أقلام

عندما تكون الشاعرة فراشةً مسكونةً بالنور

علي أحمد المحيسن

إن ولوجنا عالَم شعر نون النسوة من الشواعر اللاتي عزفن على ناي القوافي، وكتبن الشعر بلغة الأنثى الشاعرية ولوجاً ينبغي أن يكون متصفًا بالحذر ؛ حتى لا نقع في فخ ظاهرة (المعلِّقين) ونكون نحن من أولئكَ المعلقين السابحين في فضاء العالم الافتراضي ممن يصفِّقون لكل من هبَّ ودبَّ دون حساب ولا دليل، كما بينت ذلك الكاتبة حنان بيروتي عبر مقالها الموسوم بعنوان: (شاعرات “المعلِّقين” في ظاهرة ثقافية محاطة بالسكوت)، جاء عنوان ذلك المقال في قبال (شعراء المعلقات) الذي ألقت الكاتبة فيه اللائمة على النقاد الذين يمارسون المجاملات النقدية، ويستعرضون الآراء المادحة والمغشوشة مساهمين في إبراز الكثير ممن وقعن في فخ الشعرية الكاذبة، مؤكدة بأن الزمن كفيل بغربلة النتاج الأدبي.

وحتى لا أقع في مثل هذا الوهم الافتراضي أقول لكم : أحسب أنني للحقيقة مجانبٌ إن قلتُ بأنني بحاجة لهذا الاحتراز ؛ باعتباري أمام تجربة شاعرة حقيقية تمتلك الإبداع الحقيقي استطاعت أن تلج عالَم الشعر بشاعرية متينة أفرزت لنا نصوصاً أنثوية ثمينة يمكنها أن تكون عنواناً من عناوين الشعر العربي يوماً ما، وتضيف نفسها لقائمة الشاعرات المبدعات، إنها الشاعرة آيات العبد الله؛ فيحفظ التاريخ لنا اسمها تماماً كما حفظ لنا الخنساء، ووﻻدة بنت المستكفي ونازك الملائكة، وغيرهنّ من الشواعر العربيات الخالدات، إيمانًا مني بأن الزمن كفيل بغربلة النتاج الأدبي.

ولدى استعراضي لنصوص الشاعرة آيات العبدالله، استوقفتني عدةُ ملامحَ وسماتٍ وتقنيات شعرية في تجربتها التي أودعتها في قلب قصائدها، ولا سيما الفصحى منها، وهي ملامح ترسم وجه التجربة الشعرية لشاعرتنا العبدالله، سنستعرضها معاً.

أما اللغة الشعرية فهي لغةُ أنوثةٍ طاغيةٌ بكل تفاصيل الحروف ومعاني الكلمات، فشاعرتنا العبدالله تكتب النص بكل اقتدار، وتكثر من كاف الخطاب وهائه في تجانس أدبي بديع، إلا أنها مع ذلك كله لا تتجاهل ذاتها، فتعبّر عن غيرها بحذر يفصل بينها وبين الآخر المخاطب؛ كي تبقى محافظة على طابعها المعبر عنها، كما أنها شاعرة مطبوعة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، قواميسها الشعرية لا تعرف معاني الصناعة الشعرية بأي وجه من الوجوه، كما أنها تلج عالم الحداثة بمشعل الأصالة مستعينة بتقنية شاعرية رشيقة محبوكة بهندسة أنيقة وذكاء شعري ملحوظ.

وبالرغم من أن نصوص شاعرتنا تعبر عن ذاتها بذاتها، إلا أن سماتها الشعرية والشاعرية جاءت متفاوتةً ومتناثرة في نصوصها، وتتضح أكثر في القصائد التالية: قصيدة (طفلةٌ في العشرين)، وقصيدة (رأيت فيما يرى الغافي)، وقصيدة (على عتبات النسيان)، وبعض النصوص المتفرقة الأخرى غير المعنونة.

كما أن نصوص شاعرتنا تتسم بتماسك اللفظ العميق المعنى والبناء اللغوي المتين، حتى أنك لا تكاد تجد ثقوباً أو تجاويف، أو تتلمس ثغرات أو فجوات، أوترى حشوًا أوحشداً رتيباً في النصوص، تنبيك عن ذلك قصيدة: (أحُنًّ للفتاتك الحانية).

كما أن الشاعرة تستدعي الرمز التاريخي وتتعامل معه بذكاء، مع توظيف مقنن لتلكم الرموز المستدعاة من قلب التاريخ الذي يقدم دلالات على سعة أفق وكثر قراءة واطلاع، ويتضح ذلك في قصيدة: ملكتَ قلبي بين الناي والعودِ. كما أن لغة التصوف بارزة في شعر شاعرتنا كملمح شعري فلسفي يطفو برشاقة شاعرية ودلالات متصوفة تنأى بنفسها عن عالم الغموض والاستغراق في المصطلح، فهي ممارسة صوفية شعرية تنم عن تجربة شعرية مدروسة، ولئن بحثتَ عن هذا الملمح الشعري تجده واضحَ الإيقاعِ بتجلٍّ بيّنٍ في قصيدة ( رأيت فيما يرى الغافي).

وثمةَ محاولةٌ لا بأس بها وجدتُها طافحة بجلاء ويمكن لي أن أعتبرها تقنية واستراتيجية شعرية تأملية وهي الحديث مع الذات أو ما يسمى بالمونولوج المصبوغ بصبغة فلسفية خاضتها شاعرتنا العبد الله كتجربة لافتة في قصيدة (طفلة في العشرين) تدعو للتأمل، وتنضمّ لأخواتها من التجارب الشعرية الأخرى لدى شاعرتنا كالتمرد على الكلاسيكية، وكسر التقليدية الشعرية، والانفتاح على التجديد للغوص في بحر الجمال الشعري.

إضافة إلى ملمح شعري آخر وهو ابتعاد نصوصها عن اللغة الخطابية الممجوجة ويتضح ذلك الملمح أكثر في بعض نصوص المناسبة كقصيدة: (تلاوة زهرة) التي كتبتها الشاعرة في رحاب السيدة الزهراء عليها السلام .

ختاماً أقول إنه وبالرغم من أن بعض النصوص تتسم بالقصر المقنن حيث جاءت على شكل وجباتٍ خفيفةٍ مناسبةً لعصر السرعة المعاش إلا أن لغتها الشعرية جاءت سهلةً ممتنعةً بعيدةً عن الغموض، فهي نصوص ذات مفردات شاعرية منتقاة بعناية، مما يدلّل على أن لدى شاعرتنا القدرةَ على كتابة النصوص المليئة بالدهشة الشعرية، وأما التمكن من التنوع والتعدد فتراه واضحاً في تنويعها البحور الشعرية، وطرقها الأغراض الشعرية باستخدام الفصيح والشعبي ، وهو ثراء نوعي لا تمتلكه أي شاعرة.

وأستغل هذه المنصة كي أدعو الشاعرة لزيادة كثافة الجرعة الحقيقية بجرأة مبتكرة؛ حتى تكسر زجاج الاختفاء خلف مجاز الحروف؛ لتعانق نصوصُها الحياةَ عناقاً حقيقيًا دون مساحيق ولا أقنعة تجميل.

كما أدعوها لأن تلج جديد الشعر بكلها؛ كي تنتصر للأنثى منهجية وأغراضاً، لا غرو فثمة الكثير والمثير مما لم يُطرقْ بابه ولم يستجدَ سحابه ولم يُتسوّر محرابه أو يستوفى في الشعر نصابه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى