أقلام

سمات المرجع الراحل السيد الحكيم (قده)

الشيخ عبدالغني عرفات

جاء في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام :
“وأَمَّا حَقُّ سَائِسِكَ بالعِلْــــــــمِ فالتَّعْظِيمُ لَهُ والتَّوْقِيرُ لِمَجْلِسِهِ وَحُسْــــنُ الاسْـــــــــــــتِمَاعِ إليهِ وَالإقْبَــــــالُ عَلَيْه، وَالْمَعُونةُ لَهُ عَلَى نفْسِكَ فِيمَــــا لا غِنَى بكَ عَنْهُ مِنْ الْعِلْمِ بأَنْ تُفَرِّغَ لَهُ عَقلَكَ وَتُحْضِرَهُ فَهْمَــــــــــــــكَ وتُزَكِّي لَهُ قَلْبَكَ وتُجَلِّي لَهُ بَصَرَكَ بتَرْكِ اللّذَّاتِ وَنقْص الشّهَوَاتِ، وَأَنْ تَعْلَــــــــــمَ أَنَّكَ فِيمَا أَلقَى إلَيْكَ رَسُولُهُ إلَى مَنْ لَقِيَكَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ، فَلَزِمَكَ حُسْنُ التَّأْدِيَةِ عَنْهُ إلَيْهِمْ، ولا تَخُنْهُ فِي تَأْدِيَةِ رِسَـــــــــــــــالَتِهِ وَالْقِيَامِ بهَا عَنْهُ إذا تَقَلَّدْتَهَا. وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ.”
وأضع بين يدي القارئ الكريم بعض السمات التي يتميز بها درس سماحته، فهي المساحة التي عرفتها منه ولم اختبر غيرها. وهذه السمات منها ما يتعلق بمحتوى ومادة الدرس، ومنها ما يتعلق بطريقة أدائه:
١- الحرص على مواصلة الدرس:
فكانت تظهر على محيا سماحته علامات التضجر من كثرة التعطيل، وقد ذكر قصة يوم الأربعاء ٢٧ جمادى ١٤٣٩ في نهاية درسه بمناسبة تعطيل الدرس لمدة أسبوع كامل فقال : (ضاع كتاب للسيد [الحكيم ]فوجده من أرجعه إليه فتعجب السيد أنه كيف خرج من عندي إلى غيري !! ثم علق قائلاً: هذا الكتاب أهداني إياه أستاذي في العربية بشرط أن لا أعطل في وفاة الزهراء عليها السلام !!. فكان الاهتمام بالدرس في تلك الأيام فإذا لم يكن عندنا مجال أن ندرس فلا أقل من أن نطالع أو نرجع إلى دروسنا السابقة فنتقنها أو نرى الملاحظات حولها ، فإذا لم يكن لدينا عمل أو نشاط ديني من قبيل إقامة المجالس ورعايتها أو تشجيع المؤمنين عليها فليكن لدينا عمل لا فراغ ” . وكان الكتاب شرح قصيدة ( بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ..).
لقد كان متفانيًا في درس الفقه ، يقول أيضا : ( بعد خروجي من السجن بسنتين قال لي أحدهم : على رجال الدين أن يشتغلوا بمشروع آخر .. لأنه يرى أن الفقه ليس فيه مسائل خلافية !!! والمسائل العملية متقاربة !! لكن ما أدري ما أقول له؟!!) (١).
٢-البراعة اللغوية والنحوية:
ليس بدعًا أن تجد الفقيه مجتهدًا في النحو وعلوم اللغة فهو من أسس الفقاهة، ولكن تتفاوت هذه الملكة من فقيه إلى آخر ، ويبهرك السيد الأستاذ بدقائق نحوية ولغوية تفوت الدارس الذي قد درس المتون عن قريب كيف بمن قد مضى عليه خمسون عامًا أو أكثر .
قال : الفاء عند النحويين تدل على التعقيب بلا مهلة.
لكن إذا تأملنا نجد أن الشرطية إذا كان جزاؤها طلب فإنه يقرن بالفاء ولكن هذه الفاء فاء التفريع وليس العطف كما في الرواية ( فإن بليت بها فعرفها).
وفاء العطف مثل : جاء زيد فعمر وهي التي تدل على التعقيب بلا مهلة في قبال ثم التي تدل على التعقيب مع المهلة.
أما فاء التفريع فهي التي تكون بين العلة والمعلول أو بين الشرط والجزاء.
وفاء العطف تدل على الترتيب أيضا مثل : جاء زيد فعمر .
ومن أمثلة فاء التفريع التي لا تدل على التعقيب قوله تعالى ( وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) فأغرقناهم فالفاء هنا فاء تفريع أي سبب إغراقهم هو التكذيب وفاء التفريع تكون بين علة ومعلول ولا تدل على التعقيب بلا مهلة كفاء العطف ، فإن إغراقهم لم يكن مباشرة بعد التكذيب بل بعد سنوات.
ومن أمثلة عدم دلالة الفاء على التعقيب بلا مهلة قول الفقهاء ” إذا سافر وأفطر فعليه القضاء ” فعليه القضاء لا يدل على الفورية بل تدل على تفرع القضاء على الإفطار ولا تدل على أنه يجب عليه القضاء مباشرة” (٢).
٣-ملاحقة الإجماعات:
يدعى الإجماع في كثير من المسائل ولكن بتتبع من السيد الراحل تنفصم عرى ذلك الإجماع.
٤-التتبع لتاريخ القواعد الفقهية:
القواعد الفقهية قد تكون مبنية على حديث نبوي مروي بطريق من غير مدرسة أهل البيت، فلماذا لم تبن القواعد الفقهية على أحاديث مروية من طريق أهل البيت ؟ ألسنا نقول إن الحديث توقف عند المدارس الأخرى ولكنه استمر عند أئمة أهل البيت عليهم السلام ٢٥٠ سنة فلماذا نبني القواعد الفقهية على أحاديث لم ترو من طريقهم ؟
اقتربت منه رحمة الله عليه وسألته فقال : مثل ماذا ؟ قلت مثل قاعدة( الطلاق بيد من أخذ بالساق) فقال : ليس لأننا ليس عندنا أحاديث كثيرة فاضطررنا للأخذ بأحاديث نبوية لم ترو من طريق أهل البيت بل لأن العلامة كان يحشي ويعلق على بعض كتب أهل السنة وفي هذه الكتب تلك القواعد، فظن من جاء بعده أن العلامة استدل بتلك القواعد، كلا بل لأن تلك الكتب كان أصحابها السابقون على العلامة من أهل السنة يستدلون بهذه القواعد فظن من جاء بعده من الشيعة أن العلامة يستدل بها أيضا، وهكذا دخلت هذه القواعد المبنية على أحاديث نبوية إلى يومنا هذا في كتبنا الاستدلالية ، وإلا فإن عندنا في مصادرنا ما يشابه تلك الأحاديث بل وأكثر تفصيلاً ، بالإضافة إلى أن تلك القواعد مختصرة ويسهل حفظها (وفيها من التسجيع أو التنغيم ما يسهل حفظها).
كان هذا مفاد جوابه والذي كان جوابًا على إشكال في أحد ( القروبات) العلمية وقد كلفني أحدهم بسؤال السيد الحكيم رحمته الله عليه وقد كان جوابًا شافيًا .
٥-النسخ والمطبوعات:
لا يكتفي الأستاذ بنقل الحديث من نسخة مطبوعة كالوسائل بل يذهب أحيانا إلى النسخ التي اعتمد عليها صاحب الوسائل كالكافي والتهذيب ليجد التوافق والاختلاف بين الأصول، بل لا يثق أحيانا في الأصول المطبوعة من الكافي فيتحرى النسخة الخطية إن وجدت.
٦- الاعتماد على العرف والمرتكز العقلائي في كثير من القضايا التي لم يحدد الشارع موضوعها على نحو التعبد الصرف ، فتراه يكثر من ذكر الجهة الارتكازية .
٧-الاسترسال في تلاوة الآيات:
الواضح من السيد الأستاذ حفظه لكثير من الآيات الطويلة مما يدل على أنسه بالقرآن الكريم، ومداومة تلاوته.
٨- الموعظة الأسبوعية:
في نهاية درس يوم الأربعاء كان يزين درسه بموعظة أخلاقية تربوية، أو فائدة علمية إذا كان يناسب مولد أحد الأئمة أو شهادتهم، وكانت هذه الفوائد عميقة الغور، خصوصًا ما كان متعلقًا بالقرآن. ونذكر هنا إحداها على وجه الاختصار: وهي متعلقة باستغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه فكيف ينسجم هذا مع رأي الشيعة بأن والده لا بد أن يكون مؤمنًا؟ فرق السيد بين الأب والوالد بأن الأب قد يطلق على العم ولكن الوالد لا يقال إلا لمن حصل منه النسل ولذلك نجد إبراهيم استغفر لوالديه في آخر عمره (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) إبراهيم ٤١، وقرينة أن الاستغفار حدث في آخر عمر إبراهيم عليه السلام هو قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) فليس من المعقول أن يستغفر لشخص لم يؤمن ويصر على ضلاله بينما حدث الاستغفار لعمه (الأب) عندما كان إبراهيم شابًا برجاء هدايته ( وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) فهل يتبرأ منه ثم يعود فيستغفر له في آخر عمره! إذن الأب الذي تم الاستغفار له غير الوالد.
وأرجو أن يعمل مكتب سماحته على جمع تلك المواعظ والفوائد فهي خلاصة تجارب سنين متمادية .
هذا ما وسعني في هذه العجالة . نسأله تعالى أن يتغمده برحمته ويصب على قبره شآبيب رحمته ويسد مسده بالعلماء العاملين . والحمد لله رب العالمين.
عبد الغني العرفات
٢٦ محرم ١٤٤٣
——————————
(١) بحث اللقطة بتاريخ ٢٢ / ١/ ١٤٣٥.
(٢)بحث اللقطة بتاريخ ١٦/ ١ / ١٤٣٥.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى