أقلام

حوارية (٥٥)

زاهر العبدالله

هل قانون السببية ينطبق على الخالق؟
كان الحوار على منهجية الملاحدة في إنكار الخالق ومراعاة للاختصار سأسلط الضوء على ما أوصلنا إلى هذا السؤال.

المتكلم: أنا لا أحب التهكم والاستهزاء بالملاحدة إذا لم نعرف ما يذهبون إليه من فكر .
الجواب: عندنا جملة من الأمور يتكيء عليها الفكر البشري في المعرفة منها:
١-قانون السببية (العلة والمعلول)
٢-قانون التضاد بفروعه (الملكة والعدم – التضايف – تناقض الزمان والمكان وووو …) كثيرة لا مجال لذكرها الآن
٣-قانون النظم أو ما يسمى قاعدة النظم في الوجود.
٤-قانون حساب الاحتمال في وجهيه: الاستقرار التام والاستقرار الناقص في تحصيل المعرفة.
وغيرها دون الخوض في التفاصيل.
تجد الملاحدة بينهم حرب كلامية في تقوية جانب وتضعيف آخر فلا تكاد تخرج بنتيجة واضحة ثابتة بعد قراءة أفكارهم، ولا تيار إلحادي يستطيع أن يبني قاعدة تكون صالحة لنظرية غير قابلة للنقد أو النقض. فأنت كباحث تجد نفسك لم تملك حقيقة خالية من التناقضات في أي اتجاه إلحادي أقصى ما تنتهي إليه لا أدري، وهذه إحدى إفرازات الاتجاه الإلحادي.
ذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك بكثير مثل مدرسة دفيد هيوم.
يقول تحت بحث انطباعات الأفكار : الأفكار ذاتها ليست سوى صور عقلية لانطباعات حسية. فمعنى هذا أن كل تفكير بالنسبة لهيوم ينطوي على استقبال لانطباعات، وبذلك يعطي الأولوية للإدراك الحسي في المعرفة. كما أنه ينكر قانون السببية على تفصيل في محله. (١)
وجاءت بعد ذلك نظرية الأوتار التي تقول بالإمكان أن يجتمع النقيضان، وكل ذلك في الفرض حتى يومنا الحاضر الذي لا يدركه أي إنسان عادي ولج في أتون البحث الإلحادي. وإن كان هناك حسنة للبحث الإلحادي هو طلب البحث فقط مجرداً دون هدف حقيقي وكأنه بحث خلف المجهول، بخلاف البحث الإسلامي الذي هو بحث خلف معلوم وكل ما هو موجود هو من آثاره سبحانه فمن عجائب خلقه أنه خلق الذرة والمجرة بنظام دقيق لا يختلط أحدهما مع الآخر. وهذا أصعب سؤال مر عليه الملاحدة في طول أبحاثهم الكلامية، ولا توجد إجابة شافية له حتى الآن يتناوله من كل نواحيه وهو قانون النظم …
فجاء السؤال هنا
هل قانون السببية ينطبق على الخالق؟
الجواب:
هناك جوابان،
الأول: هل هذا السؤال صحيح معرفياً؟
نقول من باب التنزل:
هل كل صانع بالضرورة يشبه ما يصنعه أي من سنخ صانعه؟
نعطيك مثال مادي صانع الكمبيوتر والسيارة والأجهزة الذكية، وغيرها من المصنوعات هل بالضرورة تكون من سنخ الصانع؟
طبعاً لا. اعتمد على ذكائك في الباقي.
الجواب الثاني
العقل البشري بطبيعته محدود مثل أية حاسة من حواس الإنسان، مثل
البصر له حد فلا يستطيع رؤية الكائنات المجهرية إلا بواسطة وهذا ما يثبته العلم الحديث. كذلك العقل محدود لوجود أسرار لم يتم الكشف عنها حتى الآن. ويبقى المجهول والأمور التي لا تفسير علمي دقيق لها عجز العلم حتى الآن عن كشفها ويمتد ذلك في أكثر الصعد العلمية
وهنا نقف أمام أمرين لمعرفة ماهية بعض أسرار الكون في حل هذا الإشكال.
-أما أن نقول بالصدفة وقد أثبت العلم والفلاسفة والعلوم الحديثة أن الصدفة لا طريق علمي لها بل هي محض خيال لا أكثر
-وأما نقول هناك قوة عاقلة واعية غير مسبوقة بشيء وقد سماها البعض المصمم العظيم أوجدت هذا الكون كله وهذا كلام بعض الفلاسفة. ويقابل هذا الكلام في النظرية الإسلامية أن من أوجد هذا الكون هو الخالق القادر العليم الخبير والبصير وهو بكل شيء محيط.
وإذا رجعت للخطاب القرآني تجد لغة لم يسبقه إليها أحد تدل على هيمنته سبحانه على الخلق أجمع جاءت بلسان التحدي، وخذ بعض الأمثلة على ذلك
قال تعالى:
﴿وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا عِندَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعلومٍ﴾[الحجر: ٢١]
وهذا تحدٍّ لا يستطع كائن في هذا الوجود أن يدعيه ولم تسبقه ديانة نسبته لغير الله سبحانه.
دليل اخر
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبعُ وَالأَرضُ وَمَن فيهِنَّ وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلكِن لا تَفقَهونَ تَسبيحَهُم إِنَّهُ كانَ حَليمًا غَفورًا﴾[الإسراء: ٤٤]
التصريح أن كل الموجودات لها تسبيح لخالقها ولكن لا تفقهون تسبيحهم. هذا الخطاب لايتصوره عقل بشر ولا يستطيع أحد أن يدعيه إلا من بيده كل شيء وهو الله عز وجل.
دليل اخر:
﴿ثُمَّ استَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلأَرضِ ائتِيا طَوعًا أَو كَرهًا قالَتا أَتَينا طائِعينَ﴾[فصلت: ١١]
خطاب موجه للسموات والأرض، ولا توجد لغة تحدٍّ كهذه مرت في المعارف الإنسانية لكنها جرت على لسان من بيده القدرة الهيمنة والسلطان على ذرات الكون وهو سبحانه وتعالى.
دليل اخر:
﴿أَوَلَم يَرَ الَّذينَ كَفَروا أَنَّ السَّماواتِ وَالأَرضَ كانَتا رَتقًا فَفَتَقناهُما وَجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤمِنونَ﴾ [الأنبياء: ٣٠]
هذه الآيات تحدثت عن بدء الخليقة قبل 1441 سنة، ولا يوجد أية نظرية تحدثت عن بدء الخلق إلا هي في ذلك الوقت، واستمر التساؤل إلى يومنا الحاضر: كيف تكون الكون وكيف بدأ؟ وتعدد النظريات والتوجهات وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني.
نكتفي بهذا القدر وأعتمد على ذكائك في الباقي
إذن الخلاصة:
إن قانون السببية بالنسبة للخالق لا ينطبق عليه لماذا؟ لأنه هو الواجد له فكيف يكون جزءاً منه؟ فهو موجود قبل السببية فهو أيّن الأين بلا أين وكيّف الكيف بلا كيف وهو من خلق الزمان والمكان ولازمان ولا مكان كان.
وهناك جملة من الأدلة تدعم ذلك سنذكر بعضها
الرواية الأولى:
روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يزال الناس يسألون عن كل شئ حتى يقولوا: هذا الله قبل كل شئ، فما كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك
فقولوا:هو الأول قبل كل شئ، وهو الآخر فليس بعده شئ، وهو الظاهر فوق كل شئ، وهو الباطن دون كل شيء. (٢)
الرواية الثانية:
جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من وراء نهر بلخ، فقال: إني أسألك عن مسألة، فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك، فقال أبو الحسن (عليه السلام) سل عما شئت ”
فقال: أخبرني عن ربك متى كان؟ وكيف كان؟ وعلى أي شيء كان اعتماده؟
فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أيّن الأين بلا أين، وكيف الكيف بلا كيف، وكان اعتماده على قدرته “. فقام إليه الرجل فقبل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن علياً وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقيم بعده بما قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنكم الأئمة الصادقون، وأنك الخلف من بعدهم.(٣)

السائل:
لم أفهم المقصود.. هل المقصود السببية تصل إلى مرحلة وتقف؟
الجواب:
نعم تقف. السببية متعلقة فيما يدرك وتصل له حواس الإنسان، وفوق ذلك خارج عن نطاقها، ويقف نظام السببية عندها.
مثال: لو كنت ماشياً في الصحراء ورأيت سفينة فجأة لن يطيق عقلك أنها وُجِدت دون سبب محسوس ملموس لكن ستقف حائراً لو سُُئلت كيف وُجِدت هذه السفينة تقول لا أعلم أقصى ما يمكن قوله أنها وُجدت هنا فجأة، ولا يوجد تفسير علمي يوضح وجودها هنا. وهناك شواهد في القرآن الكريم تؤيد وجود مثل هذه الأشياء الخارجة عن نواميس الطبيعة وبعيدة عن قانون السببية
مثال: رجوع النبي عزير(ع) بعد موته بمائة سنة قال تعالى:
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}البقرة

عودة أصحاب الكهف بعد 309 سنوات قال تعالى:
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) } الكهف
مجيء عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين بطرفة عين قال تعالى
{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} النمل
انقلاب العصى حية وشق البحر لموسى عليه السلام قال تعالى:
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)}الشعراء
كل هذه الشواهد فوق قانون السببية، ويقف حائراً أمامها ولا ميزان له فيها لأنه خارج قوانينه الطبيعية أصلاً.
فقانون السببية قائم على العلة والمعلول فوجود الإنسان جاء نتيجة وجود الأبوين ووجد النهار والليل والرياح والفصول الاربع بسبب دوران الأرض حول محورها ودورانها حول الشمس ودورانها هي. والشمس في مسار واحد كما قال تعالى ﴿لَا الشَّمسُ يَنبَغي لَها أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسبَحونَ﴾[يس: ٤٠]

السائل: ما الفرق بين ما ذكرت، وما يقول به اللادريون، والذين إذا تم سؤالهم عن وجود الخالق، قالوا لا ندري.
كأنك تقول، إننا في الفكر الإسلامي لا نعلم ما هو قبل الخالق، فبالتالي نؤمن بوجوب وجود الخالق.
الجواب: اشتباه اللادريون جعلوا ميزان المعرفة هو العقل وحده وقد أثبت العلم أن العقل محدود لا يمكن أن يكون هو وحده الميزان وما يصلون له مجرد الاحتمال نعم هو إحدى أدوات الكشف لكن ليس وحده الميزان في المعرفة، ولذا الإسلاميون عندهم كشف يقيني قاطع وهو الوحي السماوي المتمثل في صور شتى ذكرها القرآن الكريم، ومن أبرزها الوحي. وفي الديانات الأخرى يسمى ملاك الوحي. فمصدر المعرفة عندنا في الغيبيات هو الحق سبحانه وبهذا نملك اليقين بأنه واجب الوجود لذاته وكيف عرفنا ذلك؟ من خلال بعثه للأنبياء والرسل ليخبرواالناس عما جهلوا به من بعض الغيبيات.

قال تعالى:
﴿وَما كانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلّا وَحيًا أَو مِن وَراءِ حِجابٍ أَو يُرسِلَ رَسولًا فَيوحِيَ بِإِذنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكيمٌ﴾[الشورى: ٥١]
وجعله بشيرا ونذيرا حيث قال تعالى:
﴿… وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسولًا﴾[الإسراء: ١٥]
ونختم الحوار أخي الكريم برواية في القول الفصل في جواب سؤالكم وهي:
سأل الإمام الرضا عليه السلام رأس الجالوت عمران الصائبي الذين عندهم العقل هو الميزان الوحيد للكشف عن اي معرفة:
فقال: سل يا عمران: قال: يا سيدي ألا تخبرني عن الله عز وجل هل يوحد بحقيقه أو يوحد بوصف؟ قال الرضا عليه السلام:
إن الله المبدئ الواحد الكائن الأول لم يزل واحداً لا شئ معه، فرداً لا ثاني معه، لا معلوماً ولا مجهولاً ولا محكماً ولا متشابهاً ولا مذكوراً ولا منسياً ولا شيئاً يقع عليه إسم شئ من الأشياء غيره، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون ولا بشئ قام ولا إلى شئ يقوم ولا إلى شئ استند ولا في شئ استكن، وذلك كله قبل الخلق إذ لا شئ غيره وما أوقعت عليه من الكل فهي صفات محدثه وترجمه يفهم بها من فهم.(٤) .
انظر لكلمات الإمام عليه السلام فهل تُدرك بالعقول أم يقف العقل حائراً من عمق هذا الكلام العجيب المصفوف المرصوف؟ فهم من أهل بيت نزل في بيوتهم الوحي فلا غرابة أن يخرج منهم هذا القول .
أرجو أن أكون رفعت عنك غموض السؤال والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يكفي هذا المقدار من الجواب
………….
المصادر
(1) الوكيبيدا
(2) ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٣ – الصفحة ١٩٠٣
(3) الحاشية على أصول الكافي – رفيع الدين محمد بن حيدر النائيني – الصفحة ٢٩٣
(4) عيون أخبار الرضا (ع) – الشيخ الصدوق – ج ٢ – الصفحة ١٥٤

١١ / ١١ / ١٤٤١ هـ https://t.me/zaher000

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى