أقلام

ولادة الكاروكي

د. علي القضيب

في علم وفن الإدارة يعد التخطيط ركيزة أولى تسبق التنظيم والقيادة، فالتخطيط الجيد يوفر الجهد والمال والوقت ويحقق الأهداف، كما أنه يعد تجسيدا لتفعيل العلم والثقافة التي تزين الفرد.

والتخطيط على مستوى البناء هو موازنة بين الإمكانيات والطموحات، وقد تتشكل من خلال الإجابة عن بعض الأسئلة مثل: لماذا أريد منزلا؟ وكم ميزانيتي؟ وهل الوقت مناسبا؟ آخذا في الحسبان تكاليف المرحلة التشغيلية للمبنى، ناهيك عن الصيانة وماذا سيكون حال هذا المبنى بعد عقد أو عقدين من الزمن بعد أن يغادر الأبناء والبنات عش الأسرة ويعتمدوا على أنفسهم.

هذا النوع من الشمولية في التفكير يقطع الطريق أمام الحسرة والندامة التي لربما تعتري المالك مستقبلا.

نحن الآن نعيش مرحلة مختلفة تماما عن أيام الآباء والأجداد، وأعتقد أنه من الأهمية بمكان في ظل المتغيرات الكبيرة والسريعة التي يشهدها المجتمع السعودي على مستوياته المختلفة، سواء الاقتصادي أم الثقافي أم الاجتماعي وما يرافقه من تحول في أنماط الحياة والعمل، حيث بات الجيل الجديد له متطلباته وأنماط سلوك مختلفة تواكب التطور، فمثلا ما قد يمارس من تعديلات بسيطة لمخططات بناء قديمة لم تعد ترتقي لرغبات وطموح إنسان اليوم، خاصة وأن ترشيد الإنفاق والاستغلال الأمثل للموارد أصبح سمة يجب أن تبرز من خلال تخطيط إبداعي مبتكر، فلم تعد كثرة الغرف أو مساحاتها أو ارتفاع الأسقف والفراغات الداخلية ضرورة كما كانت سابقا.

إنني ومن خلال عملي وشغفي في البناء، أكاد أتخيل مرحلة بناء الكاروكي، كما لو كان جنين يحتاج للرعاية والوقت الكافي والاستمتاع بأدق التفاصيل، وهو يتشكل يوما بعد يوم، لأن التغيير في هذه المرحلة غير مكلف، ولذلك فيجب توفير الوقت الكافي للنضج، حتى تتبلور تماما فكرة بيت العمر.

الغريب في الأمر أن المالك يكون مندفعا أحيانا، فيطرق أبواب المكاتب الهندسية، طالبا مخططا ولا يوفر للمهندس بيانات ومعلومات كافية، ويريد –كاروكيا- بناء على زيارة مستعجلة، ويضع الأمر في تصور المهندس.

أنا لا ألوم المالك وقتها، لأن الرغبات والتفاصيل الدقيقة تدور في مخيلة المالك، وعلى المهندس استقصاؤها من خلال أسئلة تتم بين المالك والمكاتب الاستشارية، كما لو كنت تزور عيادة طبيب لتشخيص حالة مرضية.

فالكاروكي ليس مجرد خطوط متقاطعة تحكي توزيع الغرف والفراغات، إنما هو بناء هوية ووطن صغير داخل الوطن الكبير الأم مملكتنا الحبيبة.

أخي المالك، لا تنس أن تحجز غرفة خاصة لك تعيش بين حيطانها أفكارك وأحلامك، بل وصلواتك ودعاؤك، حيث السكينة والسلام الداخلي.

لطالما راودتك أحلام بتشييد قلاع وقصور، ولكن تريث، فقد تتحول هذه الأحلام -لا قدر الله- إلى جبال من الديون والهموم ترهقك، وقد تسحب النوم من عينيك، لذا اعتن بطفلك الكاروكي، تجده بارا بك عندما يكبر وتكبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى