أقلام

انطباعات عامّة حول العلّامة الموسوعي الدكتور محمود المظفّر

الشيخ أحمد بن عبد الجبار السميّن

تلقّت الأوساط الأكاديمية والثقافية يوم الخميس 2/9/2021م نبأ وفاة الدكتور محمود المظفّر في مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية، وينتمي الفقيد إلى أسرة عربية عراقيّة هي أسرة (المظفّر)، واحدة من الأسر العلمية في مدينة النجف.

لقد سمعتُ كثيرًا عن شخصية المغفور له، إلّا أنَّ بداية معرفتي به كانت من خلال كلمة ألقاها في مهرجان شعبي عـُقد في مدينة سيهات للاحتفاء بالعلامة الدكتور عبد الهادي الفضلي (ت: 1434هـ)، حيث تحدّث فيه عن موسوعية صديقه الفضلي من خلال مشاهداته ومعايشته له.

بالنسبة لي لقد أعطت تلك الكلمة ملامح موسوعية المظفر نفسه وعمق مسيرته العلمية والثقافية، ما جعلني أنشدّ له لأسعى بعدها بمتابعة ما يمكن الوصول إليه من تراثه الثقافي، لأتشرّف بعدها بالتلمّذ عليه في مجموعة من مواد علم القانون في (الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية) بلندن، فكان بحقّ العالِم المتبحّر والمربّي الموهوب.

ووفاءًا لحقّ التلمّذه أسجّل انطباعاتي العامّة حول جانب من شخصيته بتناول ثلاثة جوانب بارزة جعلت منه أحد الأعلام الموسوعيين المميّزين في عصرنا:

الجانب الأول: العلمية الجامعة للقديم والحديث

كثيرون هم العلماء أصحاب التخصصات العلمية، ولكن لايصحّ وسم كل متخصص بِسمة بالموسوعية، كيف لا والموسوعية تعني امتلاك الشخص الأفق الواسع بحيث يجعل وروده إلى أيّ حقل معرفي ورودًا منظمًا وعميقًا، فأمثال هؤلاء هم القلّة في البيئات العلمية.

بتتبّع النتاج العلمي والثقافي للدكتور المظفّر يُدرك وبسرعة أنَّ الرجال أحد تلكم القلّة الذين اتّسموا بالموسوعية في العلوم القديمة والحديثة، فنتاجه يدلّل على تمكّنه من الاتجاهات المحدثة بجانب مكنته من الاتجاهات القديمة، ويظهر ذلك بجلاء في الهاجس الذي عاشه في بحوثه أعني به هاجس البحث المقارَن خصوصًا بين القديم والحديث في الآراء؛ فمثلًا عقد في إحدى محاضراته مقارنة بين تقسيم مصادر الإلتزام بين القانون والشريعة ينتهي إلى أنَّ بعض فقهاء الشريعة كان لهم رأي قريب مما ذكره فقهاء القانون، ولم يكن وصوله إلى هذا إلّا نتيجة ذلك التوسّع في القانون والفقه ومدارسهما.

إنَّ لتبنّي المنهج المقارَن متطلّباته التي ربما لا يقدر عليها سوى واسع الاطلاع الواثق من اطلاعه في مجالات المقارنة، وهذا ما بدى في بحوث ومحاضرات فقيدنا المظفّر.

وترجع قدرته على الاطلاع على التراثين القديم والحديث ـ فيما أُلاحظه ـ إلى العوامل التي كوّنت شخصيته العلمية:

ففيما يرجع إلى العلوم القديمة؛ يشكّل انتماؤه إلى النجف التي هي إحدى الحواضر العلمية الإسلامية وذات العمق التأريخي في العلوم القديمة كالفقه وأصوله والتفسير والحديث والعقيدة وغيرها،يشكّل هذا الانتماء عاملًا أساسيًا في هذا السياق.

كما أنَّ كونه سليل أسرة علمية في الحوزة العلمية النجفية أثره في بناء هذه الثقافة؛ فأبوه الشيخ محمد حسن المظفّر(ت: 1375هـ)المرجعي الديني المميّز، وعمّاه الشيخان محمد حسن المظّفر(ت: 1381هـ) الشخصية العلمية المعروفة ومحمد رضا المظفّر (ت: 1383هـ) المجتهد وأحد رواد الإصلاح التعليمي في النجف.

ثم تدرسيه لهذه العلوم القديمة والتأليف الذي أكسبه الخبرة الواسعة في هذا المجال؛ فله تأليفات في هذه العلوم (أصول الفقه) و(علم الحديث المقارَن) و(مشروعية تدوين الحديث) وشروحه لبعض المصادر الأساسية في علم الفقه وغيرها.

أمّا في العلوم الحديثه؛ فالعَلَامة الفارقة في الحياة العلمية لأستاذنا المظفّر هي التحاقه بكلية الفقه التي أسسها عمّه الشيخ محمد رضا، فكان ضمن خرّيجي دفعتها الأولى بجانب المجموعة المميّز من الشبّان آنذاك، هذا بالإضافة إلى إكماله لمرحلة الماجستير في جامعة بغداد في علم القانون وبعدها في جامعة القاهرة في مرحلة الدكتوراه، ثم تعيينه أستاذًا في عدد من الجامعات منها جامعةالملك عبد العزيز في مدينة جدّة، فهذا التدرّج الأكاديمي كان الرافد لبناء ثقافته في العلوم الحديثة.

الجانب الثاني: اللّغة الموزونة بين البساطة والعمق

ليس من الضرورة أن يجتمع العلم والقدرة البيانية في كل شخصية علميّة، فكم من العلماء الذين لا يقدرون على إيصال أفكارهم بوضوح مع الحفاظ على عمق الفكرة، فاللغة الموزونة بين البساطة والعمق خيط رفيع تحتاج ممارستها إلى مهارة عالية.

إنَّ واحدة من الخصوصيات التي تجذب القارئ والمستمع لأستاذنا العلامة هو بيانه العذب الذي يسير به في حديثه وقلمه، والجميل في لغته أنَّها متقاربة إن كانت ملفوظة أو مكتوبة، فالمستمع لمحاضراته يظنه يقرأ نصًا مكتوبًا لبلاغته وانتقائه للألفاظ وصياغته للتركيبات، ولن يجد قارئه فرقًا جليًا في صفات نصّه المكتوب، وهذا ما يُبدي موهبته الأدبية عالية، هذا سوى هدوئه وابتعاده عن توتر النصّ والكلام.

ويعود هذا ـ بعد كون بذوره موهبة مودعة فيه ـ إلى عرقه العربيالأصيل في جذوره الأولى، ثم نشأته في بيئة أدبية رائدة هي النجف الحافلة بأدبائها وتجمّعاتها الأدبية، أضف إليه تلمّذه على أساتذة من ذوي الذائقة الأدبية الفائقة خصوصًا في كلّية الفقه كالسيد محمد تقي الحكيم (ت: 1422هـ) والدكتور أحمد حسن الرحيم (ت: 2014) وغيرهما، ولممارسته المبكّرة للكتابة والتأليف أثرها في اكتسابه ذلك البيان الأخّاذ، وعمله في المحاماة فترة من الزمن كان أحد العوامل؛ لما يحتاجه المحامي من خطاب منظّم ومقنع في العرض والنقض.

الجانب الثالث: الأسلوب التربوي الجاذب

مما قد يقع فيها العديد من المتخصصين هو تضخّم ذواتهم العلمية أمام المتلقّي من طلابهم وغيرطلابهم وربما من غير قصد، وهذا التضخّم له دوره السلبي في إضعاف أثر العلم في نفوس المتلقّين، ولكن إذا ما قام العالِم بتوظيف معارفه الواسعة والمتعددة لخدمة طلابه والرقي بهم لبناء شخصياتهم العلمية وتجاوز العقبات المواجهة لهمفيكون العالِم التربوي.

برز لي في محاضرات الأستاذ المظفّر هذا التوظيف الرائع الذي يأخذ بأيدي طلابه إلى حيث أراد لهم من مستوى علمي؛ فكم أرشد طلابه إلى مقالة ما أو بحث معيّن أو مصدر مهم مما يوسّع من آفاقهم المعلوماتية، وفي أكثر من مناسبة في محاضراته كان يحضّ طلابه على اقتناء المصادر الأساسية لتكوين مكتباتهم التخصصية لتكون في نهاية المطاف الرافد الذي يرجعون إليها كمتخصصين.

هذه جوانب ثلاثة أجدها شواخص هامة في شخصية أستاذنا العلامة الدكتور محمود المظفّر (رحمه الله تعالى) جعلت منه علمًا من أعلام هذا العصر.

وأخيرًا، أدعو المتخصصين في الفقهين الشرعي والقانوني ومؤسساتهما التعليمية والبحثية إلى دراسة ـ وبشكل مكثّف ـ شخصية هذا العالم البارز في بنائه العلمي وتركته المعرفية لتطوير واقعنا العلمي بما يتناسب وحركة العصر.

* تنويه: نشرت (جريدة اليوم) هذه المقالة مختصرة في عددها الصادر برقم (17626) يوم الجمعة 10/ 2/ 1443، واعيد نشرها في صحيفة بشائر كاملة ليأخذ القارئ الكريم الصورة أوضح عن شخصية الفقيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى