أقلام

سكان المهجر المُميزون

أمير الصالح

مع انفراج أزمة كورونا جدد البعض عهدًا بالخروج من كهفهم الحصين، لكي نعرف كم لبثنا من سنين بعد أن احتمينا من مرض كورونا واعتزلنا العالم الخارجي. وكنت أحد أولئك الذين انطلقوا بالسفر لمناطق عدة بعد انفتاح سماء الطيران. فقد زرت بعض المدن الأوربية للمرة الأولى، وقمت أيضًا بزيارة بعض المدن التي زرتها أو عملت بها قبل ٢٣ عامًا خلت. ولاحظت فروقات شاسعة لأحوال بعض المغتربين العرب في بعض المدن الأوربية.
كان في السابق -على حد اطلاعي- معظم ابناء الجاليات العربية في تلكم المدن الأوربية شبه منبوذين ومهمشين، ويُنعتون بأفضح النعوت، وتهدر كرامة البعض منهم، وتتاح لهم فرص قليلة للعمل في وظائف متدنية بأجور بخسة، ويوبخ البعض علنًا لعدم فهمهم للأعراف الاجتماعية، وتحتقر معتقداتهم الدينية من قبل منتسبي اليمين المتطرف. ومازالت تطلق حلقات برامج تلفازية كوميدية على تلكم الأقليات، وإن كانت على مستوى أفراد أو جماعات أو بعض القنوات التلفزيونية الخاصة. وكان عدد ليس بالقليل من الأوربيين وبعض البرلمانيين يومذاك ينعتون اللاجئين والنازحين والمهاجرين العرب بأنهم مجموعة متسولين كسالى يأخذون الإعانات الاجتماعية (V V V ) دون المساهمة في نمو اقتصاد البلاد.

كنت ومازلت أتابع بعض الإنتاج الفكري والثقافي لأبناء الاقلية العربية في أوربا عبر شاشات DW وRTL ومونت كارلو وFrance24 وBBC العربية، وأتابع إصدارات بعض المقالات والكتب التي تثير بلبلة في وسط أبناء الجاليات العربية الإسلامية، وكان آخرها -حسب معلوماتي- كتاب صدر العام الفائت لفتاة مسلمة تركية الأصل – هولندية الجنسية نزعت حجابها وأصدرت كتابًا بعنوان “ Ik Ga Leven “ وترجمته “سأعيش” تعرض رحلتها نحو نزع الحجاب والتهكم على عادات مجتمعها في الغربة. ومع كثرة الإطناب وتدني جودة السرد للكتاب، إلا أنه لقي شهرة واسعة وحفاوة بهولندا من قبل البعض حتى حاز مرتبة أعلى كتابٍ مبيعًا في العام الفائت best seller بهولندا. ومن غرائب الصدف أنه في إحدى رحلاتي بين المدن الإيرلندية، رأيت الكتاب ذاته بين يدي امرأة هولندية متقدمة في العمر تقرؤه. وكانت المرأة ذاتها الهولندية وزوجها جالسين مقابل مقعدي في القطار. تعرفت عليهما وأفصحت المرأة بأنها كانت تعمل ممرضة في إحدى مدن دولة خليجية قبل ثلاثين عامًا.

بعد جائحة كورونا قمت بصحبة أحد الأصدقاء الأعزاء بزيارة عدة مدن أوربية في جنوب ووسط وشمال القارة الأوربية، مررت ببعض المطاعم والمحال التجارية والسياحية في وسط بعض المدن الأوربية الغربية مثل أمستردام، وباريس، وجنيف، ومونتي بلييه وخنت، فوجدت ما أثلج صدري في أداء البعض من الأقليات العربية المسلمة اقتصاديًا، ومساهمتهم الفعالة بشكل إيجابي ملموس في أنشطة اقتصادية وتجارية متعددة. وفي الوقت ذاته شاهدت بأم عيني تزايد عدد المحجبات. فهناك مجموعة من شباب الشمال الإفريقي، والمغرب العربي، وبلاد الشام، والعراق وحديثًا اليمن برزوا في تقديم الطعام المغربي والعربي حتى وصل بعض تلك المطاعم حدًا من الشهرة لا بأس به في الأوساط الشعبية للسكان الأوربيين. ونجح البعض من أبناء الجالية العربية في تجارة اللحوم، والملابس، والأجهزة، والطبابة، والمحاماة، والهندسة. وبناء على النمو في بعض قطاعات الأعمال التي يملتكها المغتربون العرب، استقطبوا ووظفوا بعض الأوربيين من دول عدة مثل البرتغال، وهولندا، وأكرانيا، للعمل معهم كموظفين رسميين!

هكذا نماذج من الشباب العربي الكادح، والمثابر، والذكي، والفعال، والنشيط، والعصامي في دول المهجر، في شرق الأرض وغربها جدير أن يبادر هو في كتابة سيرته أو تُؤلف في حقه عدة كتب بعناوين ملهمة ومحفزة وداعمة. وكذلك النساء المحجبات جدير بهن كتابة يومياتهن للوقوف على التحديات التربوية، وأساليب الحفاظ على الأسرة في ظروف متنوعة الاتجاهات. حتمًا لا أعلم مدى تفاعل القراء الأوربيين لهكذا إصدارات للكتب إن ولدت على أرض الواقع في أوربا أو الامريكيتين أو الشرق الأقصى، ولكن الحد الأدنى المتيقن لهكذا كتب أن أصدرت، هو توثيق مراحل تاريخ الإخوة/ الأخوات العرب في ديار مهجرهم وغربتهم، لتعطي صورة واضحة عن يومياتهم وكفاحهم من أجل لقمة العيش الكريمة، وما آلت إليه أمورهم الأسرية، وسبل نجاح كل فرد عصامي منهم، والدروس المستفادة المدونة من قبل كل فرد منهم في التوازن بين الطموح الشخصي في صنع المال، والرباط الأسري، والهوية الدينية، والنجاح في الحياة، والتأثير بالمجتمع الجديد وخطط الطريق التي تبنوها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى