أقلام

قراءةٌ في وصيّة العلامة المحروس

السيد ضياء السيد عدنان الخباز

*قراءةٌ في وصيّة العلامة المحروس*

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على أشرف بريته وخير خلقه محمدٍ وآله الطاهرين، واللعنُ الدائم الأبدي على أعدائهم أجمعين.

*تمهيدٌ:*
كنتُ أنوي أن أكتب -كما هي عادتي- شيئًا من وجدانياتي ومشاهداتي المرتبطة بشخصية الأستاذ الجليل، سماحة العلّامة الشيخ عباس المحروس (طاب ثراه)، ولكنّني لمّا اطّلعت على وصيّتهِ -التي كتبها بالتحديد قبل إحدى وعشرين سنة ويومين من تاريخ وفاته- شدّتني إليها، وأجبرتني على عدم تجاوزها، نظرًا لما اشتملت عليه من المضامين الولائية العالية والتعاليم التربوية السامية، فوجّهتُ قلمي لتسليط الضوء على بعض ما اشتملت عليه، وقبل أن أستعرض ذلك فلأتحدّث أوّلًا عن انطباعاتي حولها.

*الانطباعات:*
١- إنَّها وصيّةٌ خارجةٌ عن المألوف، فقد تضمّنت -إلى جانب الوصايا المتعارفة- وصايا أخرى لم يُعهد ذكرها في الوصايا، وشخصيًّا لم أعهد هذا النحو من الوصايا إلّا في وصيّة المرجع الديني الكبير، السيد المرعشي النجفي (رضوان الله عليه)، فإنَّها مشابهة لها في بعض محتوياتها.

٢- إنَّها وصيّة شخصٍ عالمٍ عارفٍ، فقد تضمّنت العديد من البنود التي لا يلتفت إليها إلّا من يكون خبيرًا بالمعارف ومحيطًا بها.

٣- إنَّها عبارة عن الدرس الأخير من دروس الأستاذ المعرفية والولائية والتربوية، والتي أبى الشيخ الراحل (تغمّده الله بواسع الرحمة) إلّا أن تكون امتدادًا لدروسه في الحياة.

٤- إنَّها صورةٌ مختزلةٌ من شخصية الشيخ الأستاذ (طاب ثراه) العلمية والولائية والفكرية، فالشخصية التي عرفناها للشيخ وجدانًا هي نفسها الشخصية التي تعكسها بنود وصيّته القيّمة.

٥- إنَّها -بلحاظ تاريخ كتابتها- تكشف عن استعداده (تغمّده الله بالرحمة) للموت، وإعداده العدّة والزاد للقاء الله تعالى، وتخطيطه لكيفية المسير في تلك الرحلة الطويلة، وهو في حدود الخامسة والأربعين من العمر.

وبعد الاستهلال بذكر هذه الانطباعات أشرعُ ثانيًا في استعراض مقتطفات من وصيّته (طاب ثراه)، ثمّ سوف أعطف عليها ببيان بعض دلالاتها، ولعلّ القارئ بذهنهِ الحصيف يسبقني إليها.

*مقتطفاتٌ من الوصيّة:*
١. وأن تقرأ تعزية مولاتي وشفيعتي المظلومة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند التشييع، وعند القبر، ثمّ تعزية الإمام المظلوم الحسين (عليه السلام).

٢. وأن تُقرأ التعزية في الفاتحة على الزهراء والحسين (عليهما السلام) في كلِّ مجلس من مجالس الفاتحة.

٣. وتستمر التعزية عند القبر -لمدّةِ تمكّن الوصيّ، ووجود المال- عند عصر كلّ خميس، ويُرسل الثواب للرسول وآله المعصومين (عليهم السلام)، ولوالديّ وزوجتي وأساتذتي (رحم الله مَن مضى، وأطال عمر من بقي).

٤. ويُنفق… لمدة عشرين سنة في يوم عاشوراء وليله لأجل مأتم المسجد… وكذلك في يوم شهادة السيدة فاطمة (عليها السلام) على الروايات الثلاث -رواية ٤٠ يومًا، ورواية ٧٥ يومًا، ورواية ٩٥ يومًا- توزّع… عليها حسب نظرة الوصيّ.

٥. وقد جعلتُ المكتبة وقفًا على مولاتي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، يستفيد منها أهل العلم والإيمان، ويعود الثواب لي ولوالدي وزوجتي وأساتذتي.

٦. والكتبُ الزائدة تُرسل إلى (مسجد الشيخ علي بن يعقوب)، وتُجْعَل في مكان خاص، وتكون وقفًا على المسجد.

٧. وأن تخرج صدقة عند الغسل والدفن وليلة الدفن… توزَّع على فقراء الأرحام، وإلّا فالجيران، وإلّا فأهل العلم المحصّلين، وتستمر الصدقة كلّ ليلة جمعة، وفي كلّ ليلة مناسبة لأهل البيت (عليهم السلام)… والثواب لمن ذكرناه مع مشاركة الأجداد والجدّات.

٨. وأوصى أن يُجعل في غسله ماء زمزم وماء الفرات، وفي الحنوط شيءٌ من تربة الإمام الحسين (عليه السلام)، وتُقرأ زيارة عاشوراء مع الدعاء عند الغسل، وزيارة مولاتي الشفيعة فاطمة (عليها السلام) عند التكفين، وليكن الكفن بعض ثياب إحرامي إن وُجِدت.

٩. وللوصيّ أن يختار خطيبًا معيّنًا، أو يجعل الفاتحة مفتوحة شريطة أن يركّز الخطيب على العقائد والفقه والموعظة وتعزية آل محمد (عليهم السلام)، وأن تكون التعزية غالبة.

١٠. وأوصى أن تُقرأ له التعزية الحسينية ليلة عرفة أو يومها في عرفة.

١١. وأوصى أن تُقام التعزية في منزلهِ الجديد مع التمكّن.

وختمَ وصيّته بقوله: (وثبتني الله على ولاية أمير المؤمنين وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرًا، تمّت ليلة الخميس ٢٠/٤/١٤٢٢هـ، بقلم المتعلِّق بحبِّ أهل البيت “عليهم السلام” عباس علي آل محروس).

*دلالاتُ المقتطفات:*
١/ *الدلالة الأولى:* إنَّ الوصيّة تشفُّ عن خصلةٍ من روائع خصال العلّامة الراحل، ألا وهي خصلة الوفاء لأساتذته ووالديه وزوجته، كما يشهد بذلك البندان الثالث والخامس منها، وإنَّ هذا الوفاء للأساتذة حتى بعد الموت لهو لفتةٌ تربويةٌ راقيةٌ ينبغي أن يهتمَّ بها كافّة التلامذة تجاه أساتذتهم.

٢/ *الدلالة الثانية* : الذوبان في حبِّ الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام)، ويشهد لذلك وقفه مكتبته لها (عليها السلام)، وتخصيصه لشيء من ماله لإحياء ذكرى شهادتها (عليها السلام) في المناسبات الثلاث، وتأكيده على قراءة زيارتها عند تكفينه، وقراءة مصيبتها في كلِّ مجلس من مجالس الفاتحة.

٣/ *الدلالة الثالثة* : التعلّق الشديد بسيّد الشهداء (عليه السلام)، وتشهد لذلك وصيّته بأن يُوضع شيءٌ من تربة سيّد الشهداء (عليه السلام) في حنوطه، وأن تُقرأ زيارة عاشوراء عند تغسيله، وتأكيده على قراءة مصيبته العظمى في كلّ مجلس من مجالس الفاتحة، ووصيّته بإقامة التعزية في منزله مع التمكّن، وكذلك عند قبره عصر كلّ يوم خميس ما أمكن الوصيّ ذلك، وأيضًا على صعيد عرفة في يوم عرفة أو ليلته، مستلهمًا لهذه الوصيّة الأخيرة من وصيّةٍ لإمامنا الباقر (عليه السلام).

٤/ *الدلالة الرابعة:* حبُّ العلم والحرص على نشره، ويشهد لذلك وقفه لمكتبته الكبيرة -والتي بذل الكثير من المال والجهد في سبيل جمعها- ليستفيد منها طلبة العلم والإيمان، ووقفه أيضًا للكتب الزائدة منها، ليستفيد منها المؤمنون الذين يرتادون مسجده العامر (مسجد الشيخ علي بن يعقوب).

٥/ *الدلالة الخامسة* : الاهتمام بتوظيف المنبر لخدمة المعارف الوحيانية السماوية وإذاعتها ونشرها، ويشهد لذلك تنصيصه على أن يكون الخطيب الذي يشارك في مجالس فاتحته ممّن يهتمّ ببيان المعارف العقائدية والفقهية والأخلاقية، إلى جانب اهتمامه بالتعزية.

٦/ *الدلالة السادسة* : الاهتمام بإذاعة تعزية أهل البيت (عليهم السلام) وترسيخ ظلامتهم وإحياء شعائرهم، وتشهد له وصيّته بتغليب جانب التعزية على جانب الموضوع في كلّ مجالس فاتحته، ووصيّته ببذل شيءٍ من ماله في إحياء مصيبة الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) على الروايات الثلاث، وإحياء مصائب يوم عاشوراء وليلته، وهكذا هي أيضًا وصيّته باستمرار إقامة التعزية في منزله.

٧/ *الدلالة السابعة:* البرُّ بالأرحام والجيران، ويشهد بذلك المقتطف السابع من المقتطفات المتقدّمة، حيث أوصى (طاب ثراه) بإخراج صدقةٍ عند تغسيله ودفنه وفي ليلة دفنه، وأوصى بتوزيعها على فقراء الأرحام، وإلّا فعلى فقراء الجيران، كما أوصى بإخراج صدقةٍ في كلّ ليلة جمعة، وفي كلّ ليلة مناسبة من مناسبات أهل البيت (عليهم السلام)، وأشرك في ثواب ذلك والديه وأجداده وجدّاته.

٨/ *الدلالة الثامنة* : الوفاء لمسجدهِ العامر، الذي قد احتضنه لقرابة أربعة عقود إمامًا للجماعة وخطيبًا للمنبر، وكان مجلسه الحسيني فيه بعد صلاة المغرب -في موسم عاشوراء ومناسبات المعصومين (عليهم السلام)- من المجالس المركزية التي يقصدها جمهورٌ كبيرٌ من كافّة طبقات المجتمع. وتلمس وفاءه لهذا المسجد العريق -مضافًا إلى جهوده الكبيرة في توسعته وتجديد بنائه- في وصيّته بتخصيص جزءٍ من ماله للمأتم المقام فيه يوم عاشوراء أو ليلته، ووصيّته بوقف بعض كتب مكتبته عليه.

وعند هذه الدلالة أتوقّف، وأترك المجال للقارئ الكريم ليقرأ ما بين السطور ويستوحي بقيّة الدلالات من وصايا العلّامة الراحل (طاب مثواه).

وفي الختام فإنَّي أعتقد أنَّ هذه الوصايا -كلًّا أو بعضًا- ستؤسِّس لسنّةٍ حسنةٍ، وسيكون لها وقعها في نفوس المؤمنين الذين يهتمّون بالتخطيط لرحلتهم الأبدية، فرحم الله شيخنا الأستاذ رحمة الأبرار، وحشره مع النبي وآله الأطهار، وجزاه الله عن الشرع والعلم وأهلهما خير الجزاء.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى