أقلام

کورونا في انحسار ولكن .. التزموا ولا تتقاعسوا

عبدالفتاح أحمد العوض

ورد ضمن توصيات ندوة “فيروس كورونا المستجد وما يتعلق به من معالجات طبية وأحكام شرعية” الصادر عن مجمع الفقه التابع لمنظمة التعاون الإسلامي بتاريخ 16/04/2020م ما نصه:
هنالك ضرورة لحماية النفس وصحة الإنسان فيجب على المسلمين أن يحافظوا على أنفسهم بقدر المستطاع من الأمراض، وقد أوجبت الشريعة الإسلامية إنقاذ الأرواح والأنفس من الهلاك، وجعلت إنقاذ النفس حقاً لكل فرد، بالوقاية من الأمراض والأسقام قبل حدوثها وبالتداوي بعد حدوثها. رفض الإسلام ما يُسمى بمناعة القطيع، والذي يدعو لترك انتشار المرض أولاً والذي سيهلك به الذين يستحقون الهلاك من كبار سن ومن الذين تعددت أمراضهم، لأن في ذلك تقاعس عن المعالجة المطلوبة شرعاً.
وورد ضمن إجابة على أسئلة حول فيروس كورونا من مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله عدة توصيات منها:
من يخـشى أن تنتقل اليه العدوى نتيجة للممارسة أو الاختلاط فيتضرر به ضرراً بليغاً ولو دون الموت يلزمه التجنب عن ذلك، إلا مع اتخاذ الاجراءات الاحترازية اللازمة ـ كالتعقيم واستخدام الكمامة المناسبة والكفوف الطبية ـ بحيث يطمئن معها بعدم اصابته بالمرض، واذا لم يتقيد برعاية ما ذكر وأصابه ما كان يخاف منه فلن يكون معذوراً في ذلك شرعاً.

الحذر اللائق بحجم هذا الوباء من غير هلع واضطراب والأخذ بأتمّ أسباب الوقاية والعلاج منه وفق ما يقرره اهل الاختصاص بعيداً عن الأساليب غير العلمية.
العمل على توعية الآخرين بمخاطر الاستهانة بهذا الفيروس وحثهم على الالتزام بالتوجيهات الصادرة من الجهات المعنيّة وعدم التخلّف عنها.

على ضوء هذه الفتاوى والتوصيات من أعلى مرجعيتين دينيتين في عالمنا الإسلامي، لا بد لنا من وقفة مجدداً لمناقشة بعض المظاهر والسلوكيات الإجتماعية المرتبطة بجائحة كورونا، وما يثيره البعض من إشكالات وأفكار مشوشة قد تكون لها تداعيات وخيمة لا سمح الله، وقد تؤثر على خطط مواجهة هذا الوباء والجهود الوطنية الكبيرة للخروج من هذه الجائحة بأقل الخسائر، والمحافظة على سلامة وصحة الجميع.

يتصرف البعض وكأن مسألة التقيد بالإحترازات المفروضة من الجهات المختصة هي مسألة اختيارية، فمن حقه أن يتخلى من كل القيود أو بعضها متى ما أراد وفي أي مكان، في حين أننا لو قبلنا جدلاً أن له مطلق الحرية في تعريض نفسه للمخاطر لاعتقاده بأنه في مأمن من ذلك، فهل يجوز له من الناحية الشرعية والقانونية أن يكون سبباً في إصابة غيره ممن قد يكونون عُرضةً للمرض الشديد ودخول المستشفى وحتى الوفاة ؟! والإجابة بالتأكيد هي لا وألف لا .. إذاً لماذا نتجاهل هذه الحقيقة ونتراخى في تطبيق الإحترازات؟. هناك نماذج كثيرة تدلل على تجاوزات في مختلف المواقع التي تشهد تجمعات بشرية في شتى المناسبات.

أكتفي هنا بمثال واحد فقط وفيه الكفاية، وهو السلوك الغريب لبعض المؤمنين عند حضورهم لأداء صلاة الجماعة، والذين من المفترض أن يكونوا قدوة لغيرهم في الإلتزام بالتعليمات الرسمية الواجب مراعاتها، والمتوافقة مع التوجيهات الشرعية الصادرة من المرجعيات الدينية العليا حفاظاً على سلامة الجميع ولضمان استمرارية إقامة صلاة الجماعة. أجد للأسف تراخي كبير من قبل البعض وليس الكل في تطبيق الإجراءات الوقائية داخل المسجد وفي التجمعات الدينية والإجتماعية الأخرى، فتشاهد للأسف من لا يكترث بارتداء الكمام الواقي أو سحبه للأسفل وكشف أنفه وفمه أحياناً قبل أو أثناء إقامة الصلاة! فما فائدة ارتداء الكمامة إذا لم يتم الإلتزام بتغطية أهم مصدر لانتقال العدوى بالفيروس في مكان مغلق ومع حضور أعداد كبيرة من المصلين؟
لدي توجس والله أعلم أن هناك من يتخذ من المشاهد الحية المنقولة من كربلاء المقدسة للحشود الكبيرة من زوار الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام كدليل على عدم أهمية التقيد بالإجراءات بحجة أن الله سيتكفل بحفظ عباده المؤمنين، بل تردد على مسامعي وقرأت في بعض وسائل التواصل الإجتماعي إيحاءات من هذا النوع. أقول لهؤلاء الأحبة: أننا لا نشك أبداً ولا نستغرب أن تكون للألطاف الإلهية دورها في حماية هذه المجاميع الوالهة من الزوار من خطورة هذا الوباء كرامةً لسيد الشهداء أبي عبدالله الحسين (ع) ولكن.. يجب أن لا نركن إلى إيماننا وعواطفنا فقط، ونتجاهل الحقائق على أرض الواقع والثوابت العلمية، فهذا خلاف العقل ولا ينسجم مع المفاهيم الدينية الصحيحة، فالإحصاءات الرسمية المعلنة تؤكد أن العراق يتصدر قائمة الدول العربية، ويحتل المرتبة الـ 22 عالمياً في أعداد الإصابة بكورونا، حيث تجاوز عدد الإصابات المؤكدة في العراق حتى تاريخ إعداد هذا المقال أكثر من مليون وتسع مائة ألف إصابة (1,902,407)، وحوالي 21 ألف وفاة (20,934). هذه الأرقام تعادل حوالي ثلاثة ونصف ضعف الأعداد بالمملكة العربية السعودية المتقاربة مع العراق من حيث التعداد السكاني.

حديثي عن عدم الإلتزام بتطبيق الإحترازات في المساجد لا يعني أنني أتجاهل المظاهر السلبية الكثيرة الموجودة في المواقع الأخرى، كالمقاهي والمطاعم والأسواق وخلال مراسيم التشييع وفواتح العزاء وقاعات الأفراح والمناسبات العائلية وغيرها، إنما أردت الإشارة إلى أرقى نموذج يُفترض أن يتحلى فيه المتوجهون لبارئهم بالعبادة والدعاء بالوعي والإلتزام والإنضباطية وهم يؤدون أهم الفرائض الدينية اليومية.

يجب الإنتباه أن زيادة أعداد المحصنين وانخفاض مؤشر الإصابات والوفيات لا ينبغي أن يكون مبرراً للبعض للتقاعس وترك الإجراءات الوقائية، ما لم تكن هناك تعليمات بذلك من الجهات الرسمية المختصة عند الوصول للمناعة المجتمعية، وانحسار الجائحة وتوقف الخطورة التي يشكلها علينا. هناك تجارب عديدة في الدول الأخرى تثبت أن الفيروس قد يعود بموجات أشد وأخطر بسبب ظهور متحورات جديدة إذا لم يكن هناك وعي والتزام. وحسب وتيرة التلقيح المتسارعة بالمملكة يتوقع الخبراء والمختصون أن نصل للمناعة المجتمعية بنسبة تحصين 70% في غضون أقل من شهرين، وحتى إذا وصلنا إلى هذه المرحلة الباعثة على الإطمئنان فيجب الإستمرار بتنفيذ التعليمات الرسمية بهذا الشأن، والمبنية على قواعد علمية وطبية موثوقة وترك الإجتهادات الشخصية والآراء الأخرى من مصادر مجهولة أو غير معتمدة.

لماذا نشدد على هذا الأمر؟ لأن البعض يتلقى أي معلومة من دون تحقيق أو البحث في تفاصيلها أو على الأقل ترك هذا الأمر لأهل الإختصاص. فبعض خبراء الوبائيات يشيرون إلى أن الوصول إلى نسبة 70% ليس رقماً ثابتاً ونهائياً، لأن هذا يعتمد على نوع المتحور ونسبة انتقاله بين البشر، ففي حين أن فيروس كوفيد-19 الأساسي يمكن الخلاص منه بنسبة مناعة مجتمعية 70% ، فإن متحور دلتا الذي ينقل فيه المصاب الواحد به العدوى إلى 5 أو 7 اشخاص آخرين يحتاج إلى مناعة مجتمعية بنسبة 90% وربما أكثر. كما لا يمكن تجاهل التفاوت الكبير في نسب التحصين بين الدول، وعند الوصول للنسبة المطلوبة ضمن حدود دولة معينة الذي بتنا قريبين منه في السعودية، فإنه تظل هناك مخاوف ومحاذير من خطورة عودة الفيروس بمتحورات جديدة من دولة ثانية، ولكن من المؤكد أن نسبة تلك المخاطر تتضاءل كلما ارتفعت نسبة أعداد المحصنين بجرعتين لدينا بالمملكة، حيث أثبتت اللقاحات المعتمدة هنا فعاليتها ضد المتحورات الجديدة حتى الآن.

خلاصة القول أن الجائحة نحو الإنحسار بمشيئة الله تعالى شريطة الإلتزام بالتوجيهات الصحية الصادرة من الجهات المسؤولة، وعدم التقاعس والتراخي لأن التوقي من الفيروس واجب شرعاً، وينبغي الإستفادة من وسائل الإعلام والنشر ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر الوعي الطبي، والأحكام الدينية المتعلقة بمواجهة هذه الجائحة بشكل صحيح. محاربة الأخبار الكاذبة وغير الموثوقة، تجنباً للآثار السلبية المترتبة على ذلك، قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[سورة ق، 18].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى