أقلام

نقد الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي في بقعة ضوء

 

منال الخليفة

يطل بزيهٍّ الرسمي، وقد جرد رأسه من عمامته عبر تسجيل قديم نشر في اليوتيوب، ويخبرك كيف ركز رسالته في أذهان تلامذته بقوله ” إذا لم يسعَ الطالب لتكوين ذهنية علمية لن يكون عالمًا، فالذهنية العلمية تكوّن الشخصية العلمية، والذهنية العلمية لا تأتي إلا عن طريق التحليل والنقد”

هذا هو العلامة الفضلي “رحمه الله ” وهو يقدم منهجه في إحدى محاضراته لكل طلابه الأكاديمين والحوزويين، لأنه يرى أن “النقد عملية ترميم للأثر العلمي، بعد البحث فيه، والوقوف على ما يشوبه من قصور أو أخطاء وعيوب”

بهذه المنهجية والركائز أسس العلامة الفضلي طلابه الأكاديميين والحوزويين ليُخرِّج علماء وباحثين يقيمون دعائم ثابتة لاستمرارية هذا الدين، وليتولد في ذهن الكاتب علي محمد عساكر التعريف بمنهجية النقد لدي هذا العالم الفاضل، وذلك في كتابه النقد عند العلامة الفضلي.

فكيف ولد هذا الكتاب؟وكيف كانت ظروف الولادة؟ وماذا تصمنت دفتاه ليسلط الضوء على جهود الفضلي في نقد الفكر الديني والعلوم الاخرى؟

_الفضلي المبارك وتجربة النقد:_

احتضن ملتقى آراء وأصداء حوار (تجربة النقد عند العلامة الفضلي)، التي قدم لها الأستاذ عقيل العليوي واصفًا المحتفى به بـ *الفضلي المبارك* مستشهداً بالآية الكريمة *(وجعلني مباركاً أين ما كنت)* موضحاً أن الفضلي هو من مصاديق هذه الآية، إذ كان مباركًا في أحواله وأعماله سواء في إقامته بالبصرة أوالنجف، ثم بغداد، ثم جدة، ثم الدمام.
أينما حل تجد له نتاجا وعطاء فكريا، فهو الحوزوي المتميز والدكتور الأكاديمي، ومما يميزه هو المنهج الذي صاغه طوال سيرته في الجمع بين المنهجين الحوزوي والأكاديمي. وهذا ما أعطاه قوة في الحضور من بدايات كتاباته في مجلة الأضواء، إلى مدارس دار النشر، إلى كلية الفقة، إلى جامعة بغداد، ثم جامعة الملك عبدالعزيز، ثم جامعة أهل البيت في لندن.
تجد اللمسات في التأثر الزماني والمكاني من خلال مؤلفاته التي تقارب 66 مؤلفًا متعددة الاختصاصات ما بين علوم القرآن والحديث والعقيدة والعلوم العقلية وعلم الفقه وأصوله وعلوم اللغة العربية وآدابها، الفكر السياسي الإسلامي، وصولًا إلى تجربة النقد وهي محور حديثنا مع الأستاذ الكبير والباحث *(الشيخ علي عساكر)* الذي تناول تجربة الشيخ الفضلي في كتابه *(النقد عند الفضلي)* الذي رجع فيه إلى (157) مصدرًا من المصادر المتنوعة، معظمها من مؤلفات العلامة الفضلي، أو الدراسات حول مؤلفاته، أو المصادر التي اعتمدها -رحمه الله- في بحوثه العلمية، ودراساته النقدية، مما يدل على سعة التقصي والجهد الكبير.

وأدار الحوار مع الشيخ العساكر الكاتب الأديب (عيسى الربيح)، الذي ذكر أن الباحث علي عساكر له يد طولى في مجال الدراسات الفكرية، وهو يتحفنا بالكثير من كنوزه الثمينة عن تجربة النقد للعلامة الفضلي في كتابه الكبير الذي بلغت صفحاته السبعمائة، بين استعراض وتحليل ومناقشة وتبويب وتقسيم يضع القارئ على مقربة من جوهر هذه التجربة الغنية.
وأضاف: سنكتفي في الحوار بالتطرق لأبرز القضايا النظرية والتطبيقية، وستكون خطة الحوار مبنية على ثلاثة محاور.

محاور الحوار:

خلفيات الدراسة.
* المجال النظري لتجربة النقد عند الفضلي.
*المجال التطبيقي لتجربة النقد عند الفضلي.
ارتكز الحوار على ثلاثة عشر سؤالًا وفق المحاور المذكورة، وبدأها مدير الحوار عيسى الربيح:

سبب اختيار موضوع النقد وشخصية الفضلي

نريدك أن تضعنا في تصور تمهيدي للكتاب، فلماذا اخترت النقد؟ ولماذا العلامة الفضلي؟

السبب في ذلك أن تأليف هذا الكتاب أن يكون ثمرة عملية من ثمرات الحفل التأبيني الرابع الذي كان سيقام لسماحته -رحمه الله- في موطنه الأصل (الأحساء)، الذي يصادف العام 1438هـ باعتبار أن وفاته كانت يوم الاثنين 27 جمادى الأولى 1434هـ، وكان من ضمن تخطيط اللجنة القائمة على الحفل أن تصدر كتابًا عن سماحته، يشارك فيه مجموعة من الكتّاب والباحثين، وكنت ممن حظي بشرف الدعوة للمشاركة في هذا الكتاب باختيار بحث معين والكتابة فيه.
وتمهيدًا لاختيار موضوع البحث اطلعت على بعض ما كُتب عن العلامة الفضلي، فرأيت الكثير من الأطروحات متشابهة وإن اختلفت في المنهج أو الأسلوب، مما يعني أن اختياري لأي موضوع منها سيجعلني أقع في التكرار.
ورغم كثرة ماوقفت عليه من أطروحات عن سماحته، إلا أنني لم أجد ولا أطروحة تتكلم عن منهجه النقدي، باستثناء محاضرة لسماحته يتكلم فيها عن النقد، وموضوع واحد أستطيع القول إنه تلخيص لتلك المحاضرة، ولرغبتي في التجديد اخترت هذا الموضوع.
وحين شرعت فيه رأيت أنه واسع ومتشعب جدًّا، إلى حد أنني استغربت كيف لم تتناوله الدراسات الأخرى رغم سعته وأهميته، فأخذت قراري بالتوسع فيه ليكون كتابًا مستقلًا وليس مجرد موضوع مختصر يتم وضعه ضمن كتاب مشترك، فوافقت اللجنة على ذلك، وهكذا تم تأليف هذا الكتاب وخروجه من ظلمات العدم إلى أنوار الوجود.

الفضلي يجمع بين النقد والعلوم الحوزوية

-لعل البعض يستغرب من الجمع بين سمة النقد وبين الشخصية الحوزوية، بحجة أن ممارسة النقد من وظيفة المثقفين والأكاديميين، فكيف جمع العلامة الفضلي بين هذه السمة والإنتاج العلمي والحوزوي؟

على المستوى الشخصي لست مؤمنًا بأن العملية النقدية وظيفة المثقف والأكاديمي دون غيرهما من الشرائح الأخرى، فالنقد نوع من أنواع الدراسات والتقييم، وهو أمر متاح للجميع في جميع الاختصاصات، ومن بينهم الحوزوي وطالب العلوم الدينية، ولدينا علماء دين كثيرون جدًّا قدموا الكثير من الدراسات النقدية للكثير من الأطروحات، سواء حين مناقشاتهم لمن يختلف معهم في المذهب، أو لما يثيره الملحدون من إشكالات على الدين أو الفكر الديني.
ومع ذلك ففي تصوري أن هناك عوامل عدة ساعدت علامتنا الفضلي على الجمع بين العملية النقدية الأكاديمية وبين النتاج الحوزوي، الذي -في تصوري- أيضًا قدمه أو بعضه بمنهج تجديدي وأكاديمي.

ومن بين هذه العوامل باختصار:

1- هو شخصية جامعة بين الدراستين (الحوزوية والأكاديمية) إذ التحق عام 1382هـ (بكلية الفقه في النجف الأشرف) وحصل منها على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية، ثم التحق سنة 1391هـ (بكلية الآداب بجامعة بغداد) فحصل على الماجستير عن رسالته (أسماء الأفعال والأصوات: دراسة ونقد) وكان خلال هذه الفترة مدرسًا في كلية الفقه، كما مارس التدريس في (جامعة الملك عبد العزيز بجده) لمادتي النحو والصرف، وبعد سنتين من التحاقه بالجامعة ابتُعث إلى (كلية دار العلوم بجامعة القاهرة) فحصل على الدكتوراة عام 1396هـ في النحو والصرف والعروض بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، كما تم اختياره سنة 1409هـ أستاذًا لمادتي المنطق وأصول البحث (في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية) كما أشرف على بعض طلبة الماجستير والدكتوراة فيها.
2- إنه كان منفتحًا على النتاج الأكاديمي من مؤلفات ومجلات وغيرها، وقد كان يكتب وينشر في الكثير من الدوريات والمجلات والصحف، العراقية واللبنانية والكويتية والسعودية والمصرية، والإيرانية…مثل الأضواء، والأضواء الإسلامية، والنجف، والبذرة، ورسالة الإسلام، واللسان العربي، والعربي، والفيحاء، وجريدة اليوم…وغيرها الكثير، بل هو من مؤسسي (مجلة الندوة) برفقة سماحة العلامة الشيخ باقر بو خمسين في النجف الأشرف، وهي مجلة أدبية ثقافية عامة.
3- إنه كان منفتحًا على الأكاديميين والنخب الثقافية، متواصلًا معهم.
فكل هذه العوامل مكنته من النقد والطرح الأكاديمي.

كتاب الأستاذ علي عساكر وفصوله حول نقد الفضلي

-عرفنا على الكتاب وطبيعته بصورة عامة ومختصرة؟

الكتاب كبير جدًّا، يقع في (745) صفحة، ومن الصعوبة إعطاء فكرة كاملة عنه، ولكن مما يمكن قوله على نحو الإجمال: إنه كتاب يتكلم عن المنهج النقدي لدى العلامة الفضلي على المستويين (النظري والعملي) بمعنى أنني حاولت عرض مفهوم العلامة الفضلي عن النقد من حيث المعنى والمنهج والأسلوب ومواصفات الناقد، وغيرها، كما حاولت تقديم تطبيقات عملية لممارسة العلامة الفضلي للعملية النقدية لنرى مدى تطابق منهجه العملي مع منهجه النظري.
والكتاب يتكون من أربعة فصول على النحو التالي:
الفصل الأول: مفهوم النقد وصفات الناقد.
الفصل الثاني: أخلاقيات النقد وآدابه.
الفصل الثالث: نقد الفكر الديني.
الفصل الرابع: المسائل الخلافية والوحدة الإسلامية.
ثم خاتمة الكتاب.

منهج عساكر في تأليف الكتاب:

ما المنهج الذي سرت عليه، وما أهم الخطوات العملية التي قمت بها أثناء تأليف هذا الكتاب؟

أمّا المنهج فربما أستطيع القول: إنه بعد التصنيف لمادة الكتاب وفق فصوله المذكورة، اعتمدت العرض والتحليل والاستخلاص…وإلى غير ذلك مما تطلبه الكتاب وطبيعته ومنهج عرضه.
أما الخطوات العملية فكثيرة إلى حد أنني ذكرتها في صفحتين من المقدمة، ولكن يمكنني إجمال بعضها في نقاط مضغوطة ومختصرة، منها:

أولًا: إضافة إلى بيان المعنى العلمي للنقد كما يراه العلامة الفضلي، قدمت الكثير من النماذج أو التطبيقات النقدية العملية لسماحته، كما حرصت على تنوع تلك النماذج بقصد بيان الاختلاف في المنهج حسب طبيعة الموضوع.
ثانيًا: التعليق على هذه الدراسات النقدية بما يكشف قيمتها ويبين أهميتها، أو يوضح بعض جوانبها.
ثالثًا: التوسع والاستطراد بإضافة بعض الدراسات سواء لي أم لغيري، لبعض دراساته النقدية، وذلك حسب تشخيصي لمدى الحاجة لتلك الإضافات.
رابعًا: عزو الآيات القرآنية إلى سورها مع ذكر أراقمها، وتخريج ما لم يقم سماحته بتخريجه من أحاديث، وذكر ما لم يذكره من مصادر للنصوص التي يستشهد بها دون ذكر مصادرها.
خامسًا: الإرشاد إلى أرقام الصفحات في حال ذكر سماحته المصدر دون الصفحة.
سادسًا: مطابقة النصوص التي يستشهد بها على المصادر التي ينقل منها، مع الإشارة إلى اختلاف المجلد أو الصفحة في حال اختلاف الطبعات التي اعتمدتها عمّا اعتمده سماحته.
سابعًا: وضع عناوين فرعية لبحوثه المطولة التي يكتفي فيها سماحته بالعنوان الأصل، ويترك التقسيم ووضع العناوين الفرعية الداخلية.
ثامنًا: بعض الدراسات التي قدمها سماحته متفرقة في أكثر من موضع من الكتاب الواحد، أو متناثرة في عدة مؤلفات فقمت بجمعها في مكان واحد، وتنظيمها وفق التسلسل المنهجي الموضح للفكرة والموصل للنتيجة.
إلى ما هنالك من أمور مشابهة اضطرتني إليها طبيعة الكتاب والمنهج الذي اعتدته في تأليفه.

سر سرعة تأليف الكتاب:

-الكتاب ضخم جدًّا إذ أنه يقع في (745) صفحة، في حين أنك ألفته خلال ثلاثة أشهر لا أكثر، فكيف تمكنت من ذلك، ولماذا كانت هذه العجلة أو السرعة في هذا التأليف؟

بدأت تأليف هذا الكتاب يوم السبت 13 ذو القعدة 1437هـ وفرغت منه مساء يوم الخميس (ليلة الجمعة المباركة) 9 صفر 1438هـ، أي تم تأليفه في شهرين وخمسة وعشرين يومًا على نحو التقريب. والذي دفعني إلى ذلك ضيق الوقت كون الحفل سيكون في جمادى الأولى، وهي مدة لا يفصلني عنها إلا قرابة ستة الأشهر لا أكثر من أجل الفراغ من التأليف والطباعة معًا.
وهذا جعلني أتفرغ للكتاب تفرغًا كاملًا إلى حد أنني في الكثير من الأيام أواصل الكتابة لمدة خمسة عشرة ساعة تزيد أو تنقص قليلًا، لا أعرف خلالها طعم الراحة إلا ما ندر.
وأظن -وإن كان من الصعب أن يتكلم الإنسان عن نفسه، لكنه الحوار وما يفرضه عليك- أن مما ساعدني على ذلك -إضافة إلى التفرغ- وضوح فكرة الكتاب، ووضع خطته، ومعرفة كيفية التعامل مع المصادر، والقدرة على سرعة البحث عن المعلومة، والمخزون اللغوي والثقافي المساعد على سرعة الكتابة، والتعود على ذلك، إذ لدي عدة كتب تم تأليفها في مدة وجيزة.
فهذه كلها عوامل ساعدت على ذلك، والحمد لله على توفيقه.

صفات الناقد حسب رؤية الفضلي:

-ما أهم الصفات التي يجب توافرها في الناقد حسب رؤية العلامة الفضلي؟

ربما لا تختلف عمّا يراه المختصون في المجمل، فمن ذلك من غير شرح ولا تفصيل:
الموضوعية، والمرونة، والموهبة، والذهنية العلمية، والمنهجية، والمعرفة العلمية، والأمانة في النقل، والصدق في القول، والصراحة في الرأي، والتزام الأسلوب العلمي في الطرح، والتحلي بأخلاق البحث والنقد كالصبر على معاناة البحث، والمثابرة في مواصلته، واحترام الآخرين وأفكارهم ومعتقداتهم رغم الاختلاف معها والنقد لها، والتواضع حين الوصول إلى نتائج علمية جديدة…إلى أمور أخرى مما يحتاجه الباحث والناقد في عمليته البحثية أو النقدية، مذكورة في الكتاب، وبعضها مصحوب بالشرح والتفصيل

موضوعية الناقد

-أشار العلامة الفضلي في أكثر من مورد إلى ضرورة صفة الموضوعية للناقد؛ فهل يمكن أن يتجرد الناقد من تحيزاته الذاتية والفكرية والمذهبية؟ مع العلم أن الناقد – أياً كان انتماؤه الديني أو الفكري – يتأثر بمحيطه وإطاره المعرفي الذي ينتمي إليه.

ذكر العلامة الفضلي الموضوعية كصفة، لكنه لم يذكر كيف تتحقق لأنقل رأيه أو وجهة نظره.
وأما في تصوري فإن التجرد رغم صعوبته البالغة إلا أنه ليس مستحيلًا على كل حال، بدليل أن الكثيرين غيروا الكثير من أفكارهم وقناعاتهم، بل ومعتقداتهم حين اتضح لهم خطأ ما كانوا عليه، وربما مما يساعد على ذلك الاقتناع بقدسية الحقيقة وأنها بغية الباحثين، وألا يجعل الإنسان همه هو الغلبة أو الانتصار لأنه ليس في حلبة مصارعة وإنما هو ناشد للحق، وأن يذكر نفسه أن مكابرته على الحق الذي أوصله إليه بحثه جريمة في حق نفسه وفي حق العلم، وخصوصًا فيما يتعلق بالدين عليه أن يتذكر الآخرة والوقوف بين يدي الله للحساب، وأن يفهم أن خلاص نفسه في ذلك اليوم العظيم أهم من مكابرته وإصراره على موقفه على حساب ما أوصله إلى بحثه من نتائج، حتى وإن كان التسليم لتلك النتائج قد يجعله يخسر بعض الأمور الدنيوية.
ربما هذا وأمثاله يساعد على التحلي بالموضوعية، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة بين شخص وآخر، مع ملاحظة أنه هذه الأفكار مكتوبة الآن وبسرعة ودون أخذ الوقت الكافي من التفكير، فقد لا تكون دقيقة أو صحيحة، ومن الصعب الأخذ بها، إذ ربما يكون هناك من الأفكار ما هو أصح منها بكثير.
وبالمناسبة فإن العلامة الفضلي أنموذج للناقد الموضوعي سواء في القضايا الفقهية والمذهبية أم غيرها، والكلام عن هذا المعنى طويل جدًّا كونه يستدعي ذكر بعض النماذج العملية، لكنني -كي لا أطيل ولا أتأخر- أترك ذكر هذه النماذج وأكتفي بالقول: بأنه رضوان الله عليه -حقيقة- كان أنموذجًا رائعًا للناقد الموضوعي سواء فيما يتعلق بالقضايا الدينية أم غيرها كما هو واضح لكل من وقف على منهجه في ذلك، فهو يحترم المختلف معه احترامًا كبيرًا جدًّا، ولا يذكره إلا بكل تقدير، ويبتعد عن الاتهام للأشخاص، أو الحديث عن النيات، بل يضع الأعذار حتى لمن يتصف بالعصبية والميل مع الهوى، وينال من المختلفين معه في الرأي المعتقد، وذلك بأن يقول: إنه مشتبه في الفهم وإن كنا نشكر له غيرته على الدين…كما أنه -رحمه الله- يحصر نفسه في مناقشة الفكرة دون المساس بالمفكر، وتكون مناقشته وفق المنهج العلمي الذي يتطلبه الموضوع نفسه…وقد قدمت في الكتاب عدة نماذج لهذا المنهج الذي كان رحمه الله يسير عليه.

غايات النقد عند الفضلي

هل يرى العلامة الفضلي أن للنقد غايات يجب أن يتوخاها الناقد من وراء نقده؟

لا شك أنه يرى أن للنقد غايات وأهداف، فالنقد عملية ترميم للأثر العلمي، بعد البحث فيه، والوقوف على ما يشوبه من قصور أو أخطاء وعيوب…
والعلامة الفضلي يحصر هذه الغايات والأهداف في أمرين مهمين، أحدهما علمي، ويتمثل في (الإصلاح) وهو المعنى الذي أشرت إليه بأن النقد عملية إصلاحية تقوم على دراسة النتاج العلمي وتقييمه وتقويمه.
أما الثاني فهو ديني وتربوي أخلاقي، وربما يختص بالمسلمين أو الموحدين دون غيرهم، ويتمثل في (أن تكون الغاية من النقد هي الله) وأظن أنه إنما وضع هذا القيد ليراقب الناقد الله في نقده، فلا يسير مع أهوائه وعواطفه ونزعاته الذاتية على حساب الحقيقة التي هي بغية الباحثين والناقدين، فيرتكب بذلك جريمة كبرى في حق نفسه وحق العلم في آن واحد.
لذلك سماحته يرفض النقد بقصد النقد، أو أن يكون النقد من أجل الانتصار للرأي أو المذهب، أو ما شابه ذلك، ويعده من دلائل العجز والضعف والفشل، كما أنه يرفض النقد من غير علم يؤهل الناقد للعملية النقدية، أو أن ينطلق في نقده فقط اعتمادًا على عقله الذاتي أو تصوراته الشخصية، ويعد ذلك تطفلًا على العلم، ويعده من عوامل الهدم وليس البناء، ومن دلائل الجهل وليس العلم، وله نصوص كثيرة في ذلك.
وقد شرحت هذا المعنى بتفاصيل طويلة أخذت صفحات كثيرة من الكتاب.

الناقد بين الاختصاص والمعرفة العامة

– في الكتاب أرفقتَ نصوصًا للعلامة الفضلي تأرجح فيها بين اشتراط الاختصاص للناقد مرة، وبين اشتراط المعرفة مرة أخرى؛ فكيف نفسّر موقف العلامة من هذين الشرطين؟

في تصوري الشخصي أنه لا يوجد أي تأرجح لديه فيما يتعلق بهذا الموضوع، وإنما هو يقدّر المسائل بقدرها، فيرى أن بعض المواضيع لا تحتاج إلى اختصاص، ويمكن للمثقف العام أن يناقش فيها، أو يقوم بنقدها، ومع هذا فهو يشترط وجود العلم الكافي الذي يمكنه من تلك المناقشة أو القيام بتلك العملية النقدية، كما يشترط أن يكون عارفًا بالوسائل الصحيحة التي يجب عليه اعتمادها في ذلك، وكذا العلم التي تنتمي إليه تلك القضية، والمنهج الخاص بها في النقد والمناقشة، أما من لا يملك تلك المؤهلات فسماحته رضوان الله عليه لا يراه جديرًا بالنقد، وإن كان الموضوع غير اختصاصي.
وفي المقابل يرى سماحته أن بعض المواضيع الأخرى هي اختصاصية، ويجب ألا يتطفل عليها إلا المختص فيها، بل ويضيف إلى الاختصاص الإلمام الكافي بالعلوم الأخرى التي لها مدخلية بشكل أو آخر في بحث تلك القضية الاختصاصية، وإن كان لا يشترط الاختصاص في تلك العلوم، إذ يكفي أن يلم المختص منها ما ينفعه فياختصاصه.
هذا ما فهمته وما قمت بعرضه في الكتاب مؤيدًا بنصوصه الواردة في ذلك.

منهج الفضلي في النقد الإسلامي

-بحسب تتبعك وتقصّيك في المجالات التطبيقية نجد أنّ العلامة توفّر على عدد كبير من الأبحاث النقدية التي عالجت إشكالات كثيرة في المجالات الدينية، من ذلك: ظاهرة نقد الفكر الديني، وعنصر الثابت والمتغير في الشريعة؛ فهل لك أن تعطينا فكرة موجزة عن منهجيته النقدية في تناول هذه القضايا الشائكة؟

*لدى العلامة الفضلي إيمان كبير وقناعة كاملة بعظمة الدين الإسلامي، وكذا بقوته في فكره وأدلته وبراهينه، لذلك هو يؤكد على عدم الخوف من نقد الفكر الديني، وذلك لأنه إن كان صحيحًا حقق لنا الفائدة، وإن كان غير صحيح، أو لم يكن موضوعيًّا فنحن نملك القدرة الكاملة على رده وإسقاطه، بل الدين الإلهي أقوى من أن تؤثر فيه العواصف، أو تسقطه السفسطة والمغالط في الحقائق، وقطعًا ستكون له الغلبة والظهور لما يملكه من مقومات ذاتية، ولأنها إرادة الله التي لا راد لها، ولابد أن تتحقق طال الزمن أو قصر.

كما أن العلامة الفضلي من رواد التجديد كما نعلم، ومن يكون رائدًا في هذا المجال فمن الطبيعي جدا أن يكون مؤمنًا بالنقد داعيا إليه على المستوى النظري، بل وممارسا له على المستوى العملي، وإن كان يؤكد على ضرورة التفريق بين التجديد والجديد لاختلاف المعنيين، ويدعو إلى الأول دون الثاني.
لكنه في الوقت الذي يؤكد فيه على التجديد ويدعو إلى النقد، أيضًا يؤكد على وجوب التفريق بين الدين وبين الفكر الديني، ومعرفة ما هو ثابت وما هو متغير من الدين.

ويرى أن الدين وكل ما هو ثابت أنه من الدين عقيدة وشريعة (أصولًا وفروعًا) ثبوتًا قطيعًا لا شك فيه، هو من الثوابت التي لا يمكن نقدها لا باسم الحرية الفكرية، ولا باسم التجديد والتطوير، ولا بأية حجة أخرى.
وأن النقد يجب أن يكون في الفكر الديني، لأنه نتاج بشري غير معصوم من الخطأ والاشتباه.
والحقيقة أن هذا الموضوع من المواضيع التي اهتم بها سماحته اهتمامًا كبيرًا إلى حد أن اضطرني إلى وضع فصل كامل في الكتاب بعنوان (نقد الفكر الديني) وهو قلب الكتاب، كما أن صفحاته تعد بالمئات، وحاولت فيه بيان رأي العلامة وموقفه بالتفصيل.

النقد والوحدة الإسلامية

-خصّصتَ فصلًا كاملًا للحديث عن الوحدة الإسلامية والمسائل الخلافية، فما علاقة المسائل الخلافية والوحدة الاسلامية بالنقد؟

*في تصوري الشخصي أن لها مدخلية كبيرة في الموضوع خصوصًا بين المسلمين لما يوجد بينهم من اختلاف في المسائل الدينية عقيدة وشريعة.
والنقد إنما يقوم على مناقشة الآراء، ودراسة أدلتها، وبيان ما فيها من ضعف، أو أخطاء، أو اشتباه…تمامًا كما هو حادث ويحدث بين المسلمين في مسائلهم الدينية الخلافية، ونقدهم المتبادل لآراء بعضهم البعض.
وبما أن النقد قد يصل أحيانًا إلى حد إبطال الرأي وإسقاطه، وبما أن الإنسان -بطبعه وفطرته- يتعاطف مع أفكاره وآرائه ومعتقداته، فمن الطبيعي جدًّا، ولا أقل من أنه من المحتمل وبقوة أن تؤثر هذه المناقشات أو الدراسات النقدية المتبادلة بين المسلمين على وحدتهم، وقد تسبب الشحناء والبغضاء بينهم.
ولهذا رأيت أن أتحدث عن الوحدة الإسلامية، وأقدم رؤية العلامة الفضلي لها، بل ومشروعه المتكامل حولها، وأن أوضح أن النقد لبعض الآراء والمسائل من الفريقين لما لدى الفريقين يجب أن لا يؤثر على وحدتهم وأخوتهم، لأن الاختلاف من طبع البشر، بل هو سنة إلهية تجدها موجودة حتى بين أتباع المذهب الواحد فضلًا عن وجودها بين أتباع المذاهب المختلفة، وبما أن الاختلاف سنة، وأنه ناتج عن الاختلاف في ثبوت المسألة لدى طرف دون آخر، أو الاختلاف في فهمها بين طرف وآخر، فمن الطبيعي أن يدور الحوار حولها، والدارسة النقدية لها، وفي هذه الحالة يجب أن نفرق بين الدراسات العلمية التي تثري العلم وتساعد على الوصول إلى الحقائق، وبين ما بيننا من أخوة وما يجمعنا من وحدة، فلا نجعل الأول يؤثر سلبا على الثاني.

*مكانة كتاب النقد لدى عساكر*

-ما قيمة كتاب النقد عندك ومنزلته في نفسك من بين سائر مؤلفاتك المطبوعة أو المخطوطة؟

*كما أن الأب لا يستطيع أن يفرق بين أولاده في الحب رغم ما بينهم من اختلاف في الوعي والفهم، أو السيرة والسلوك…كذلك الكاتب لا يستطيع أن يفرق بين مؤلفاته في الحب رغم ما بينها من اختلاف في المستوى والقيمة والأهمية.
لذلك -وعلى المستوى الشخصي- أنا أحب كل ما أنتجه قلمي حبًّا حقيقيًّا رغم ما بينها من اختلاف في المواضيع، وتفاوت في القيمة والأهمية.
ولكن قطعًا بعض المؤلفات قد تكون نظرتي لها طبيعية وعادية جدًّا رغم حبي لها، بل وملحوظاتي الشخصية عليها، وبعضها الآخر له قيمته أو مكانته الخاصة في نفسي، وأعتز بها اعتزازًا كبيرًا جدًّا.
وكتاب (النقد عند العلامة الفضلي) من الكتب التي هي محل كل الفخر والاعتزاز، وذلك لعدة أسباب، أذكر منها:
1- إنه حول شخصية هي بمثابة الأب الروحي بالنسبة لي، ولها فضل كبير علي في عالم الكتابة والتأليف، لما حظيت به من سماحته من رعاية وعناية في هذا المجال، فقد قدم سماحته لخمسة من مؤلفاتي، هي: (في رحاب آية التطهير، وفي رحاب الإمام الجواد، وعقيلة الوحي السيدة زينب بنت أمير المؤمنين، ودروس من واقعة كربلاء، وقبسات من حياة الشيخ عبد الوهاب الغريري)
2- مع هذه التقديمات منحني سماحته الثقة في التعامل مع القلم والقرطاس، وبتعبير أدق: زادني ثقة بنفسي وبقلمي، وذلك من خلال إشاداته بمؤلفاتي وتأكيده بأنه ما وقف على كتاب لي إلا ورأى فيه ما هو جديد، كما أنه كان دائما يشيد ببعض مؤلفاتي ويثني عليها أمام الآخرين، ونقل لي أكثر من واحد ومن بينهم سماحة الشيخ إبراهيم الرضي أنه كلما التقى بالعلامة الفضلي ذكر له كتاب الإمام الجواد وأثنى عليه، وأشاد به.
3- وجمعني ذات مرة لقاء به إذ تشرفت بزيارته في بيته مساء يوم السبت (ليلة الأحد) 6 جمادى الآخرة 1419هـ، فسألته قائلا: أرى سماحتكم دائمًا تشيدون بمؤلفاتي في تقديماتكم، ولأنني أعلم أنكم تدعمون الشباب وتشجعونهم بكل الوسائل والأساليب، ومن ذلك تحفيزهم وتجيعهم على الكتابة من خلال تبنيكم لهم وتقديمكم لمؤلفاتهم، فاسمحوا لي أن أسألكم بصراحة: هل تقدمون لي تشجيعا، أم عن قناعة؟
فكان جوابه: أنت ممن أرتاح للقراءة لهم، وأكون مطمئنًا وأنا أقدم لمؤلفاتهم، وإذا واصلت فسيكون لك مستقبل جيد جدًّا في عالم الكتابة والتأليف.
فكان هذا الجواب خير محفز ومشجع للمواصلة والاستمرار، ولذا فأنا أرى في تأليف هذا الكتاب الاعتراف بالفضل لأهله، ورد ولو لبعض أفضال سماحته علي.
4- وأتذكر في أمسية أقامها منتدى رؤى عن سماحته، إن لم تخني الذاكرة فقد كانت حول (رؤية سماحته حول مد الجسور بين الجامعة والحوزة) وكان ضيفها الشيخ الدكتور محمد جواد الخرس، والشيخ محمد العباد، وكنت من المتشرفين بالحضور والمداخلة، مصطحبًا معي بعض النسخ من كتابي (في رحاب الإمام الجواد) الذي قدم سماحته له مقدمة ضافية، لأهديه بعض الحاضرين، فكان مما قلته في مداخلتي: كم تمنيت لو أن هذا الكتاب طبع ووزع في حياة العلامة الفضلي.
وحقيقة أقولها الآن في هذا الحوار: إن أمنيتي أكبر بأن يكون كتاب النقد هذا قد تم تأليفه وطبعه ونشره في حياته رحمه الله تعالى، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، والحمد لله على كل حال.
5- أضف إلى هذا ما أشرت إليه من أن الكتاب جديد في بابه، ولا أقلّ من إنني لا أدري إن كان هناك من سبقني إليه.
6- إضافة إلى أنه غني وثري في مواضيعه، رغم ما يمكن تسجيله عليه من ملحوظات لا يسلم منها -عادة- لا كاتب ولا كتاب.
7- السرعة في إنجازه رغم كبر حجمه، وكثرة صفحاته، وتنوع مواضيعه ومطالبه، وكذا ما هو موجود لي فيه من بصمة خاصة وواضحة، إذ لم أكن مجرد ناقل، بل كنت أعرض وأحلل وأشرح وأضرب أمثلة، وأقدم نماذج…فهو جهد كبير أخذ مني الكثير.
كل هذا يجعل لهذا الكتاب قيمة ومكانة خاصة، وإني لسعيد جدًّا لأن إدارة آراء وأصداء اختارت هذا الكتاب دون غيره ليدور حوله هذا الحوار، الذي آمل ألا يكون مملًا، وأن أكون قد وفقت فيه ولو بعض التوفيق.

*صعوبات التأليف*

-هل واجهتك صعوبات معينة أثناء التأليف وكيف تغلبت عليها؟

*طبيعي أن تواجه الكاتب بعض الصعوبات، وتعترض طريقه بعض العقبات، وأظن أنني في تأليف هذا الكتاب واجهت صعوبتين كبيرتين:
الأولى: عدم وجود مصادر تعينني على البحث، كون الكتاب لا يتكلم عن النقد بصورة عامة، وإنما عن المنهج النقدي عند العلامة الفضلي، وهو ما لم أجد كتابة فيه أو عنه كما أشرت.
الثانية: ضيق الوقت ومحاصرته، إذ يجب أن أفرغ من التأليف والكتابة في مدة لا تتجاوز ستة الأشهر، أيضًا كما أشرت.
وساعدني على التغلب على هاتين العقبتين أو الصعوبتين الخبرة الكتابية الطويلة، وسائر ما ذكرته في جواب السؤال الخامس.
وبالمناسبة: فإن لذة البحث إنما هي فيما يواجهه الباحث من الصعوبات وتمكنه من التغلب عليها، لأن هذا يشعره بعظمة إنجازه، ويدربه عمليًّا على القدرة على تخطي العقبات، ويعلمه كيفية التغلب على الصعوبات حتى في حياته العامة.
فيما يتعلق بهذا الكتاب الذي يدور هذا الحوار حوله، يمكنني القول أن من دواعي سروري وسعادتي به أنني أنجزته في هذه المدة الوجيزة رغم كبر حجمه، وتنوع بحوثه ومطالبه، كما أن عقبة عدم وقوفي على أية كتابة في هذا الموضوع جعلني الآن أشعر أو آمل أن أكون سباقًا في هذا الكتاب، وأول من كتب عن هذا الجانب في شخصية علامتنا الفضلي رحمه الله تعالى، ليكون كل من يأتي بعدي عالة عليّ.
وهذا شعور له قيمته وأهميته من غير شك، رغم ما يمكن أن يكون في الكتاب من هفوات، وما يمكن من تسجيله عليه من ملحوظات بسبب هذه السرعة، وكذا عدم وجود المصادر المعينة على تأليفه.

*الفضلي والنقد الموجه له*
وفي جانب من المداخلات طرح الأستاذ خليفة بن أحمد السؤال التالي:
-من خلال علاقتك ومعرفتك بسماحة الشيخ الفضلي: كيف تعامل سماحته مع النقد الموجه له؟

*إن النقد الموجه لسماحة العلامة الفضلي ينقسم إلى قسمين:
الأول-النقد البناء:
وهو النقد الموضوعي الذي قد يختلف مع سماحته في بعض الآراء، ويناقش بعض أطروحاته ويبين ما فيها من اشتباهات، ويسجل ما لديه عليها من ملحوظات.
وهذا النوع من النقد كان سماحته يرحب به، ويستقبله بسعة صدر بغض النظر عن اتفاقه من اختلافه معه، وذلك لإيمانه بمشروعية النقد، وأنه حق مكفول للجميع، ولقناعته أن النقد يكسر الجمود المعرفي، ويساهم -بقوة- في ثراء الفكر الإنساني، وله الدور الأكبر والأثر الأعظم في تقدم العلوم وتطورها في مختلف الحقول والميادين.
ومن شواهد تقبله للنقد الموضوعي وترحيبه به أنه قال في جواب سؤال طُرِح على سماحته عن كيفية التفريق بين النقد والغيبة: (إن الأديب يطرح فكرة وينتقدها ولا ينتقد الأديب في حد ذاته، وهكذا تنقد القصيدة ولا يعني ذلك نقد الشاعر)
ثم ضرب مثلًا بما قيل في نقد أطروحاته فقال: (لو أردت أنا أن أجمع ما كُتب عني من نقد في المجلات والكتب والصحف لخرج من ذلك مجلدان أو ثلاثة، وهذا ليس معناه أن هؤلاء جاؤوا ليضعوا من مكانتي، أو أنهم يريدون تجريحي، إنما نقدوا الأفكار التي أطرحها، وهذا من حقهم، ولا يحق لي أن أمنعهم من ذلك، وإذا اكتشفوا خطأ فلابد أن أشكرهم عليه).
كان سماحته يصف مؤلفاته أو بعضها بأنها مجرد (محاولات علمية متواضعة) ويدعو الآخرين لنقدها وتقييمها ليستفيد من ذلك متى أعاد الطباعة، ومن أمثلة ذلك قوله في ختام مقدمته لكتابه “دروس في فقه الإمامية”: (…توخيت من هذه المحاولة العلمية المتواضعة أن تنضم إلى محاولاتي السابقة التي قدمتها على شكل مقدمات للدرس الفقهي العالي، ليكون هذا الكتاب الخاتمة في تشكيلة الدروس الشرعية.
وإني لأرجو من العلماء والأساتذة المعنيين بالدراسات الفقهية تقويم أوده، وتصويب خطئه، لأفيد من تصحيحها عند معاودة النظر)، وكذلك قوله في ختام مقدمة كتابه “أصول البحث”: (…لا يعدو أن يكون عملي هذا أن يكون محاولة متواضعة رادت المجال، والرائد قد يخطئ، ولي كل الأمل في الأساتذة المعنيين أن يصوبوا الخطأ، ويصححوا الغلط)

الثاني-النقد الهدام:
وهو النقد الذي يتجاوز الفكرة إلى النيل من المفكر، ليوجه إليه الاتهامات، ويصوب نحوه الطعنات، فينال من شخصيته أو تدينه وعقيدته…
ومثل هذا النوع من النقد كان العلامة الفضلي يقابله بالتجاهل وعدم الرد، ليس عن عجز وعدم قدرة، وإنما لأنه يقدم المصالح العليا على الدنيا، ويحرص على حفظ الوحدة الاجتماعية والإسلامية أكثر من حرصة على حفظ شخصيته ومكانته.
ومن شواهد حرصه على المصلحة الإسلامية، وحفظ المجتمع الإسلامي من الفوضى والانشقاق، أنه كان ضد الحوارات العلمية والدينية العلنية، خصوصًا فيما هو من اختصاص العلماء والمتمين، ولا شأن لعامة الناس به، ويرى أن المكان الصحيح لتلك الحوارات هو الأورقة العلمية من دينية كالحوزات، أو أكاديمية كالجامعات، وله عدة تصريحات في ذلك بعضها ذكرته في الكتاب، ولولا أنني لا أريد الاطالة أكثر مما أطلت وإلا لنقلت بعضها في هذا الجواب.
وأما شواهد تجاهله لما يوجه إليه من سهام النقد غير الموضوعي حرصًا على المصلحة العامة، وقناعة بعدم ضياع الوقت في الجدال، وتأكد من أنها لن تؤثر على شخصيته، فأيضًا كثيرة، وقد أشار البعض إلى ذلك، كالسيد كاظم باقر الناصر في الصفحة (49) من كتابه (في مدرسة العلامة الفضلي) بقوله نصًّا: (لم يكن -يعني العلامة الفضلي- من النوع الذي يهبط إلى مستوى الاستفزازات الهدامة، بل كان ماضيًا في طريقه بلا هوادة، لم ينل منه الوشاة ولا المغرضون، بل كان يربأ بنفسه عن الخوض فيما لا ينفع…
وفي محضره أتذكر أن البعض اشتكى عنده من إساءة البعض لسماحته في غيبته، وفي محضرهم، فأوصاهم بالسكوت وعدم الرد عليهم، وقال: لو نقص من وزني غرام واحد فردوا عليهم)
وفي الصفحة (46) من (العلامة الفضلي يفتح أوراقه للحوار) سأله الأستاذ حسين منصور الشيخ عن سبب عدم رده على ما يوجه إليه من طعون واتهامات، فكان جوابه نصًّا: (لأن الرد يحقق غاية المغرضين في خلق الفتن والانشقاق داخل الصف الإسلامي)
والحقيقة إن سماحته لا يرد، ولم يكن يسمح لتلك الطعون أن تجعله يستسلم للعاطفة، أو تمنعه من إنصاف حتى من نال منه، بل كان يحرص على وضع الأعذار له.
وعلى المستوى الشخصي فقد كنت بمعية مجموعة من الشباب في مجلسه، فسأله أحدهم عن طعن وُجِّهَ إليه منذ مدة قريبة، وسأله عن الموقف الذي يجب اتخاذه حيال ذلك، فكان مضمون جوابه: (لقد تواصل معي الكثيرون من داخل المملكة وخارجها متعاطفين معي، ويسألونني عمّا ينبغي اتخاذه من موقف، فأوصيتهم جميعهم بالصمت وعدم الرد، حتى لا نضيع أوقاتنا في جدل عقيم، ولا نكون سببًا في شق وحدة الصف بين أبناء المذهب الواحد، ونحن الذين ندعو إلى الوحدة مع جميع الطوائف والمذاهب)
وإلى هنا لم أستغرب من جواب سماحته، ولكن ما جعلني أتوقف متفكرًا متأملًا، ومكبرًا مشيدًا، هو تعقيب سماحته بقوله بعد أن نقل لنا ما نقل: (أنا أعرف صاحب هذا الكلام معرفة شخصية وكاملة، وأشهد له بالإيمان والتقوى، ولكن قال ما قال انطلاقًا من تكليفه الشخصي كما شخصه ورآه، فلا يصح أن نلومه عليه!)
الفضلي -في الحقيقة- ليس هو الدكتور، أو العلامة، أو الكاتب، أو الأستاذ، أو ما شابه ذلك، وإنما الفضلي هو (الإنسان) وكفى.

مسك الختام

ثم ختم الربيح الحوار بكلمات الشكر التي وجهها للضيف ولإدارة الملتقى، وعلى عادة إدارة ملتقى آراء واصداء ختمت الحوار بتقديم بطاقات الشكر للضيف الكريم الشيخ علي عساكر ولمدير الحوار الأستاذ عيسى الربيح ولمنسقه الأستاذ عقيل العليوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى