أقلام

معضلة أخلاقية.. ‏Ethical Dilemma

أمير الصالح

في مقتبل العمر سمعنا النقد اللاذع من جهة، والتأييد المفرط من جهة أخرى لمقولة ” الغاية تبرر الوسيلة ends justify means”.
ومع تقادم الأيام ودخول معترك الحياة عاصرنا أموراً ومشاكل وظروف عمل متقلبة وشؤون حياة مذبذبة، تلمسنا فيها أن الحياة يوم ما تُخضع كل إنسان تحت مقصلة المحك الأخلاقي.
بعض تلكم الأسئلة أثارت في النفس نوع من المعضلة الأخلاقية العميقة في اتخاذ قرارات معينة، وهنا وددت الكتابة عنها لتكون بمثابة تفكير بصوت مسموع واستكشاف حقائق التمحيص.

١- ‏الجار المزعج

قد يعز عليك إذا تطورت الإزعاجات المتكررة والصادرة عن جارك لانتهاكه حقوق الجيرة. وما يزيد شعورك اعتصاراً وألماً وغبناً هو أن يكون جارك المزعج من أبناء مجتمعك أو ممن يُصلي معك في المسجد ذاته. فقد يكون الإزعاج على شكل أصوات عالية من آلة صوتية أو أصوات أطفاله أو أصوات زائرية بالذات إن وقعت في أوقات متأخرة من الليل، مما ينتج عنه اضطراب في نومك، أو أن يقف جارك المزعج سيارته متعمداً أمام بوابة مرآبك أو يريق جارك الماء في الشارع ليل نهار دون أي اكتراث لما يسببه هذا الفعل من مشاكل صحية وبيئية.
تقع في حيرة بين أن تشتكي عليه للسلطات الرسمية ليتم تحرير مخالفات وإيقاع غرامات مالية عليه، وبذلك تردع سلوكياته غير المسؤولة أو تتفادي الشكوى الرسمية وتكتفي بالنصح المتكرر على أمل أن يرتدع يوماً ما! وكلا القرارين يجعلك في حيرة من تبعاته على أكثر من صعيد.

٢- في موقع العمل

في الطب كما في المهن الأخرى تقع مواقف محرجة وتفرز أسئلة عميقة. فلو كنت أنت أو أنا في مدخل قسم الطوارئ بمستشفى ما، فهل نكتفي وإياك بتطبيق شعار ” الأول وصولاً، الأول استحقاقاً بالخدمة first come ,first served “ . هذا هو الواقع والممارس علي الأغلب. إلا أن الصورة تصبح أكثر تعقيداً عندما تبرز أن هناك من الناس من هو الأكثر احتياجاً لخدمات الإسعاف ولا سيما في ظل الوضع الطارئ بسبب فيروس كورونا،
وإن كان المريض الواصل هو آخر الواصلين للطوارئ. حينها سيتم شطب شعار ” الأول وصولاً، الأول استحقاقاً بالخدمة ” و يتم تفعيل شعار ” الأكثر حاجة هو الأولى بالخدمة”.
ولك أن تتخيل الصورة في مشهد أكثر تعقيداً، وهي أن جهاز التنفس الصناعي الوحيد تم وضعه على رجل كبير السن منذ عدة أشهر، وأُدخل للتو رجل في ريعان الشباب بحاجة لذات الجهاز . فما هو القرار الأكثر حكمة والأقرب للقيم الأخلاقية:
– هل هو نزع جهاز التنفس الوحيد من المريض المسن وتركيبة على الشاب اليافع؟ أم
ترك الوضع على ماهو عليه؟ أي: الاستمرار في استخدام الجهاز على الرجل المسن وترك الشاب يواجه مصيره؟

اعلم بأن هناك نقاش طويل جداً بين أصحاب المدارس الأخلاقية لهذا السيناريو وما شابهه،وقد واجهت بعض الدول كإيطاليا وفرنسا وبريطانيا نفس المعترك والنقاش المحتدم إبان الموجة الأولى لجائحة الكورونا. إن ذلك النقاش أشبه ببرنامج Hard Talk.

في عالم السينما تُقدم ذات الفكرة بقوالب سيناريوهات متعددة، وكنت شخصياً إلى الأمس القريب. أعتقد أن هذه المعضلات والنقاشات لا يمكن طرحها مع الأبناء الأطفال والمراهقين وإنما يمكن جدولتها في سن أكثر نضجاً، إلا أنه اتضح لي بأن بعض المراهقين والفتية من خلال مشاهداتهم السينمائية لأفلام عدة مثل فيلم الدائرة(The circle movie) قد تم تشبيع المشاهد فيها بفكرة أنه في حالة الخيارات الصعبة وتزاحم الأمور فإن الحياة خيار بيد صانعه، وفي الحالة الموصوفة لمشهد المريض المسن والمريض الشاب فإنهم يصوتون في أن يذهب جهاز التنفس الصناعي للأصغر سناً طبقا لفلسفة البعض من المدارس الفلسفية.

٣-التكنولوجيا بين يدي الأطفال بين الصناعة والصياعة

معظم الآباء والأمهات المهتمين بتربية الأبناء تربية منضبطة تعتريهم نظرات ريبة وحالات شك نحو عالم الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي. و لعل ما يعزز توجس الآباء والأمهات بالريبة نحو العالم الرقمي هو ما يقرؤون ويسمعون من خلال برامج وثائقية وعلمية وتسريبات صحافية من قنوات عالمية مثل BBC, DW, France 24 و CNBC عن حجم التفسخ والانحلال من جهة، وحجم الاستنزاف للوقت بتوظيف إشباع غريزة الفضول. فضلاً عن هذا وذاك ما يروى من قصص ضحايا الابتزاز الإلكتروني والتهكيرات. في المقابل يعلم معظم الآباء علم اليقين بأن “التحول الكبير” للعالم مبني جملة وتفصيلاً على الرقمنة digitalization والتطبيقات الذكية. فأضحى من ضرورات الحياة العصرية والمهنية والعلمية والاقتصادية والتجارية إجادة فنون استخدام وتوظيف التطبيقات. وهنا تمر أيام وليالي طويلة على الآباء والأمهات الأوفياء في ابتكار طرق ضبط استخدام وولوج عالم الإنترنت والتطبيقات الاجتماعية.
إلا أن عدد كبير من أرباب الأسر يعيشون الحيرة الأخلاقية في الأذن بالسماح للأبناء بالتصفح في النت لسهولة اختراق المراهقين والأطفال من خلال الإعلانات التجارية المرافقة للمواد المنشورة في النت.

٤- صحيح، مقبول، خاطئ

عندما يلتحق الموظف الجديد بشركة ما فإنه يحاول أن يتفهم ويفهم ثقافة الشركة ويقرأ الممارسات المعمول بها ويصنف الأعمال بين الصحيح، والمقبول والخاطئ. فلو كان الموظف الجديد ملتحقاً في شركة تأمين فقد يلاحظ بعض الممارسات وقد يكون بعضها تقارير مفتعلة، وهذا الأمر يرتطم بقيمة أخلاقية تندرج تحت موضوع الكذب. إلا أن ذلك الفعل يُعد ضمن ثقافة شركة التأمين في ظروف ما عمل مقبول. هنا يدخل الموظف في صراع داخلي مع نفسه بين التزام الصمت والمضي في ذات الممارسة التي أقرتها الشركة حفاظاً على وظيفته أو الاستقالة والانتقال أو البحث عن عمل في مكان آخر. ولو أن سوق العمل شحيح
والأفق ضيقة، فهل قرار الاستقالة يصمد أمام قرار الاستمرار مع نفس الشركة، وقد يتحول إلى الولوغ في ذات المستنقع من المخالفات؟! وهنا تأتي مناقشة مفهوم ” العمل بنية ما يعادل التنفيذ / act of mission equals act of commission “.

٥- القوانين البشرية مقابل الضمير الانساني

في بعض الدول تجعل الزائر أو المقيم في حالة ترقب كامل لكل ما يدور حولة. فتراه يجفل أو يتردد من أن يمد يد المساعدة لمن يحتاجها في مواقف عدة، كأن يحتاج شخص لإنقاذ مصاب في حادث أو حماية متعرضة لتحرش أو… أو … إلخ. إلا أن المسائلة القانونية المطولة والمرهقة في بعض الدول تجعل ممن يود أن يمد يد المساعدة في حالة تردد دائم، وينتهي الحال إلى إعراضه عن العمل الأخلاقي النبيل. وهذه أيضاً حيرة أخلاقية كبيرة، فقد ينتج عن كثرة الصدود تبلد الحس الإنساني وضمور الشعور بالانتماء للمجتمع الإنساني وزيادة حالات الانطواء الفردي.

٦- العلاج أسوأ من المرض

‏Cure worse than disease “ شعار جعل العالم الصناعي في استقطابات متصادمة ولاسيما فترة الذروة في بروز الموجة الأولى لجائحة كورونا. وسجل ارتفاع عدد البطالة في بعض دول العالم ارتفاعاً جنونياً مخيفاً. فكان الكثير من العاملين بين مطرقة الفقر وسندان فيروس كورونا. فكان بحق كلا الخيارين خيار محير أخلاقياً.

بناء القرار الأخلاقي حول محور التحليل المنطقي والاستقراء أو بناء القرار الأخلاقي حول الفعل والنتائج أو حول الإحساس والعاطفة أو القيم التي يؤمن بها الشخص/المجتمع أمر يدعو لتمحيص دقيق ونقاشات جادة وتعاطي اجتماعي ناهض.

في الختام، حتماً الأسئلة ذات العلاقة بالمعضلات الأخلاقية ethical dilemma في مواضيع ومواقف حياتية كثيرة جداً ومتشعبة، إلا أن طرحها ونقاشها بشكل موضوعي وهادئ في الأوساط الاجتماعية
والروحية الواعية ولاسيما أثناء وبعد الجائحة الحالية سيبلور مقاربات وسلوكيات عملية أكبر، وقد يتولد من تلكم النقاشات أعراف اجتماعية جديدة تكون مقبولة لدى الجميع أو يجذر لممارسات قائمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى