكّد لهم أنّ ذلك الطرح لم يكن علميّاً وأنّ مدينتهم هجر العريقة موثّقة بما يدرأ عنها الشكوك والشّبهات.

ولا أرى شخصيّاً الحاجة لرد علمي على طرح لم يستند أساساً على أُسس علميّة رصينة تستحق الرّد العلمي، فالنّظر إلى قرية صغيرة في شرق الأحساء كـ(التويثير) أنتج لنا كلّ هذه المعلومات التاريخيّة الرّصينة الكافية لتعزيز ثقة الأحسائيين بهجرهم التأريخية، فكيف إذا استنطقنا أحساء بني عبد القيس بمدنها وقراها وقبائلها ورجالها وشعرائها ومزارعها وجبالها وهجرها ومسجدها الأعمق تأريخاً في جواثا، والتي أُكتشفت آثاره الأصلية مؤخّراً تحت المسجد المعروف سابقاً للسواح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى